تدريباتنا

الأشجار ضحية اخرى

بواسطة | أبريل 10, 2018

الموارد الطبيعة هي ملك جميع البشر القاطنين في تلك المنطقة والذين سيولدون لاحقاً لذا من حق الأجيال القديمة علينا الإبقاء على الغطاء الأخضر على كامل التراب السوري إضافةً الى المياه الجوفية هذا إذا استثنينا بقية الموارد من نفطٍ  وغيره. سأتحدث في هذا المقال عن  الغطاء الأخضر وما يتعلق به .

التطور يكون دائما بمراكمة الأشياء والمعلومات وتطوير المهارات والحفاظ على الثروات واستهلاكها بحكمة وبحساب. في سوريا كان هناك قصر نظر في استهلاك الموارد منذ نهاية القرن التاسع عشر ونهاية الدولة العثمانية حيث بدأت الفوضى بقطع الأشجار من أجل تسيير القطارات ولم يكن هناك من رقابة على قطع الأشجار بل كان هناك تشجيعٌ وإعفاء من الخدمة العسكرية مقابل كمية معينة من الحطب، الأمر الذي قاد على المدى البعيد، وخاصة بالتوازي مع موجات الجفاف التي ضربت المنطقة، إلى زيادة التصحر على مساحة سوريا وخاصة في المناطق التي تعتبر ذات معدل هطول مطري منخفص. 

أعيد تأهيل بعض المناطق لاحقاً بزراعة مناطق واسعة من الغابات من مختلف صنوف الأشجار الحراجية المثمرة وغير المثمرة وخصوصاً من الأشجار المعمرة كالصنوبر وبدرجة ثانية من أشجار الكستناء في المناطق الباردة كما هي الحال بمنطقتي ضهر القصير بجبل الحلو في الريف الغربي لحمص ومنطقة النبي متى شرقي الدريكيش. وتم تشكيل شرطة حراجية ترافق  تلك الغابات وظيفتها حماية الغابات والحد من أعمال التعدي عليها على مساحة البلد كاملاً . في سنوات ماقبل الحرب بقيت هناك حالات اعتداء على ثمار تلك الحراج وأحياناً على الأشجار، ولكن كان هناك متابعة وملاحقة المعتدين إن لم يكونوا من “المدعومين”.

خلال السنوات الأخيرة ومع انتشار فوضى السلاح وترافق الجهل مع القوة، وتفاقم الحاجات الاقتصادية، بدأ قطع الأشجار بغية التدفئة بدايةً مع غياب مادة المازوت الخاص بالتدفئة ولكن على نحوٍ طفيف، ولكن مالبث أن انتشر القطع العشوائي  وبيع الحطب دون تدخل الشرطة الحراجية خوفاً على نفسها، لأنّ الذي يقطع الأشجار لديه من القوة أكبر بكثير من شرطة الحراج ومستعدٌ للقتل، وهو تسلّح للقتل والخراب أساساً رغم مايطلقه من شعارات مغايرة، ولن يتوانى عن إطلاق الرصاص على أحد. هؤلاء المسلحون الذين لا يقيمون اعتباراً للمستقبل استطاعوا حرمان حتى أولادهم من ثروات البلد معتقدين أنّ تلك الثروات حكرٌ عليهم. من حقنا الاستمتاع بالأشجار (أو  ماتبقى منها) لكن من واجبنا استهلاكها وفق حصتنا وحاجتنا ولنترك للجيل القادم ثروات هذه الطبيعة بما يستحق. كل استهلاكٍ يجب أن يكون باعتدال سواءٌ كان مياهاً جوفية أم بترولاً أم فوسفاتاً وغازاً.

خلال زياراتي الدورية في مناطق سوريا الداخلية والساحلية، لاحظت أنّ منطقة كاملة من أشجار الصنوبر قد تم قطعها بالقرب من ناحية عين حلاقيم، التابعة إدارياً لمنطقة مصياف في محافظة حماة، وعندما تدخل اثنان من شرطة الحراج خرج لهم ثمانية رجالٍ مسلحين ببنادق ليتراجعوا تاركين كل شيء حفاظا على حياتهم.

 في الجزء التابع لمحافظة حماة من الغابة الجميلة في ضهر القصير أيضاً هناك حالات احتطاب  كبيرة جداً في منطقة برشين للأشجار وكادت تقضي عليها (الصورة رقم 1). أسوأ الممارسات كانت في منطقة البادية شرقي السلمية حيث كان المقاتلين يعودون محملين بأشجار اللوز والزيتون بكاملها من مناطق القتال بحجة أنّ ملكيتها تعود لمسلحين معادين. فقدت هذه المنطقة غابات كبيرة في منطقة البلعاس في بداية القرن العشرين،  ثم شهدت عودة تدريجية بعد حملات التشجير وزراعة بعض الأشجار التي تتلاءم مع تلك البيئة والتي تحتاج الى متابعة ومصاريف ليست بالقليلة حتى تستطيع النمو بدون حاجة لدعمٍ مائي غير طبيعي. كان ذلك مع مطلع ثمانينات القرن الماضي وبدعم ٍأوروبي للتقليل من التصحر بالتعاون مع وزارة الزراعة.

الصورة رقم 1: الاحتطاب العشوائي الذي قضى على أشجار الكستناء في منطقة غابات ضهر القصير المصدر، أرشيف الكاتب

على الطريق الواصل بين طرطوس وحمص والذي كان مظللاً بأشجار الكينا العملاقة، يمكن للمرء أن يرى كيف تم مسح بعضها تماماً عن وجه الأرض. تلتقي أحيانا مع هؤلاء وهم يحملون المناشر الآلية علناً ويسحقون تلك الأشجار.كما تمّ التعدي على أشجار طريق تدمر الجديد والذي يحوي على الصنوبر بشكل أساسي وأغلبه من الصنوبر الثمري وإن كان هذا التعدي بصورة أقل بشاعة من الحالات السابقة. أما غابات الساحل والحرائق المفتعلة فيها فليست جديدة ولكن الحرب زادت منها، وتؤلمني رؤية جبال مصياف حيث السواد يلتهم المساحات الخضراء التي أعرفها بمساحاتٍ هائلة. قدّر مدير الحراج في وزارة الزراعة السورية عدد الحرائق الحراجية خلال العام 2016 لوحده بـ 819 حريقاً حراجياً، و2285حريقاً زراعياً في مساحة بلغت 2000 هكتار.

تصدمك رؤية العمليات التخريبية المنهجية التي تعمل على إنهاء الحياة في هذه المساحات الخضراء ولمصلحة من؟ لمصلحة الخراب وزيادة ألم السوريين جراء هذه الأعمال التي تقتل كل حياة ولا تقيم اعتباراً لمستقبل الأجيال القادمة، وكأنّ الحرب تقتصر على الاشتباكات المسلحة والقصف. تلك هي النقطة الأساسية في كل شيء المستقبل واحترام الحياة وبالتالي العمل على مقومات الحياة والتقنين باستهلاك الموارد حفاظا على الأجيال المقبلة. تستطيع الكثير من الغابات ببعض الاهتمام تجديد نفسها وقسم ٌ منها بدأ هذا الربيع بالنمو من جديد في المناطق القريبة من جبال الساحل (الصورة رقم 2). وتبقى المشكلة الأساسية في تلك الأشجار المثمرة التي كانت تغطي مساحات لابأس بها في المناطق القليلة الأمطار، حيث تحتاج إلى سنوات طويلة ومشاريع مستديمة لاستعادة ماخسرناه في بضعة أعوام.

الصورة رقم 2: أشجار الكينا تعود للنمو مجدداً على الطريق الواصل بين حمص وطرطوس بالقرب من قرية خربة الحمام المصدر، أرشيف الكاتب

مواضيع ذات صلة

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

 "كنت أحلم بلوحةٍ تستطيع أن تخاطب بجمالياتها شريحة أوسع من الناس، لوحة تستطيع تجاوز مجموعة الجمهور التي تتكرر في حفل الافتتاح لأي معرض". ربما توضح تلك الكلمات، وهي للفنان نذير نبعة، مدى تبنيه وإخلاصه للفن، الذي كان رفيق دربه لأكثر من ستين عاماً، فهو الفنان الذي...

مواضيع أخرى

فصلٌ من القهر والعذاب: كيف مضى فصل الصيف على سوريا؟

فصلٌ من القهر والعذاب: كيف مضى فصل الصيف على سوريا؟

لم يكتفِ الناس في سوريا من معاناتهم وأوجاعهم اليومية، التي فرضتها ظروف الحرب وما تبعها من أزماتٍ متلاحقة وتردٍ في الواقع الاقتصادي والمعيشي، حتى أتى فصل الصيف، الذي سجل هذا العام ارتفاعاً كبيراً وغير مسبوق في معدلات درجات الحرارة، وكان الأقسى على البلاد منذ عقود،...

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

رغم انتشار ثقافة المطالعة واستقاء المعلومات عن طريق الشبكة العنكبوتية إلا أن ملمس الورق ورائحة الحبر بقيا جذابين للقارئ السوري. ولم تستطع التكنولوجيا الاستحواذ على مكان الكتاب الورقي، أو منافسته. وبقي الكتاب المرجع الأساسي والحقيقي لأي بحث علمي وأكاديمي، ولم يستطع...

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

بقي الريف السوري محروماً من المسرح إلى أن أنشأت مديرية المسارح والموسيقى في وزارة الثقافة ما أسمته "المسرح الجوال" عام ١٩٦٩، والذي بدأ عروضه بنشر الوعي المسرحي في الريف والمناطق الشعبية والنائية. صارت الصالة في كل مكان  والجمهور ضمنها، وكان كسر الحواجز بين...

تدريباتنا