تدريباتنا

الدواء… شكل آخر للموت السوري

بواسطة | فبراير 14, 2018

دمشق

ليس بالرصاص وحده يموت السوريون، فغياب الدواء الفعال لانخفاض فعالية المواد الداخلة في تركيبته الكيميائية بسبب الحصار الاقتصادي أولاً وبسبب ارتفاع سعر صرف الدولار في مقابل الليرة السورية ثانياً، سبب أساسي لموت كثير من السوريين حالياً.

ويذكر هنا مثال شركة دوائية تكتسب أدويتها مصداقية عالية في الجودة والفعالية لدى السوريين وللعلم مازالت تنتج بعض أصنافها الدوائية بمراقبة من الشركة الأم صاحبة الترخيص، إلا أن الشركة الأم كشفت بأن الشركة المحلية قد تجاوزت حدود الأمانة العلمية والمصداقية العملية. فقد أنتجت أضعاف العبوات من دواء محدد ومشهور ومطلوب وهو صاد حيوي. بدليل أن المادة الدوائية المسلمة من قبل الشركة الأم للشركة المحلية تكفي لتصنيع أربعة آلاف عبوة تحديداً بينما الموجود في الأسواق يتجاوز ذلك بأضعاف وليس ضعفاً واحداً أو اثنين من المنتج المذكور. كما أن غالبية معامل الأدوية والشركات المنتجة باتت تستخدم المواد الأولية المستوردة من الهند والباكستان لرخص أسعارها في محاولة لسد الفجوة بين الكلفة الحقيقية للمنتجات وبين السعر الرسمي المحدد من وزارة الصحة. مما يقلل وبصورة واضحة فعالية تلك الأدوية.

وتتعاظم حاجة المرضى لشراء إما دواء داعم لتوفير قيم العلاج المحددة والمطلوبة للتعافي أو مضاعفة الكمية مما يرهق الجيب والقلب، أو اللجوء للدواء الأجنبي وهو بحد ذاته قضية تستحق التوقف عندها ملياً بسبب الغش والتزوير الذي قد يحصل من قبل مزورين محترفين والدواء المستجلب من لبنان أكبر دليل على ذلك نظراً لارتفاع ثمنه وكلفة نقله إلى داخل سورية.

هذا وقد أثر ارتفاع أسعار الأدوية عالمياً وانخفاض الأرصدة المخصصة لدعم السوريين من قبل المنظمات الدولية بما فيها منظمة الصحة العالمية لاسيما بعد أن تعاظمت الحاجة إليه لزيادة عدد المرضى والمصابين وانعدام الأمن الدوائي وخروج عدد كبير من المنشآت الصحية التي كانت تقدم دواء مجانياً عن الخدمة؛ كل هذه الأمور دفعت حتى المنظمات الدولية لإرسال الأقل سعراً إلى السوريين. وأبلغ مثال على ذلك هو لقاح الشلل الذي تتضارب الأقوال حول مصدره فيما يقول البعض بأنه هندي بينما يقول البعض الآخر بأنه كوبي وقد أثار هذا اللقاح والذي تتم عملياته التنفيذية الآن بحملة تحت وطنية (أي ليس على كامل الجغرافية السورية) لخمس محافظات فقط نتيجة اكتشاف أربع وسبعين حالة شلل جديدة بينها سبع وأربعون حالة في دير الزور وحدها. أثار هذا اللقاح ارتكاسات مضاعفة عند الأطفال تراوحت ما بين ارتفاع الحرارة الشديد والوهن العام وقلة الشهية وثقل في مرونة الساق الملقحة. وهي رد فعل طبيعي لكنها مضاعفة وظاهرة بوضوح جلي بعد استعمال هذا المنتج.

كما أن رفع أسعار الدواء وبقرار حكومي رسمي والذي تكرر ثلاث مرات متتالية، ضاعف من حدة الأزمة. فمثلاً وعبر هذه الارتفاعات ارتفع المنتج الدوائي الذي يوصف لعلاج قصور الغدة الدرقية (الثيروكسين) من ١٨٠ ليرة إلى ٩٠٠ ليرة مع الإشارة إلى أنه مرض منتشر بكثرة وقد أجرت منظمة الصحة العالمية اختبارات ومسوح خاصة به نظراً لارتفاع نسبة السوريين الذين يعانون منه ويحتاجه المرضى بصورة يومية ودائمة.

هذا عدا عن ارتفاع أسعار أدوية الصرع حوالي الستة أضعاف وبعض أدوية الضغط والسكري مع الإشارة إلى أن الحكومة ما زالت ملتزمة بتوزيع أدوية السكري والمحاقن الخاصة بها وهنا المقصود حقن الأنسولين وليس الحبوب.  لكن بات من الضروري إبراز إخراج قيد أو ورقة من المختار أو فاتورة كهرباء أو ما يثبت ملكية البيت أو عقد الإيجار للتأكد من وجود المريض الفعلي في نفس المنطقة الجغرافية للمركز المسؤول عن التوزيع. وذلك حصل بفعل زيادة عدد المرضى وبسبب أعداد الوافدين والنازحين لمدينة دمشق وأيضاً بسبب قلة الكمية المرصودة أو المرسلة من منظمة الصحة العالمية والتي قد تتأخر إرسالياتها لشهور مما يوقع المرضى في دوامة الدواء المهرب أو الاقتراض أو التحايل.

لابد من الإشارة إلى أن خروج عدد كبير من المعامل الدوائية وخاصة في مدينة حلب قد ضاعف الفاقد الدوائي وقد وافقت الحكومة على ترخيص ثلاثة وعشرين معملاً دوائياً جديداً إلا أن عدداً كبيراً منها لم يصل طور الإنتاج حتى الآن. ومازالت معاناة السوريين تشتد خاصة في ظل التعامل غير المنضبط من قبل مستودعات الأدوية التي تكاثر عددها ولكنها تتحكم في عملية التوزيع وتفرض على الصيادلة أنواعاً أخرى غير رائجة أو مطلوبة مثل معاجين الأسنان الطبية والتي باتت ترفاً بالغاً لا يملكه الكثير من السوريون إذ يصل ثمن العبوة الواحدة منه إلى ٩٢٥ ليرة. وكمثال يوجد دواء لمرضى تسرع القلب الاشتدادي اسمه Inderal وموجود بعيارين ١٠ ملغ و ٤٠ ملغ. ونظراً لارتفاع كلفة المستحضر لارتفاع ثمن المادة الأولية الأساسية الداخلة في تركيبته وهي مستوردة مما يعيق إنتاج كمية كافية تغطي حاجة جميع المرضى خاصة وأن الدواء المذكور لا يعوض كلفته الحقيقية حتى بالأسعار الجديدة بعد عملية الرفع  فإن مستودعات الأدوية تفرض على الصيادلة شراء أربع عبوات معجون أسنان مع كل عشر قطع من هذا الدواء مما يضاعف كلفته الحقيقية على الصيدلاني الذي يرفض شراءه أصلاً وقد يلجأ بعض الصيادلة إلى شرح الواقع للمرضى فمن قبل منهم بشراء معجون الأسنان كان الدواء له.

كما أنه لابد من ضرورة الإشارة إلى ارتفاع كلفة نقل الأدوية بسبب ارتفاع ثمن المحروقات والإتاوات على الحواجز التي قد تصل إلى صندوق  كامل من شراب للسعال مثلاً أو آلاف الليرات، كما أن الحالة النفسية وخاصة للشباب دفعت بهم لشراء الأدوية المنومة أو المخدرة مما دفع لظهور ما يشبه السوق السوداء لهذه الأدوية عدا عن أن وصفة الطبيب غير كافية لتجاوب الصيدلاني فمثلاً اللكسوتان (lexotan) بات حاجة يومية للمكلومات والموجوعين والمعذبين ولكنه وإن توفرت الوصفة فبعض الصيادلة يبيع الظرف الواحد بألف ليرة بينما سعر العلبة المكونة من ظرفين لا يتجاوز المائتي ليرة. كما أن حوادث السطو وتهديد الصيادلة من قبل بعض المدمنين بات خطراً حقيقياً على سلامة الصيادلة والمرضى في الوقت ذاته.

هذا غيض من فيض. لا الأرقام كافية لتبيان الوضع الدوائي المزري والخانق ولا القلق الدولي قد يتحول إلى جرعات من الأمل بسلامة المرضى ولا التقارير الإخبارية التي تصوّر الموت بالرصاص وحسب تمارس مصداقية رصد أسباب الموت بكافة تعييناته وتفاصيله. بات الموت الدموي والناري جرعة عنف مطلوبة ومدفوع لها بسخاء، لكن الموت اليومي بفعل الحاجة لحبة دواء وإن وجدت فلا يوجد في الجيب ثمناً لها وإن وجد الثمن فأبسط حقوق الفعالية والسلامة غائبة.

أجل ليس بالرصاص وحده يموت السوريون.

مواضيع ذات صلة

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

 "كنت أحلم بلوحةٍ تستطيع أن تخاطب بجمالياتها شريحة أوسع من الناس، لوحة تستطيع تجاوز مجموعة الجمهور التي تتكرر في حفل الافتتاح لأي معرض". ربما توضح تلك الكلمات، وهي للفنان نذير نبعة، مدى تبنيه وإخلاصه للفن، الذي كان رفيق دربه لأكثر من ستين عاماً، فهو الفنان الذي...

مواضيع أخرى

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

رغم انتشار ثقافة المطالعة واستقاء المعلومات عن طريق الشبكة العنكبوتية إلا أن ملمس الورق ورائحة الحبر بقيا جذابين للقارئ السوري. ولم تستطع التكنولوجيا الاستحواذ على مكان الكتاب الورقي، أو منافسته. وبقي الكتاب المرجع الأساسي والحقيقي لأي بحث علمي وأكاديمي، ولم يستطع...

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

بقي الريف السوري محروماً من المسرح إلى أن أنشأت مديرية المسارح والموسيقى في وزارة الثقافة ما أسمته "المسرح الجوال" عام ١٩٦٩، والذي بدأ عروضه بنشر الوعي المسرحي في الريف والمناطق الشعبية والنائية. صارت الصالة في كل مكان  والجمهور ضمنها، وكان كسر الحواجز بين...

“وفا تيليكوم”: اتصالات إيرانية على أراضٍ سورية

“وفا تيليكوم”: اتصالات إيرانية على أراضٍ سورية

ينتظر السوريون في الأسابيع المقبلة بفارغ الصبر وفق تصريحات حكومية انطلاق المشغل الخلوي الثالث "وفا تيليكوم" المرتبط بإيران التي ستدخل على خط الاستحواذ في قطاع الاتصالات الحساس والذي ظلّ حكراً على متنفذي السلطة لعقود. من خلال التواصل المباشر مع مصادر متعددة من داخل...

تدريباتنا