تدريباتنا

أسامة إسبر: ثلاث قصائد

بواسطة | فبراير 24, 2021

مدينة بيضاء

 

١

هديرُ محرّكٍ يغتصبُ الصمتَ عند بزوغ الفجر.

تصفّ سيارةٌ في مرآب البناية

ثم تُطفئ محركها فتنطفئُ معه بقايا الليل.

 

٢

أصواتٌ حادةٌ للنوارس

تخرجُ من حنجرة الصباح

وتقطّع الصمتَ إلى شرائح

لا تستطيعُ الآذانُ مَضْغها

وليس لها مترجمون.

 

٣

أسمعُ في الأنباء عن آخرين

 يرتجفون من البرد في الخيام.

صاروا آخرين لأنني لستُ ذاتاً

بل مجرّد صوت هارب من صداه

أو ضيّعتْهُ الحنجرة.

 

٤

يخرج ظلي أحياناً من المجهول ويواكبني

يسير معي كأنه صديقي الوحيد.

حين يأتي مرة ثانية

سأتشبث به وأمنعه من الرحيل

سأدعوه إلى كأس

وأجعله نديمي.

 

٥

نعم، أحاول أن أُنْزلَ الدلو في البئر

رغم أن قاعها بعيد

وظمأي لا صبر له.

لكنني سأنتظر رشفةَ الماء المنقذة

لمجيئكِ في الصباح كي تفتحي النافذة

وتحرّري الضوء

وتمنحيه أفقاً.

 

٦

لا تقدموا لي النصائح حول

 ما الذي يجب فعله.

ستُمْلي الحياة عليّ كما أمْلتْ عليكم

ستمنحني حكمةً كي أرددها

لكنني لن أدوّنها ولن أنصح أحداً بتطبيقها.

 

٧

نعيش في عصر الأوبئة

في عصر الوجوه المكممة

والإنسانية المكممة

والصداقات المكممة

والقصائد والروايات المكممة

والأفكار المكممة

حتى الأشياء مذعورة

وقد يأتي يومٌ

تصير فيه الكمامة وجهاً.

 

٨

أحياناً يبثّ آخرون رسائل تعبّرُ عنهم

يتركون إشارات وعلامات

أننا لم نمرّ هنا

أو أننا مررنا ولم نر شيئاً

أو أننا على الطريق نسير لوحدنا

والمدينة القادمة ستفتح لنا أبوابها

ولن تحتفي إلا بنا.

على هذا الطريق الذي

يسير عليه الجميع

كلٌّ بقدميه أو بقدميْ غيره

أفضّل أن أتابع سيري

وأن أعتبر المسألة

 كنزهة على الشاطئ لتأمّل الغروب.

 

٩

أحتاجُ إلى مسافة مع نفسي

كما مع الآخرين،

كي أتحرّر من إملاءاتها.

ولو تيسّر لي لهربتُ منها

لكنها تتنبه إلى ذلك

وتُحْكمُ مصاريع الأنا.

 

١٠

أحياناً تأتي صورٌ إلى ذهني

من طفولتي في قريتي

للدروب حين تتحوّل إلى جداول

وللحقول حين تكتسي أطرافها بنباتات برية

وللنبع حين يقوى ويشتدّ ماؤه ويفيض

في موسم الأمطار.

ما الذي أحتاج إليه كي تنبع لغتي وتتدفق،

كي تخضرّ صفحاتي كالحقول أو تتفتّح كالأزهار؟

ما الذي أحتاج إليه غير الهواء، وأن أتنفّس

وتكون الأبواب والنوافذ مفتوحة حولي؟

 

١١

حين جَلستُ في مقعد الطائرة

وارتفعتْ ثلاثين ألف ميل فوق المحيط

شعرتُ بوطأة المقعد وضيقه.

لم أفكّر إن كان الأفق سينفتح أو سينغلق

أو بأنني سأخرج من باب المطار

 إلى ذراعين مفتوحتين

أو إلى باب مغلق.

إلى الآن أشعر أنني في المقعد فوق المحيط

أقرأ صحيفة وأواصل رحلتي

ولا مطار في الأفق.

 

١٢

لا تقلْ لي عدْ

لا تقل لي ابْق،

اتركْني، كهذه الريح

التي تهبّ ثم تهدأ

تتحوّل إلى عاصفة

ثم تسكن كجدار

دعْني أتقدم كموجة

وأتلاطم بصخور ذاتي

أو كنبعٍ لا يعرف

 من أين أتى وإلى أين سيذهب.

 

١٣

مرت أعوامٌ وسْط الثلوج

على شاطئ بحيرات

تتجمّد وتذوب منسجمةً مع دورة الفصول.

وفي وسط المدينة،

تحت جسر شيكاغو الحديدي

كان النهر يتجلّد ويتكسّر

ورأيتُ مقالع الجليد

في مجراه والبرد ينقل الألواح على كتفيه ويبني

مدينة بيضاء.

وفي هذه المدينة سميتُ نفسي ابن الثلوج،

 طفلها الذي يكبر في حدائق البياض

ثم يذوب أحياناً من الشوق.

 

١٤

تتعرى الأشجار في شيكاغو

تتوحّد مع لون السماء.

لا تصدّقُ أن خريفاً مرَّ من هنا

لأن الخضرة تتوهّج

في عُرْي الأغصان.

 

صوتي

 

١

اليوم، أدليتُ بصوتي،

بعد أن اكتشفتُ أن لي صوتاً.

 

٢

قبل ذلك كان صوتي طائراً في قفص

قبل ذلك كان صوتي ميكروفوناً محطماً

في مظاهرة فاشلة.

وسبق لي أن رأيته

 يتدلى على حبل مشنقة

حيث تولد الأصوات ميتة

ولا تكفّ مقابرها عن الاتساع.

 

٣

بعد أكثر من خمسين سنة

عشتُها بلا صوت

استيقظتُ كي أكتشف صوتي

 نائماً قربي على المخدة

كحيوان أليف

بعينين مسالمتين

وكانت أصابعي مسترخية في دفء

فروه.

 

٤

اليوم أدليتُ بصوتي

رأيتهُ يستحم بالضوء

وينشّف جسمه بالريح

و يسير بقدمين واثقتين.

 

٥

اليوم

كنتُ محظوظاً ومنكسراً

أنني أدليتُ بصوتي هنا

أنني ندبتُ صوتي هناك

فيما كنت أصافحه

 وهو يغادرني محلّقاً نحو نفسه

بجناحين منتشيين.

 

٦

غداً، حين يصل صوتي في البريد

وتحصيه الأصابع مع أصواتٍ أخرى

سينكمشُ مرتعداً من الخوف،

عارفاً أنه مجرد رقم

في لعبة تجريدية.

لكنه، على الأقل، سيكون سعيداً أنه وُلد

وأنه قادر على قلب الموازين.

 

تثمل الريح

-١-

تَثْمل الريح

أعرفُ ذلك من صوتها

حين يكون مبحوحاً ومتقطعاً

ومن سقوط جسدها الذي يترنّح.

 تلهثُ الريح

كما لو أن دروبها وعرة.

-٢-

في الأحلام

تهب الريح فوق دروب موحشة.

في الخريف

تسرق الريح الثياب الخضراء للأشجار.

-٣-

لا نستطيعُ أن نتمسك بأحلامنا

أو بأوهامنا أو حتى بأجسادنا.

لا نستطيع أن نتمسك بأجساد غيرنا

على طرقات الريح.

-٤-

وحده الجسد

يعرف أن يقرأ الريح.

مواضيع ذات صلة

هاني الراهب متلفعاً بالأخضر 

هاني الراهب متلفعاً بالأخضر 

إحدى وثلاثون سنة من الغياب مضت على انطفاء فارس السرد "هاني الراهب" ومازالت نصوصه تتوهج وتمارس سطوتها وحضورها الآسر على أجيال أتت من بعده تتقرى معانيه وتتلمس خطاه رغم التعتيم والتغييب الذي مورس بحقه على مر الزمن الماضي ومحاصرته في لقمه عيشه بسبب من آرائه ومواقفه،...

الواقعية النقدية لدى ياسين الحافظ

الواقعية النقدية لدى ياسين الحافظ

ياسين الحافظ كاتبٌ ومفكر سياسي سوري من الطراز الرفيع، يعدُّ من المؤسسين والمنظرين للتجربة الحزبية العربية. اشترك في العديد من الأحزاب القومية واليسارية، ويعدُّ الحافظ في طليعة المفكرين التقدميين في العالم العربي، اتسم فكره بالواقعية النقدية، تحت تأثير منشأه الجغرافي...

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

مواضيع أخرى

زكريا تامر بوصلة التمرد الساخرة

زكريا تامر بوصلة التمرد الساخرة

"أكثر قصصي قسوة هي أقل قسوة من الحياة العربية المعاصرة، وأنا لا أستطيع وصف السماء بجمالها الأزرق متناسياً ما يجري تحت تلك السماء من مآس ومجازر ومهازل.. صدّقني الأسطورة أصبحت أكثر تصديقاً من واقعنا المرير" بهذا التوصيف العاصف يلخص الكاتب السوري زكريا تامر (1931) تجربته...

هاني الراهب متلفعاً بالأخضر 

هاني الراهب متلفعاً بالأخضر 

إحدى وثلاثون سنة من الغياب مضت على انطفاء فارس السرد "هاني الراهب" ومازالت نصوصه تتوهج وتمارس سطوتها وحضورها الآسر على أجيال أتت من بعده تتقرى معانيه وتتلمس خطاه رغم التعتيم والتغييب الذي مورس بحقه على مر الزمن الماضي ومحاصرته في لقمه عيشه بسبب من آرائه ومواقفه،...

افتحوا النوافذ كي يدخل هواء الحرية النقي

افتحوا النوافذ كي يدخل هواء الحرية النقي

يصدمنا الإعلام الاجتماعيّ كل يوم بمقاطع فيديو وأخبار حول امتهان كرامة الإنسان في سورية عن طريق استفزازات لفظية وعنفٍ جسديّ يُمارَس ضد أشخاص تصنّفهم الآلة الإعلامية للمرحلة الانتقالية على أنهم من "فلول النظام“ السابق. ولقد سمعنا عن أشخاص تُقتحم بيوتهم...

تدريباتنا