تدريباتنا

الجيش الحر” من المظلة الجامعة إلى الفصائلية المائعة”

بواسطة | أبريل 28, 2018

اتسمت بدايات الثورة السورية بطابع مدنيّ سلميّ لا يمكن لأحدٍ إنكاره. الشهادات والمذكّرات التي دونّها ناشطون عن تفاصيل تلك المرحلة، تؤكّد أنّه خلال النقاشات والجدالات التي دارت بين النشطاء في أسابيع وأشهر الثورة الأولى، لم تلق فكرة العمل المسلّح قبولاً سوى لدى قلّة قليلة لا تكادُ تُلحظ في خضمّ ميل عام لدى الفئات الأوسع من شبّان وشابّات الثورة للتمسّك بسلميّتها. وقد تجسّد ذلك عبر ابتكارهم أشكالاً مختلفة للإفلات من قبضة المخابرات الحديدية، والتعبير عن الاحتجاج والعصيان المدني تأكيداً لاستمرارية الثورة.

غير أنّ توحّش أجهزة النظام القمعية في فضّ المظاهرات والاعتصامات السلميّة، ثم اتّباعها أسلوب اقتحام المدن والبلدات الثائرة، بما نتج عنه من تزايد كبير في أعداد الضحايا وتصاعد وتيرة الانتهاكات والمجازر المرتكبة بحقّ الأبرياء، أدّى بالعديد من الثائرين إلى محاولة الدفاع عن أنفسهم وعن عائلاتهم في وجه الحملات الأمنية، بما توفّر لهم من أسلحة فردية خفيفة أو بنادق صيد لم يندر أنّ سوريين كثر كانوا يمتلكونها قبل الثورة. هذا جعل من البحث في سبل مقاومة بطش النظام والتساؤل حول مدى نجاعة الوسائل السلمية لإسقاطه حديثاً حاضراً بقوّة، دون أن يعني ذلك تبنّي “العسكرة” شعبياً وقتذاك، ولم تكن مظاهر العنف والحالات الأولى لحمل السلاح من قبل بعض المحتجّين أكثر من “رد فعل” محدود، ليس له أيّ طابع “عسكري”، لكن إلى حين.

اتّجه تطور الأحداث في منحىً آخر مختلف خلال أشهر قليلة، وخاصّة في أعقاب تعمّد النظام الزجّ بالجيش في مواجهة الشارع المنتفض، إذ أدّى ذلك إلى “فرار” أعداد متزايدة من الضبّاط والجنود ممن رفضوا توجيه أسلحتهم إلى المدنيين العزّل، فآثروا “الانشقاق” عن الجيش والانحياز إلى الثورة الشعبية، مؤكّدين عزمهم على حماية المظاهرات السلمية من قوّات الأسد. حاول بعض العسكريين المنشقّين تنظيم صفوفهم وإيجاد صيغة تجمعهم، فتشكّل “لواء الضبّاط الأحرار” (أعلن عنه المقدم حسين هرموش في حزيران/ يونيو 2011)، ثم تلاه تأسيس “الجيش السوري الحر” (أعلنه العقيد رياض الأسعد في تموز/يوليو 2011).

في تلك الأثناء كان التسميات التي تُطلق على أيام الجمعة (الموعد الأسبوعي الرئيسيّ للمظاهرات الشعبية) ما تزال من الأهميّة بمكان، فهي إذ حملت رسائل سياسية مرتبطة بتطوّر مجريات الثورة، ساهمت في التعبير عن مواقف المتظاهرين حيناً، ودفعت بها في اتّجاهات معينة أحياناً. وجرت الإشارة أوّل مرّة إلى العسكريين المنشقّين في “جمعة أحرار الجيش” بتاريخ 14 تشرين الأول/ أكتوبر 2011. يعكس مضيّ عدّة أشهر على إعلان تأسيس “الجيش الحر” قبل إطلاق اسمه على إحدى جُمع المظاهرات مدى تطوّر الموقف تجاهه في أوساط الثورة وجمهورها؛ ويمكن القول إنّه تحوّل من الفتور النسبيّ في البداية نظراً إلى الإصرار على السلمية رغم نزيف الدم، إلى الانتقال نحو شيء من الإجماع تجاهه، وفق ما عبّرت عنه تسمية مظاهرات الجمعة في 25 تشرين الثاني/ نوفمبر 2011: “الجيش الحر يحميني”، وبعدها بستة أسابيع “جمعة دعم الجيش الحر”، ومثلها في 2 آذار/ مارس 2012 “جمعة تسليح الجيش الحر”.

مع تصاعد التأييد الشعبي للظاهرة الوليدة، وتنامي ظاهرة الانشقاق عن الجيش حتى بين الضباط من ذوي الرتب العالية (عميد، لواء)، اتّسعت رقعة المواجهات العسكرية ضدّ النظام، وخرج كثير من القرى والبلدات عن سيطرته، وبات “الجيش الحر” عنواناً عريضاً لا يندرج تحته العسكريون المنشقون فحسب، وإنما أصبح بإمكان أي مجموعة مسلّحة تقاتل النظام أن تضع نفسها تحت هذه التسمية الجاذبة. لاسيما وأنّ من عبّروا عنها وتحدّثوا باسمها في البدايات لم يخرجوا عن خطاب الثورة وشعاراتها الجامعة، من قبيل نبذ الطائفية والتأكيد على وحدة الشعب السوري والتطلّع إلى إقامة نظام ديمقراطي، على نحو ما أكّدته الوثائق التي أصدروها.

بدا أنّ أدواراً كبيرة تنتظر “الجيش الحر”، فبدأت الاتصالات من قبل جهات إقليمية ودولية، وظهرت أقنية للدعم على مختلف المستويات وجرت محاولات للتوسّع في عملية التنظيم ومأسسة العمل، لكنّ الدعم والتمويل جاءا بنتيجة سلبية، إذ سرعان ما دبّت الانقسامات والخلافات التي أرخت بظلالها على الواقع الميداني، فكلّ من الجهات الداعمة وجدت في هذا المعطى المستجدّ فرصةً للاستثمار وفق ما يخدم مصالحها، سواء كان استثماراً في مجموعات “الجيش الحر” نفسه، أو في فصائل ناشئة ذات توجّه إسلامي. فإنه ضمن تلك المعطيات، وبتحفيز من ممارسات النظام واستفزازاته ذات الصبغة الطائفية، تكاثرت الجماعات الإسلامية المقاتلة وانتشرت كالنار في الهشيم، حيث انجدلت إلى حدّ بعيد حالة العسكرة مع مشروع الأسلمة المستند إلى أرضيّة تبني جهات محسوبة على الثورة خطاباً دينياً طائفياً بدعم من قوى إقليمية، فضلاً عن جماعات متشدّدة أخرى كانت تراقب الوضع عن كثب وتتحيّن الفرصة الملائمة لكي تعلن عن نفسها صراحة، وتشرع في تنفيذ أجنداتها “الجهادية”.

أعراض التشرذم والانقسامات التي بدأت تظهر على “الجيش الحر” في النصف الثاني من عام 2012 وجدت صداها في المظاهرات وتسميات أيام الجمع، فحمل اثنان منها شعارات تعكس رفض الشارع لتلك الحالة، هما “جمعة بوحدة جيشنا الحر يتحقق النصر” في  17 آب/ أغسطس 2012، و”جمعة توحيد كتائب الجيش السوري الحر” في 28 أيلول/ سبتمبر 2012. لكنّ الرفض الشعبي وحده ما كان ليحول دون تفاقم فوضى السلاح والفصائلية المقيتة، وغاب اسم “الحر” كلياً عن تسميات الجمع في العامين الثالث والرابع للثورة (2013 – 2014)، بل إنّ “جيوشاً” أخرى حلّت محله في بعض جمع العام الخامس، حيث حمل يوم الجمعة 3 نيسان/ أبريل اسم “جيش الفتح” ومثله في 8 أيار/ مايو لكن بصيغة “جيوش الفتح”!

كل ما سبق يؤكّد وجاهة التقسيم المنهجي الذي يأخذ به كثير من الباحثين، للتمييز بين المرحلة الممتدة منذ تأسيس “الجيش الحر” وحتى أواخر عام (2012)، وفيها كانت التسمية تدلّ على جسم عسكريّ واضح المعالم إلى حدّ كبير، وبالتالي تنطبق فعلاً على كافّة الكتائب والألوية المنضوية تحت هذا الاسم. أما ما تلا ذلك من جهد عسكري مناهض للنظام، فالتسمية التي تعبّر عنه هي “فصائل المعارضة المسلحة”، “وتشمل مختلف الكتائب والفصائل والجيوش التي وجدت على الأرض السورية بعد عام (2012)”. و”الجيش الحر”، منذ ذلك التاريخ، لم يعد سوى تجمع أو تشكيل شأنه شأن بقيّة التشكيلات والمجموعات المسلحة المنتشرة ضمن غابة السلاح التي صارتها سوريا. سيرته تتكثّف في حكاية “الظاهرة المسلّحة” نفسها، وهي الطارئة أصلاً على الثورة السورية، حيث لم يكد يمضي عامٌ على نشوئها حتى راحت تسيّرها المصالح والأهواء، فنأت عن طابعها السوري العفوي الوطني والمستقل، وأمعنت الغرق في مستنقع من الاصطفافات الأيديولوجية والصراعات البينية، تحكمها ضروب من الارتزاق والخضوع والتبعية لإرادات الممولين من الأطراف الخارجية.

مواضيع ذات صلة

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

مواضيع أخرى

النساء ومعاركهن المتجددة

النساء ومعاركهن المتجددة

 يتم تسويف قضايا النساء بذرائع متعددة على الدوام، مرة بذريعة الحرص على الأخلاق العامة، ومرة أخرى بذريعة عدم المواجهة مع قوى الأمر الواقع، ومرات بذرائع تنبع فجأة من خبايا السنين وتصير حاضرة بقوة مثل طبيعة المرأة البيولوجية، أو التشريح الوظيفي لدماغ المرأة، وصولاً...

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

تمر سوريا اليوم بمرحلة فارقة في تاريخها، حيث يقف الجميع أمام اختبار صعب: هل يمكن تجاوز إرث القهر والاستبداد لبناء دولة جديدة قائمة على الحرية والكرامة؟ أم أننا سنتعثر مجددًا في أخطاء الماضي، التي صنعها الخوف، الصمت، وصناعة الأصنام؟ اليوم، نحن في حالة فراغ سياسي...

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

شهدت سوريا خلال أربعة عشر عامًا من الصراع تحولًا جذريًا في موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية. بدأ الحراك شعبيًا وسلميًا، لكنه انتهى بصراع مسلح معقد ومدعوم خارجيًا، في ظل غياب قوة سياسية مؤثرة ميدانيًا. وبينما ساندت روسيا وإيران النظام السوري، مما أطال أمد...

تدريباتنا