تدريباتنا

جولة في بيت جدي بمدينة إدلب

بواسطة | سبتمبر 8, 2022

في إحدى حارات مدينة إدلب الضيقة، يختبئ متجر هيثم أبو راشد الذي سمّاه بـ”بيت جدي” ، الذي ما أن تدخله حتى تهرب من المزاج العام المثقل بهموم الحياة وتأمين القوت اليومي في مدينة يقبع غالبية أهلها تحت خط الفقر، إلى عبق الماضي والتراث السوري القديم.

يستعين أبو راشد بالموسيقا لتساعده في نقل رواد محله بعيداً عن الواقع، فتعلو أصوات الأغاني التراثية القديمة من مذياعه القديم دائماً، لتطرب زائري متجره من المدفوعين بالفضول لاستكشاف “الأنتيكا”، إضافة لأولئك المتشوقين لرؤية التحف القديمة والحنين للأيام كان يرون مثل تلك القطع في بيوت أجدادهم التي خسروها بسبب الحرب.

أما الراغبين بالشراء، فهم قلة فقط، ولا يكتف الزوار بالمشاهدة فقط، و انما يقوم أغلبهم بالتقاط الصور التذكارية للمقتنيات.

ينغمس  أبو راشد بالأحاديث مع  رواد محله وهو يشرح لهم عن القطع الموجودة، وفي حال خلو محله، يجلس بين رفوف تتوزع داخل محله وتضم صوانٍ نحاسية وخناجر مزخرفة تجاورها المسابح العاجية والتحف الخزفية، ليتصفح مواقع التواصل الاجتماعي، وهو يتفحص مجموعات خاصة بجامعي التحف والمهتمين بـحفظ التراث السوري، والهدف الأول منها بحسب أبو راشد هو المحافظة على ما تلتهمه الحرب من تراثنا.

يتشارك جامعي التحف عبر تلك المجموعات صور مقتنياتهم ومعلوماتهم عنها، كما يبحثون من خلالها  عن قطع ناقصة من الأطقم النادرة، أو يعرضون قطعًا مميزة وقعت صدفة بيد أحدهم، أو ورثها عن اجداده دون معرفة قيمتها، فربما تكون القطعة الوحيدة التي نجت من بيت إحدى الجدات التي نزحت مع ذويها من مسقط راسها، بالإضافة إلى ذلك يتبادل بعضهم القطع التي تستهويهم، أما هدف أبو راشد من الانضمام لهذه المجموعات، فهو البحث عن قطع جديدة يضيفها إلى مجموعته، وخاصة القطع النادرة.

يقول أبو راشد لـ”صالون سوريا”: “رغم تخرجي من كلية الحقوق، لكني هجرت مهنة المحاماة مع بدء سنين الحرب، وحولت هوايتي في جمع القطع الأثرية لمهنة، وفتحت متجر بيت جدي لبيع الأنتيكا والقطع الأثرية في عام 2015، حيث بدأت بداية بالقطع التي ورثتها عن والدي، حتى أصبحت اليوم أمتلك حوالي 7000 قطعة مختلفة الأحجام، قمت بجمعها على مدار سنوات من العمل”.

وتتنوع القطع لدى أبو راشد من دلات القهوة العربية والصواني والفناجين النحاسية والرحى الحجرية التي كانت تستخدم في طحن الحبوب، إلى المهباج الذي كان يستخدم في صناعة القهوة العربية (القهوة المرة حيث يطحن البن والهال فيه)

بالإضافة إلى السبح والالبسة التراثية والشمعدانات والتحف الزجاجية والنحاسية وآلات الموسيقية، كبيانو قديم وعود وكمان، ومجموعة الأسلحة التقليدية المكونة من الخناجر والسيوف الدمشقية والبنادق اليدوية، ومدفع الهاون العثماني النحاسي الذي يفوق عمره قرنين من الزمن، وتعد المجموعة الأسلحة هي الأكثر شعبية بحسب قوله.

عن أسعار القطع يقول أبو راشد “لا يوجد لها ثمن محدد، فهي تخضع للعرض والطلب على السوق ،وهذا ما يؤثر  سلباً على تجارتي، لكني لا أكترث كثيراً بهذا الأمر، لأن هدفي من المتجر لا يقتصر على الربح المادي فقط، انما ايضاً للحفاظ على ميراث الأجداد ، وحماية االتراث السوري من الاندثار، ولا سيما إن سوريا هي بلد قدم الكثير للتراث الإنساني، فمنه خرجت أول أبجدية للعالم وحضارات تدمر وإبيلا وماري شاهدة على تراثنا الذي يجب المحافظة عليه”.

ويشير أبو راشد إلى أن زبائن متجره هم أيضاً من هواة ومحبي المقتنيات القديمة، وهم على دراية بقيمة التحف ولا يشترونها عن عبث، ولهذا فهم يدفعون فيها مبالغ مالية مناسبة.

القت الحرب بظلالها على مهنة أبو راشد كما فعلت بعموم البلاد، حيث منع تقطيع أوصال البلاد أبو راشد من التنقل بين المحافظات لجمع القطع الأثرية كما كان يفعل قبلاً، كما حرمت الحرب متجر أبو راشد من زيارة السياح الأجانب والمغتربين الذين يكونون عادة الزبائن الرئيسين لهذه التجارات.

خالد المحمود، أحد زبائن أبو راشد، يعرف عن نفسه بانه غاو لجمع القطع الأثرية، لذلك يأتي لمحل “بيت جدي” بشكل دوري للاطلاع على القطع الأثرية، يقول خالد “زيارة متجر أبو راشد هي معراج للذكريات والمشاعر التي فقدت جزءاً كبيراً منها بعد تهجيري من مدينة حمص لإدلب، وعندما تعرفت على هذا المتجر بالصدفة، أصبحت أزوره بشكل دوري رغم عدم قدرتي على شراء أي من القطع الموجودة، لكني آتي لرؤية القطع الجديدة وتصويرها وحفظها على مجلد خاص لدي خوفاً من فقدان تلك القطع وعدم قدرتي على رؤيتها مجدداً”.

ورغم صعوبة مهنة أبو راشد، واعتبار العديد من أهالي المنطقة لتجارته “بالرفاهية” التي لا يستطيع الكثير مجاراتها، والأعباء الاقتصادية التي يتحملها، إلا أن خيار ترك المهنة التي بدأها منذ سبع سنوات هو خيار غير مطروح بالنسبة له بسبب حبه للقطع الأثرية،  

مواضيع ذات صلة

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

مواضيع أخرى

في وقت فراغي: ستَّة نصوص لِـ(أديبة حسيكة)

في وقت فراغي: ستَّة نصوص لِـ(أديبة حسيكة)

(1) في وقت فراغي كنتُ أملأ الأوراق البيضاء بالحقول كان يبدو الفجر أقرب و السحاب يمرّ فوق الطرقات بلا خسائر..  وكان الماضي  يمتلئ  بالألوان. لا شيء مثل اللحظة حين لا تجد المسافة الكافية لتخترع أجنحة تكاد تنمو كزهرة برية.  بدأتُ أجمع صوتي من الريح و أفسّر...

فصلٌ من القهر والعذاب: كيف مضى فصل الصيف على سوريا؟

فصلٌ من القهر والعذاب: كيف مضى فصل الصيف على سوريا؟

لم يكتفِ الناس في سوريا من معاناتهم وأوجاعهم اليومية، التي فرضتها ظروف الحرب وما تبعها من أزماتٍ متلاحقة وتردٍ في الواقع الاقتصادي والمعيشي، حتى أتى فصل الصيف، الذي سجل هذا العام ارتفاعاً كبيراً وغير مسبوق في معدلات درجات الحرارة، وكان الأقسى على البلاد منذ عقود،...

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

رغم انتشار ثقافة المطالعة واستقاء المعلومات عن طريق الشبكة العنكبوتية إلا أن ملمس الورق ورائحة الحبر بقيا جذابين للقارئ السوري. ولم تستطع التكنولوجيا الاستحواذ على مكان الكتاب الورقي، أو منافسته. وبقي الكتاب المرجع الأساسي والحقيقي لأي بحث علمي وأكاديمي، ولم يستطع...

تدريباتنا