تدريباتنا

تحرّر الإبداع في سوريا الجديدة

بواسطة | يناير 31, 2025

حين نعود بالزّمن إلى ما قبل سقوط نظام الأسد في سوريا، نجد أنفسنا أمام مشهدٍ ثقافيٍّ ضعيفٍ يخفي خلفه واقعًا قمعيًّا. كانت الكتب والمجموعات الشّعريّة الصّادرة عن الهيئة السّوريّة للكتاب، إلى جانب الرّوايات والمجلاّت، مجرّد واجهةٍ تروّج للإبداع المزيّف تحت سيطرة السّلطة. منذ أوائل ثمانينيّات القرن الماضي، فرضت القيود القمعيّة على الحرّيّة الثّقافيّة، ما أدّى إلى تدجين الإبداع السّوريّ. تفاقمت هذه الأزمة الفكريّة حتّى بلغت ذروتها مع عجز المؤسّسات الثّقافيّة عن مواكبة صرخات الثّورة السّوريّة في آذار/مارس ٢٠١١.

وعلى مدى عقودٍ من حكم آل الأسد، تحوّلت المؤسّسات الثّقافيّة في سوريا، إلى جانب الجمعيّات والأفراد، إلى أدوات دعايةٍ تخدم السّلطة وتروّج لروايتها الرّسميّة. هذه المؤسّسات شوّهت المشهد الثّقافيّ السّوريّ من خلال تصنيف أيّ معارضةٍ على أنّها “إرهابٌ”، بينما كانت الحقيقة تعكس واقعًا مأساويًّا تجلّى في استهداف المدنيّين، وتهجير العائلات، والزّجّ بالمعارضين في السّجون. بدلًا من أن تكون المؤسّسات الثّقافيّة مناراتٍ للإبداع ومساحاتٍ حرّةً تعبّر عن آلام النّاس وأوجاعهم، أصبحت أداةً لقمع الحقيقة وإقصاء الأصوات المستقلّة.

افتقدت هذه المؤسّسات لأيّ محاولةٍ جادّةٍ لتبنّي قراءةٍ بديلةٍ أو لتوثيق معاناة الضّحايا، ممّا حوّلها إلى وسيلةٍ لطمس الحقائق، بدلًا من أن تكون منبرًا للحرّيّة والدّفاع عن الشّعب.

وفي الوقت الحاليّ، يستمرّ المشهد الثّقافيّ السّوريّ في التّقوقع داخل إطارٍ مهادنٍ يتماهى مع الواقع المفروض، بعيدًا عن الاحتكاك الحقيقيّ مع القضايا الكبرى الّتي أثارتها التّجربة الثّوريّة. هذا التّراجع يعكّس عجز المؤسّسات الثّقافيّة عن مواكبة التّطلّعات الشّعبيّة لإسقاط النّظام وإقامة دولةٍ جديدةٍ تقوم على الكفاءة وتحرير الإبداع من قبضة الولاءات السّياسيّة، كما كان الحال خلال حكم البعث.

بدلًا من أن تصبح الثّقافة منبرًا لإعادة بناء الهويّة السّوريّة وتجديد روح المجتمع، لا تزال محصورةً في أطرٍ مكرّرةٍ، تفتقد للجرأة والانفتاح على التّجارب الثّوريّة الّتي أظهرت قدرة السّوريّين على الحلم بدولةٍ تعكس تنوّعهم وآمالهم.

اليوم، بات من الضّروريّ أن يتحرّر العمل الإبداعيّ في سوريا من القيود القديمة ليجد سياقه الاجتماعيّ والثّقافيّ الّذي يتطلّب تفاعلًا جادًّا وحقيقيًّا. السّينما، الدّراما، الكتابة الإبداعيّة بمختلف أشكالها شعرًا، نثرًا، قصّةً، وروايةً، إلى جانب الفنون التّشكيليّة والمسرح، تمثّل مجالاتٍ أساسيّةً لإعادة بناء الهويّة الثّقافيّة السّوريّة. لتحقيق ذلك، لا بدّ من تفكيك الهياكل الإداريّة والمعنويّة الّتي كرّست التّبعيّة لأجهزة الدّولة، واستبدالها بهياكل مستقلّةٍ تتيح للإبداع حرّيّة التّعبير والانفتاح.

يتطلّب هذا التّحوّل احتكاكًا حقيقيًّا بالثّقافات والتّجارب العالميّة، خاصّةً في البلدان الّتي حقّقت تقدّمًا في حرّيّة الإبداع، مع توجيه الجهود نحو تلبية احتياجات المجتمع السّوريّ وإبراز همومه وتطلّعاته.

يمكن للفنون أن تكون منصاتٍ حقيقيّةً للتّعبير عن الهموم الفرديّة والجماعيّة، تساهم في تخفيف العبث والاضطراب الّذي يعيشه الإنسان السّوريّ نتيجة الظّروف القهريّة. لتحقيق ذلك، يجب أن تتمتّع هذه التّجارب الإبداعيّة بالحرّيّة الكاملة، تحت حماية سلطة القانون الّتي تحترم الثّوابت الوطنيّة، مثل الهويّة ووحدة الأراضي، وتنبذ العنف والانقسامات.

في هذا السّياق، يمكن للفنون بمختلف أشكالها أن تنقل آلام النّاس وقصصهم إلى العالم، ممّا يتيح لهم مشاركة هذه الأوجاع مع الآخرين، ويخفّف من وطأتها على الأفراد. هذا النّهج، إذا استند إلى قيم التّنوّع والتّعدّديّة، يمكن أن يعيد للإبداع دوره الحقيقيّ كمرآةٍ للمجتمع ومصدر أملٍ للتّغيير.

وفي سوريا، تبرز الحاجة الماسّة إلى تحرير مجالات الإبداع من قيود الدّعاية السّطحيّة، وإعادة تفعيلها كأدواتٍ حيويّةٍ تسهم في نشر الوعي، توثيق القصص الإنسانيّة، والتّعبير عن الأفراح والأتراح. يمكن لهذه المجالات أن تكون وسيلةً لجمع السّوريّين على طاولة الحوار الإبداعيّ، وربط المدن والمناطق المختلفة بتجارب مشتركةٍ تسهم في تعزيز التّفاهم المتبادل. لتحقيق ذلك، يجب توجيه هذه الجهود نحو معالجة هموم الأفراد والجماعات، بما يساعد على فهمٍ أعمق لتفاصيل حياتهم اليوميّة ومعاناتهم. الإبداع، في هذا السّياق، يمكن أن يصبح لغةً جامعةً تسلّط الضّوء على التّنوّع والغنى الثّقافيّ، وتعبّر عن تطلّعات المجتمع نحو مستقبلٍ أكثر عدلًا وإنسانيّةً.

إنّ الأعمال الإبداعيّة في سوريا يجب أن تتحرّر من هيمنة السّلطة الّتي تسعى إلى تجهيل الأفراد والتّعتيم على قضاياهم، لتتحوّل إلى مرآةٍ صادقةٍ تعكس تطلّعات النّاس وآمالهم. سوريا اليوم بحاجةٍ ماسّةٍ إلى تجديدٍ فكريٍّ وثقافيٍّ يعبّر عن تنوّع مجتمعاتها وغناها الثّقافيّ، ويعيد بناء النّسيج الثّقافيّ والاجتماعيّ بعيدًا عن القيود التّقليديّة الّتي أعاقت تطوّره لعقودٍ.

وبالتّالي يجب دعم المبادرات المستقلّة الّتي تمنح المبدعين حرّيّة التّعبير، وتشجيع الأنشطة الثّقافيّة الّتي تعبّر عن تنوّع الهويّة السّوريّة.

في سوريا، لدينا وزارةٌ للثّقافة، وعشرات المراكز الثّقافيّة، والمكتبة الوطنيّة في ساحة الأمويّين، ودار الأوبرا بدمشق، وعددٌ من المسارح في بعض المدن. ومع ذلك، تبقى هذه المؤسّسات، بحالتها الرّاهنة، بعيدةً عن تحقيق الهدف الأسمى المتمثّل في تعزيز وعي المجتمع ومخاطبة العقول.

لماذا لا يتمّ إجراء مسحٍ شاملٍ لدور هذه الهيئات وأدائها الحاليّ؟ يمكن لهذه الخطوة أن تكشف عن مواطن القوّة والضّعف، وتساعد في إعادة توجيه هذه المؤسّسات لتكون أكثر ارتباطًا باحتياجات النّاس.

الثّورة، الّتي خاطبت وجدان السّوريّين، أكّدت ضرورة إحداث تغييرٍ جذريٍّ في كلّ مستويات المجتمع، بما فيه القطاع الثّقافيّ.

السّؤال الأكثر إلحاحًا هو: هل تكفي الوجدانيّات والرّوحانيّات وحدها لبناء وعيٍ سياسيٍّ متينٍ وتعزيز الفهم الفكريّ لمسار تطوّر الدّولة الجديدة؟ يجب التّركيز على نوعيّة الأنشطة الثّقافيّة، وتعزيز حضورها في المشهد العامّ، وفتح المجال أمام الحرّيّات الثّقافيّة لتصبح أداةً في الواقع الاجتماعيّ.

يمكن الاستفادة من نماذج ثقافيّةٍ ناجحةٍ داخل سوريا وخارجها، كمصدر إلهامٍ لإعادة بناء المشهد الثّقافيّ. على سبيل المثال، شهدت دولٌ مثل لبنان والعراق مبادراتٍ ثقافيّةً رائدة بعد أزماتٍ حادّةٍ، تمثّلت في مهرجاناتٍ فنّيّةٍ وأدبيّةٍ مستقلّةٍ، ومعارض كتبٍ شاملةٍ، ومراكز ثقافيّةٍ مجتمعيّةٍ أصبحت منصّاتٍ لتبادل الأفكار وتخفيف الاحتقان الاجتماعيّ.

حتّى في سوريا، قبل اندلاع الحرب، ظهرت بعض التّجارب الملهمة، مثل الأنشطة الّتي أقامتها مكتباتٌ محلّيّةٌ أو جمعيّاتٌ مستقلّةٌ، الّتي كانت تسعى رغم القيود المفروضة إلى تعزيز الوعي الثّقافيّ والتّنوّع الفكريّ. إنّ إعادة إحياء مثل هذه المبادرات، مع تطويرها لتكون أكثر شمولًا واستقلاليّةً، قد تسهم في تقديم نموذجٍ ثقافيٍّ مستدامٍ يواكب تطلّعات السّوريّين لمستقبلٍ أكثر إشراقًا.

لقد شاهدت مؤخّرًا تقريرًا على قناة الجزيرة من دمشق، يسلّط الضّوء على انفتاحٍ جزئيٍّ في المكتبات بعد سنواتٍ من القيود الصّارمة على عناوين معيّنةٍ. اللاّفت أنّ هذا الانفتاح اقتصر -بحسب التّقرير- على كتبٍ مثل مؤلّفات ابن تيميّة وأدهم الشّرقاويّ، ممّا يثير تساؤلًا حول طبيعة الأفكار الّتي يجري تحريرها.

تزامن ذلك مع نشاطٍ ثقافيٍّ دينيٍّ أقيم في دار الأوبرا بدمشق، ورغم أهمّيّة هذا النّوع من الأنشطة، إلّا أنّه يعكس انحيازًا ويطرح أسئلةً حول غياب الفعاليّات الثّقافيّة الأخرى الّتي تعبّر عن التّنوّع الحقيقيّ لدمشق وسوريا بأكملها. ورغم الانتقاد الموجّه للنّشاط الثّقافيّ ذي الطّابع الدّينيّ، فإنّه من الضّروريّ الإشارة إلى أنّ الأنشطة الدّينيّة، إذا كانت غير مسيّسةٍ أو موجّهةٍ لخدمة أجنداتٍ محدّدةٍ، يمكن أن تكون جزءًا من التّنوّع الثّقافيّ المنشود.

التّحدّي يكمن في تحقيق التّوازن بين هذا النّوع من الأنشطة وبين الفعاليّات الثّقافيّة الأخرى الّتي تمثّل مختلف التّوجّهات الفكريّة والإبداعيّة، بما يضمن شموليّة المشهد الثّقافيّ وتعدّديّته.

ترى أين معارض الكتب الّتي تقدّم وجباتٍ فكريّةً وثقافيّةً متنوّعةً؟ أين تلك الكتب الّتي قمعت لسنواتٍ لأنّها تتناقض مع أيديولوجيا النّظام السّابق؟

أعتقد أنّ سوريا بحاجةٍ ماسّةٍ إلى أنشطةٍ ثقافيّةٍ، سواءٌ أهليّةٌ أو رسميّةٌ، تكون حقيقيّةً وفعّالةً في تعزيز وعي المجتمع، أنشطة تقرّب النّاس من بعضهم البعض، تعزّز فهمهم المتبادل لأفكارهم وتطلّعاتهم، وتفتح الآفاق أمام العقول لاستكشاف أفكارٍ جديدةٍ. كما يجب أن تفسح هذه الأنشطة المجال لسماع أصواتٍ وطنيّةٍ مستقلّةٍ، بعيدًا عن هيمنة العسكر أو الدّين، مع توجيهها نحو تعزيز التّشارك المجتمعيّ.

هذه الضّرورة تبرز أهمّيّة بناء وعيٍ جديدٍ يتماشى مع تطلّعات السّوريّين لمستقبلٍ يلعب فيه الإبداع والثّقافة دورًا محوريًّا في تعزيز الانتماء الوطنيّ، وترسيخ قيم التّنوّع والتّعدّديّة، وقبول الآخر، والعمل على تحقيق السّلم الأهليّ.

لتحقيق هذا الهدف، لا بدّ من وضع خطّةٍ واضحةٍ تشمل خطواتٍ عمليّةً يمكن تنفيذها على أرض الواقع. من ذلك، إطلاق برامج تدريبيّةٍ تهدف إلى دعم المواهب المحلّيّة وتنميتها، وإنشاء شراكاتٍ ثقافيّةٍ مع مؤسّساتٍ دوليّةٍ تسهم في تبادل الخبرات والاطّلاع على تجارب الدّول الأخرى.

يمكن تعزيز الإنتاج الثّقافيّ من خلال إنشاء منصّاتٍ مستقلّةٍ لدعم الكتّاب والفنّانين والشّباب المبدعين، وتشجيع الفعاليّات الّتي تعبّر عن التّنوّع الثّقافيّ السّوريّ، مثل معارض الكتب المستقلّة، والمهرجانات الفنّيّة متعدّدة الاختصاصات.

إنّ التّحرّر الإبداعيّ يشهد اليوم ازدهارًا استثنائيًّا في تفاعله مع الشّارع السّوريّ، ومع اتّساع دائرة التّواصل بين المدن الّتي كانت فيما مضى مغلقةً على بعضها البعض بفعل الخوف الممنهج من الاختلاف. هذا الواقع الجديد يضع على عاتق الإبداع مسؤوليّةً كبرى في جمع النّاس من مختلف الانتماءات، ليوحّد أصواتهم حول مفهوم الحرّيّة في سياق الإبداع السّوريّ.

يتجلّى ذلك من خلال إنتاجهم الثّوريّ الّذي يواجه كافّة أشكال الطّغيان، والتّبعيّة، والهيمنة السّلطويّة على الأفراد.

مواضيع ذات صلة

هاني الراهب متلفعاً بالأخضر 

هاني الراهب متلفعاً بالأخضر 

إحدى وثلاثون سنة من الغياب مضت على انطفاء فارس السرد "هاني الراهب" ومازالت نصوصه تتوهج وتمارس سطوتها وحضورها الآسر على أجيال أتت من بعده تتقرى معانيه وتتلمس خطاه رغم التعتيم والتغييب الذي مورس بحقه على مر الزمن الماضي ومحاصرته في لقمه عيشه بسبب من آرائه ومواقفه،...

الواقعية النقدية لدى ياسين الحافظ

الواقعية النقدية لدى ياسين الحافظ

ياسين الحافظ كاتبٌ ومفكر سياسي سوري من الطراز الرفيع، يعدُّ من المؤسسين والمنظرين للتجربة الحزبية العربية. اشترك في العديد من الأحزاب القومية واليسارية، ويعدُّ الحافظ في طليعة المفكرين التقدميين في العالم العربي، اتسم فكره بالواقعية النقدية، تحت تأثير منشأه الجغرافي...

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

مواضيع أخرى

قراءة في بيان الحوار الوطني السوري

قراءة في بيان الحوار الوطني السوري

رغم ما حمله من تأكيد على وحدة البلاد وأهمية تحقيق العدالة والمواطنة، فإن البيان الختامي لمؤتمر الحوار الوطني السوري الذي عُقد يومي (24 و25 من الشهر الفائت) في قصر الشعب بدمشق، قد افتقر إلى أحد العناصر الحاسمة في أي عملية سياسية ناجحة: الجدول الزمني وآليات...

هل يعود السوريون والسوريات من غربتهم؟

هل يعود السوريون والسوريات من غربتهم؟

تقول الأرقام الواردة من دمشق، إنّ ما يقارب مليون سوري وسورية قد عادوا إلى بلدهم بعد سقوط النظام. لقد شكل هذا السقوط المدوي صدمة عاطفية دفعت كل قادر على العودة للسفر فوراً. انقسم العائدون إلى شريحتين: شريحة مدفوعة بالعاطفة وتمتلك وثائق تمكنها قانونياً من العودة؛ وشريحة...

فوضى الإعلام والحاجة إلى شاشاتٍ وطنيةٍ موثوقة 

فوضى الإعلام والحاجة إلى شاشاتٍ وطنيةٍ موثوقة 

في أحد أشدّ أيام سوريا حساسيةً وأكثر مفاصلها تعقيداً، تحديداً في اليوم الرابع والخمسين بعد سقوط نظام بشار الأسد، جاءت الكلمة المرتقبة لقائد العمليات السورية أحمد الشرع التي تضمنت إعلانه لنفسه من خلال اتفاق الفصائل ليكون رئيساً انتقالياً للجمهورية لكنه لم يجد منبراً...

تدريباتنا