تدريباتنا

الجوع في سوريا

بواسطة | نوفمبر 26, 2019

إن أكثر ما استوقفني في ثورة الحرية والكرامة في لبنان عبارة كررها المتظاهرون في كل المدن اللبنانية: جوعونا، جوعوا الشعب. ووجدت نفسي أنا ابنة اللاذقية محاصرة بصور كثيفة وموجعة بالكاد تتسع لها ذاكرتي من مشاهد الجوع في اللاذقية (وفي سوريا كلها). يكفي أن نعرف أن متوسط دخل الموظف في الدولة السورية هو بين (30 ألف ليرة سورية و40 ألف ليرة سورية) أي حوالي 50 دولاراً في الشهر. من ينظر لطابور الناس يقف لساعات أمام الأفران يدرك مدى الجوع في سوريا، وكي ينتظم الدور تقوم بعض الأفران بوضع لافتات معدنية صغيرة مكتوب عليها: موقف للنساء، موقف للرجال وموقف للعساك . أي أن ثمة شريحة كبيرة من العساكر والجنود السوريين تعاني من الجوع أيضاً وإلا لما خصوها بموقف خاص على كوة الأفران.

وأظن أن الدولة مُقصرة بحق الأطفال إذ يجب أن يكتبوا أيضاً موقف للأطفال لأن حشداً هائلاً من الأطفال السوريين يقفون في طابور رغيف الخبز. ومعظم هؤلاء يفرشون الأرغفة الساخنة – بعد أن يفصلوا الطبقتين على الأرصفة القذرة أو ظهر السيارا ، فلم يعد للنظافة مفهوم في سوريا. الأهم سد جوع المعدة بالخبز. كما أن الموظفين من متقاعدين وعسكريين ومدنيين يقفون لساعات أمام الصراف الآلي لقبض رواتب الاحتقار (رواتب بعض المتقاعدين 15 ألف ليرة في الشهر)، وليس من باب الصدفة ألا تعمل كل الصرافات!! بل معظمها يظل خارج الخدمة ويُشغلون صرافاً واحداً أو أكثر وطابور الشعب السوري يقف تحت لهيب الشمس أو صقيع البرد لساعات لقبض راتب الاحتقار الذي بالكاد يكفي لشراء الخبز، وغالباً ما تتوقف الصرافات عن العمل لسبب لا أحد يعلمه. والشعب المسكين الصابر صبر أيوب يبرر للمصارف توقف خدمة الصراف كأن يقول: تعطلت شبكة الإنترنت أو خلصت المصاري. والبعض تصيبه حالة هستيرية ويصرخ: ما بقا أقدر أتحمل هيدي ثالث مرة أنزل من قريتي لقبض راتبي التقاعدي وتتعطل شبكة الصراف!! الكثير من السوريين تنتابهم حالات هستيرية عصبية بعد انتظارهم لساعات كي يقبضوا الراتب ثم يتعطل الصراف بقدرة قادر ويقول أحد موظفي المصرف للناس ببرود وملل: تعالوا بكرة. ونسبة كبيرة من الشعب السوري تعيش على المساعدات الغذائية من الجمعيات الخيرية التي توزع من حين لآخر ما يُسمى سلة غذائية تضم كيساً من السكر وآخر من الطحين وزجاجة زيت نباتي وأحياناً حليب للأطفال. وطابور السوريين الواقفين أمام أبواب الجمعيات الخيرية ينافس بعدده طابور السوريين أمام الأفران والصرافات. وهكذا يمكن تسمية الشعب السوري بشعب الطابور.

الجوع الذي يعاني منه معظم الشعب السوري فظيع، كم من الأطفال يذهبون إلى المدرسة يحملون مجرد رغيف خبز يسدون به جوع معدتهم، ومن يراقب أسعار المواد الغذائية في سوريا يُصعق كيف لايزال هذا الشعب قادراً على المشي فسعر كيلو اللحم الذي يؤكل والصحي 6000 ليرة سورية للحم العجل و8000 ليرة سورية للحم الغنم، أي أن أعلى راتب يعادل حوالي خمسة كيلو غرامات لحم! ولأن الدولة السورية حريصة أن يأكل شعبها اللحم فقد استوردت أطناناً من اللحم غير معروف مصدره ولا مدة صلاحيته ولا نوعه وسعر الكيلو 1500 ليرة! وقد أكلت منه ذات يوم حين دعتني إحدى الصديقات إلى الغداء وكنت أعلك جيلاتيناً بني اللون مقزز الطعم وأجبرت نفسي أن أبتلعه حفاظاً على مشاعر صديقتي. حتى هذا اللحم الرديء لا يستطيع شراؤه معظم الشعب السوري فما بالك بالفاكهة التي أصبحت من الرفاهيات.

ولا أنسى منظر طفل لا يتجاوز السادسة من عمره يسأل أمه وهو يُشير إلى عربة الكرز: ماما ما هذه الكرات الحمراء فنهرته بقسوة ولم ترد ، وكان سعر كيلو الكرز 1200 ليرة سورية، وسعر أقية الفطر 1000ليرة سورية، وسعر البيضة الواحدة 80 ليرة سورية، أي أن أسرة مكونة من ثلاثة أطفال ويحتاج كل طفل أن يأكل مرتين أو ثلاث مرات بيضتين في الأسبوع ستكلفها مبلغاً عاجزة عنه، لا مجال لذكر أسعار كل المواد الغذائية لكن الجوع قاس ومُذل في سوريا، والجوع والحرمان من البروتينات والفيتامينات والمعادن التي يؤمنها الغذاء الصحي المتوازن يؤثر على نمو الدماغ لدى الأطفال وعلى نموهم الجسدي عدا عن مشاعر الحرمان المروعة التي يعانون منها.

 لم يعد هنالك طبقة وسطى على الإطلاق في سوريا، فنسيج المجتمع السوري إما غنى فاحش (أثرياء الحرب) أو فقر مدقع خاصة بعد الانهيار الإقتصادي والهبوط الفظيع لليرة السورية (اليوروبـ 760 ليرة سورية والدولار بحوالي 700 ليرة سورية)، والمواطن السوري يقبض بالليرة السورية لكن كل السلع التي يشتريها محسوبة بالدولار. يكفي أن أذكر أن سعر علبة الحليب متوسطة الحجم عشرة آلاف ليرة سورية في الصيدليات والحليب بالكاد متوف . سوء التغذية هذا سينعكس أمراضاً جسدية ونفسية خاصة لدى الأطفال>

وما أود ذكره من باب النزاهة المطلقة أن ثمة شريحة كبيرة من المجندين يعانون من الجوع ويقفون بالطابور عند باب الأفران والصرافات الآلية، وكم تأملت بألم كبير شباناً سوريين يلبسون البدلة العسكرية يمشون متعكزين على حمالتين  ليتمكنوا من المشي وتكون عدة أسياخ من الحديد خارجة من ساق أحدهم وفخذ آخر، هؤلاء أصيبوا وعُطبوا في الحرب القذرة وغصت بهم المشافي. والمروع أن ثمة قانوناً يمنع العسكري المصاب أن يُعالج خارج سوريا! حتى لو كانت أسرة المجند تملك المال الكافي لعلاج إبنها في الجامعة الأميركية في بيروت مثلاً فالقانون السوري يمنع المُجند المصاب أن يسافر! عليه أن يتلقى العلاج في مشافي الدولة فقط، وقد تحول المستشفى العسكري الضخمة في اللاذقية إلى مستشفى تركيب الأطراف الاصطناعية لمصابي الحرب من الجيش السوري. وكل الناس صُعقت من منظر شاحنة عملاقة مكشوفة الظهر ممتلئة بكل أنواع الأطراف الاصطناعية متجهة إلى المشفى العسكري وتحول مشفى الأسد الجامعي في اللاذقية إلى مشفى عسكري.

ولم تعد حتى مشافي الدولة سواء كانت المشفى الوطني أو العسكري أو غيرها قادرة على تأمين كل الخدمات الصحية للموطن. فمن يحتاج إلى عملية ماء زرقاء عليه أن يشتري بماله العدسة التي ستُزرع داخل عينه! فلم تعد العدسات متوفرة في مشافي الدولة ومن يتعرض لكسر في عنق الفخذ (وغالباً من الكهول والشيوخ عليه أن يشتري من ماله الخاص رأس عنق فخذ اصطناعي) وهو باهظ الثمن جداً لدرجة أن الكثيرين (العاجزين عن شراء رأس عنق فخذ اصطناعي) يعيشون بدون إجراء عملية ويتحملون آلاماً لا تُطاق ويرضون بالعرج الشديد المؤلم الذي سيرافهم ما تبقى من حياتهم.

صرخة شعب لبنان (جوعونا) انحفرت كالوشم في ذاكرتي وتذكرت شعبي الحبيب الجائع أيضاً. أجل شعب سوريا جائع حتى ثمالة القهر والحرمان والذل.

مواضيع ذات صلة

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

مواضيع أخرى

النساء ومعاركهن المتجددة

النساء ومعاركهن المتجددة

 يتم تسويف قضايا النساء بذرائع متعددة على الدوام، مرة بذريعة الحرص على الأخلاق العامة، ومرة أخرى بذريعة عدم المواجهة مع قوى الأمر الواقع، ومرات بذرائع تنبع فجأة من خبايا السنين وتصير حاضرة بقوة مثل طبيعة المرأة البيولوجية، أو التشريح الوظيفي لدماغ المرأة، وصولاً...

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

تمر سوريا اليوم بمرحلة فارقة في تاريخها، حيث يقف الجميع أمام اختبار صعب: هل يمكن تجاوز إرث القهر والاستبداد لبناء دولة جديدة قائمة على الحرية والكرامة؟ أم أننا سنتعثر مجددًا في أخطاء الماضي، التي صنعها الخوف، الصمت، وصناعة الأصنام؟ اليوم، نحن في حالة فراغ سياسي...

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

شهدت سوريا خلال أربعة عشر عامًا من الصراع تحولًا جذريًا في موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية. بدأ الحراك شعبيًا وسلميًا، لكنه انتهى بصراع مسلح معقد ومدعوم خارجيًا، في ظل غياب قوة سياسية مؤثرة ميدانيًا. وبينما ساندت روسيا وإيران النظام السوري، مما أطال أمد...

تدريباتنا