أجرى فريق #صالون_سوريا، دورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة الحساسة...
تدريباتنا
ورشة تدريب صالون سوريا
يعلن فريق #صالون_سوريا، التحضير لدورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة...
تكمنُ مأساة أحمد برقاوي، بصفته فيلسوفاً عربيّاً معاصراً، في أنّه يتحرّك فوق أرضٍ تنهار تحته من كلِّ جانب، فهو صاحب تجربة فلسفيّة عميقة لها أبعادها الشخصيّة والأكاديمية والثقافيّة؛ لكنَّ هذه التّجربة لم تكن مُقْنِعة له على الإطلاق. إذ إنَّ فكره يتأسَّسُ رؤيويّاً ورؤياويّاً في آن على حدْسٍ أو استبصارٍ عميق لحقيقة “الأنا”. وهذا “الأنا” ليس نموذجاً يُختزلُ فيه النّوع الإنسانيّ، كما هو الحال بالنسبة إلى الإنسان الأعلى عند نيتشه، أو الأنا المتعالي عند هوسِّرل أو الدازاين عند هيدغر وإلى ما هنالك.
إنَّ الأنا الذي يكتشفهُ برقاوي في أعماقه هو أنا جريح، وعوضاً عن أن يرتقَ هذا الجرحَ يسعى جاهداً من أجل أن يزيده اتِّساعاً؛ لأنّه يريدُ من أناه أن يزداد نزيفاً كي يزداد تطهُّراً؛ لذلك يتحوَّل موقفه من فلسفة تؤكِّد الأنا في مواجهة العالم توكيداً فارغاً، إلى فلسفة خلاصيّة ترمي إلى تقويض كلّ ما يُسهم في تكوين هذا الأنا؛ ذلك أنَّ برقاوي يصدر عن معرفة كاشفة، بالتُّراث، الذي كوَّن وعي الإنسان العربيّ المعاصر، فهو يفهمُ ما أفضى إليه هذا التُّراث من تعيُّنات معرفيّة للثقافة العربيّة، قدّمت أنماطاً من تفكير العرب بعامَّة وكثير من مثقَّفيهم بخاصّة، تنبجس ينابيعُها من القرون الأولى من الهجرة، وتلاقحت هذه الأنماطُ أنفسها مع صدى حداثة وتكنولوجيا الحضارة الغربيّة، فجاءت النتيجة، وهي المُتَفقِّه الحداثويّ التكنولوجيّ، أي الإنسان العربيّ الراهن، الذي هو ضحيّة تراث ينزعه من لحظته الراهنة ليرمي به في غياهب التاريخ، وحداثة–تكنولوجيّة غربيّة تُملي عليه كيفيّة غزو الفضاء وتفتيت الذّرة واستباق المستقبل.
ولقد استطاع برقاوي أن يُدرك عُمق المأساة، فأناه ممزّق بين النكوص إلى تراث لم تَعُدْ تُجدي مقولاته والطُّفور إلى حداثة –تكنولوجيّة غربيّة ليس ابن جِلدتها؛ بل هو دخيل عليها. ومن هنا لم يقتنع بتأسيس نظرة جديدة إلى العالم تنبثق من نقد التُّراث على طريقة أدونيس والجابري وأركون وغيرهم؛ كما رفض رفضاً قاطعاً أن يُطبِّق المناهج الفلسفيّة الغربيّة على الثقافة العربيّة على طريقة وجوديّة عبد الرحمن بدويّ أو وضعيّة زكي نجيب محمود أو شخصانية عبد العزيز الحبابي وغيرهم. ولئن كان برقاوي الشَّاب شغوفاً بالماركسيّة في بدايات حياته الثقافيّة؛ إلا أنّه أخذ على الماركسيين العرب كافّة وفي مُقَدّمتهم صادق جلال العظم –كما تُفصح عن ذلك كتاباته المتعدّدة-أنّهم كانوا معنيين بنقد تفسير الظواهر، ولم تكن الظواهر أنفسها موضوعاً لتفكيرهم في أيّ وقت.
كانت نقطة البَدْء الفلسفيّ عند برقاوي هي الأنا العربيّ المنكسر أو المهزوم، هذا الأنا الذي هو –في حقيقته الأصليّة-يُشبه كومة من الرُّكام خلّفتها عصور استبداديّة سابقة، وأنظمة سياسيّة معاصرة واحديّة-قمعيّة، واستسلام شبه كامل أمام الغرب الأمريكيّ-الإسرائيليّ، ودعوات سلفيّة جهاديّة ليقتل النّاس أنفسهم بأنفسهم، وانهيارات اقتصاديّة تُذَكِّر بأزمنة الطّواعين والمجاعات.
كان لا بدّ بالنسبة إلى برقاوي، وهو لا يجد أيّ أرض صالحة لتأسيس بنائه الفلسفيّ أن يُشيِّدَ هذا البناء على أنا هو نفسه، لقد كانت صرخته الفلسفيّة مدويّة، فكتابه “الأنا” لا يقول فيه أكثر من كلمة بسيطة وعفويّة يستخدمها كل واحد منّا يوميّاً، وهي “أنا”.
لقد أراد بتوكيده لأناه وحدَه الإنباه إلى ما هو مُهمل ومَنْسيّ ومنبوذ على المستوى الثقافيّ العربيّ، وهو هنا لا يريد الرجوع إلى الأنا من أجل تكريسه بطريقة نرجسيّة خالية من المعنى؛ بل يريد الرجوع، لأنّه لا يمكن الركون إلى أيّ شيء سوى هذا الأنا المنكسر.
أراد برقاوي أن يضع هذا الأنا عينه في مواجهة النُّخبة العربية، دينيّاً وسياسيّاً وثقافيّاً واقتصاديّاً، ليقلب لهذه النُّخبة ظهرَ المِجَنّ، او بالأحرى ليكشف عُرْيها وتهافتها وأجنحتها الكاذبة، فهذه النُّخبة دفعت بالإنسان العربيّ المعاصر إلى “قعرِ الحضيضِ الأوضعِ”، فقتلته وسجنته وشرّدته وهجّرته ومزّقته على جميع المستويات؛ لذلك لفظة النُّخبة هي هنا -في حقيقتها-ذات مدلول مُغاير لمعناها القاموسيّ، فهي لا يمكن أن تدلّ إلا على الرَّعاع الذين ساقوا البلاد والعِباد إلى الهلاك.
ينبثق شُعاع ساطع من أنا برقاويّ، شُعاع يُريد من هذا الأنا المُنكسِر أن يتحوّل إلى ذات، فجاء كتابه “أنطولوجيا الذّات” إكمالاً بارعاً لكتابه “الأنا”؛ ذلك أنّه يَنْشُد إحداث نُقلة في وعي الإنسان العربيّ من أجل أن يستحيل من أنا إلى ذات.
نفهم من كتابه “أنطولوجيا الذَّات” أو علم وجود الذَّات، أنّه استخدم الأنطولوجيا ontology وهي علم الوجود بما هو موجود، من أجل غايات واضحة بالنسبة إليه، فهو لا يهيب بهذا المصطلح ذي الأصل اليوناني، من أجل أن يستعين به، من أجل كشف معنى وجود الذّات الإنسانيّة؛ بل أُرجِّح أنّه استخدم هذا المُصطلح ليزيد المأساة عُمقاً، فتاريخ الأنطولوجيا الغربيّة بدءاً من برمنيدس (نحو 540 ق.م-480 ق.م) وصولاً إلى مارتن هيدغر (1889 م-1976 م)، وهو تاريخ محاولات الكشف عن حقيقة الوجود. إذ الأنطولوجيا هي العلم المَعني بتقديم إجابة عن السؤال الفلسفيّ الأكثر جوهريّة وهو: لماذا كان ها هنا وجود ولم يكن بالأحرى عدم؟ وجاءت الأجوبة عن هذا السؤال من قِبَلِ الفلاسفة الغربيين متنوِّعة ومتباعدة ومتناقضة إلى أقصى حدّ؛ لكنَّ برقاوي لم يخض في كتابه سجالاً مع تاريخ الفلسفة الغربيّة، إذ إنّه في ذلك لَمِنَ الزَّاهدين؛ لأنّه يعرف معرفة تامّة أن تاريخ الفلسفة الغربيّة مُغلق على نفسه، وغير قابل لإعادة النَّظر، لا لأنّه حَسَمَ مشكلة حقيقة الوجود؛ بل لأنّه تاريخ بلغ نهايته، فاكتمل، وأيّ نقاش فلسفيّ يأتي في مساره، هو نقاش خارج سياقه الحضاريّ. وهنا على وجه التحديد تأتي أهميّة برقاوي فهو لا يريد في “أنطولوجيا الذَّات” أن ينكشف معنى الوجود في ذاته، كما أراد هيدغر أن ينكشف معنى الوجود في مقولة الدازاين؛ ذلك أنَّ برقاوي كان شغوفاً إلى أقصى حدّ بتبيان أنَّ الوجود الحقيقيّ هو وجود الذَّات، وهدفه من وراء ذلك هو تقويض الوجودات الأخرى كافّةً التي تُريد العودة بهذه الذَّات إلى حالة الأنا المُنكسر، وحتى الفلسفة الغربيّة نفسها تنضاف إلى الأسباب التي أدّت إلى تغييب الذَّات الفلسفيّة العربيّة، هذه الأسباب التي يُمكن إرجاعها إلى انهيار حضاريّ تامّ على جميع المستويات، إلا أنَّ السبب الرئيس هو الأنظمة السُّلطويّة الغاشمة التي تسعى إلى تفريغ الذَّات من مضمونها الأنطولوجيّ البرقاويّ من أجل حشوها بالقشّ، لتحويل الإنسان إلى دُمية.
أراد برقاوي وضع أنطولوجيا الذَّات من أجل مواجهة أيديولوجيا السُلطة القائمة على تكريس الدُّمى، هذه الدُّمى التي تتكلّم حينما يأذن السُّلطان، وتخرس حينما يأمر السُّلطان، وتفتك ببعضها بعضاً مرضاةً للسُّلطان. وقسْ على ذلك في كلّ شيء، تحديداً في العلاقة مع الغرب الأوروبيّ، فهذه الدُّمى أنفسها تُكَفِّر الغربيين؛ لكنها تتقمَّص حضارتهم، وتلعنهم غير أنّها تدين لهم بكلّ أسباب الحياة المدينيّة، ولذلك فتح برقاويّ أبواب الكينونة الموصدة في وجه الإنسان العربيّ من أجل أن يُحقِّق له نُقلة نوعيّة في نظرته إلى نفسه، نُقلة تحوِّلهُ من أنا منكسر إلى ذات.
تحضر في شخصيّة أحمد برقاويّ المعاناة الوجوديّة للإنسان الفلسطينيّ، أي تحضر فيه روح الصُّعود إلى الينابيع، إنّه صعود لا يتوقّف، من أجل استعادة الذّات، أعني الذَّات المجذوذة الصِّلة بأرضها؛ ولكن لا ترمز الأرض في فكر برقاوي إلى أرض مُعيّنة، بل ترمز إلى كلّ أرض سليبة في جميع المعاني.
إنَّ أنطولوجيا الذَّات في فكر برقاوي هي أنطولوجيا الأرض، فالذَّاتُ أرضاً والأرضُ ذاتاً، هي جدليّة حائرة في حنينها الكيانيّ العنيف إلى نداء الأعماق، ومن شدةّ شغف أحمد برقاوي بهذا النّداء، أصبح يصيح مثل الحلاج:
طلبتُ المُستَقرَّ بكلِّ أرضٍ فلم أرَ لي بأرضٍ مُستقرّا
*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”
مواضيع ذات صلة
مواضيع أخرى
تدريباتنا
ورشة تدريب صالون سوريا
أجرى فريق #صالون_سوريا، دورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة الحساسة...
ورشة تدريب صالون سوريا
يعلن فريق #صالون_سوريا، التحضير لدورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة...