تدريباتنا

حول الحياة اليومية للسوريين في مدينة حمص

بواسطة | فبراير 12, 2024

 صباحاً شوارع حمص معتمة وغارقة بالضباب.

ما زال الوقت مبكراً لتزدحم الطرقات بالناس والدخان والروائح التي تحاصر الأوكسجين في المدينة وتطرده فرائحة الحطب ومنذ الصباح تنسل إلى الجو وتغمر الأحياء.

 تحولت المدافئ بشكل جماعي من حرق المازوت إلى حرق الخشب وكل ما يخطر بالبال، الكرتون والأحذية والورق والثياب القديمة، يحرقون كل ما يمكنهم وكل ما يتيح لهم قليلاً من الدفء فهناك الحطب، النايلون والبلاستيك، الشحاطات وأغلفة الكتب والدفاتر وغيرها من البقايا والأشياء التالفة  وقطع الأبواب المحطمة لتصبح الرائحة واخزة ومنفرة بعد احتراق الدهان. في المساء يكون الوضع أسوأ حين يشتد البرد ولن تستطيع التمييز في الشارع بين الروائح المختلطة المقبولة منها والمقززة.

حطب بأنواع كثيرة، ولكل نوع سعره الخاص، الجذور والسيقان والأغصان. هناك من يشتري الحطب بالكيلو الواحد الذي لن يكفي المدفأة سوى ساعة أو اكثر. كما صار عادياً أن ترى باعة الحطب دون أن تسأل من أين؟

وفرت مدافئ الحطب استهلاك الغاز الذي لا تنتهي أزماته  فسيدات البيوت يطبخن عليها والعائلات غالباً ما تقوم بتسخين مياه الحمام عليها لعدم توفر المازوت والكهرباء.

 في الشتاء مع البرد والمطر تبدو الحياة أصعب إذ لا تنفصل معاناة تأمين الدفء عن ظروف المعاناة المستمرة على طول الفصول مع جنون الأسعار اليومي لكل المواد والتي لا تتناسب مع موارد الإنسان الذي ينحت يومياته بأظافره في قلب الصخر.

 تقول إحدى السيدات: ”اختصرنا عدد الوجبات وفي كثير من الأيام نكتفي بالحواضر دون طبخ  بينما اللحوم صارت من الماضي، وكثير من السلع والمواد الغذائية كالفواكه وغيرها“.

يبحث الناس عن وسائل لتأمين وتحسين العيش فلا يمكن الاعتماد على الراتب ولجأ الكثير منهم لاستبدال البيوت ببيعها وشراء أصغر منها أو تغيير المنطقة إلى مناطق الضواحي للاحتفاظ بوفر مالي لفتح مشروع صغير لهذا سترى أن المحلات التجارية تتكاثر ولكنها جميعا تحت ضغط التضخم وتغير الأسعار غير المأمون. بالمقابل ارتفع إيجار البيوت بشكل لا يوصف .

البعض باع وسائل استثمار وفشل بتحسين الوضع إذ باغته ارتفاع الأسعار المفاجئ وحرمه القدرة على تحسين الوضع كما حدث في السيارات.

الاعتماد على المؤونة التي تعد جزءاً من طقوس مجتمعنا للتعامل مع تغيرات الفصول تراجع أمام صعوبة توفيرها في موسمها بسبب الغلاء وعدم توفر ظروف الاحتفاظ بها كانقطاع الكهرباء

يقول أحدهم: ”أعمل 14 ساعة يومياً، وهذا لا يكفي. انقطعت السلات الغذائية والمعونات ولا يمكن أن نتجاوز الشهر بـ 350 ألف ليرة فقط هي أجري الشهري. يساعدنا بذلك أن  الأولاد ما زالوا صغاراً. في حالات المرض نلجأ للدين الذي نحاول جاهدين الابتعاد عنه لعدم إمكانية رده، لكن لا بد منه في المرض حيث يشكل الدواء عبئاً ثقيلاً بعد أن قفزت أسعاره قفزات لا نستوعبها. الكثير من الناس لا يذهبون للطبيب في حالات المرض العادي كالكريب والرشح ويقاومون بالأعشاب فقط وهناك من يحتمل أكثر من هذه الأمراض“.

تشكل المواصلات عبئاً آخر إذ تلتهم الكثير من الراتب الشهري، وأما التعليم الجامعي فأسعار النوتات صار أيضاً يحتاج إلى دخل إضافي.

 تقول احدى السيدات وهي أم لتوأم: “أما القهر فهو كيف ستمنح طفلاً في الابتدائية مصروفه اليومي وسعر البسكويتة الواحدة لا يقل عن 2000 ليرة؟”

يتردد البعض باستلام المازوت حين يتوفر بعد غلاء سعره. في العام الماضي كثير من الأسر لم تستلمه فالحطب يبقى أرخص رغم رائحته وما يسببه من أمراض. في الطريق إلى خارج المدينة كل يوم، وحين نصل  أول جسر نرى الغابة الصغيرة  وقد  نقصت شجرة، الشجرة التي تبتعد عن الطريق العام قليلاً، التي كانت تنمو دوماً خجولة لا تلفت النظر، وكل يوم سندرك أن  الأشجار التي تسند خصر الجسر تنقص فرداً جديداً. إلا أن بقايا الجذوع بقيت قائمة فوق التراب كشواهد قبور ومبعثرة كأنها جنود سقطوا في معركة.

  ستنتبه فوراً لهذا النقص، فالأشياء التي تكمل المشهد لا نثمن وجودها إلا حين نفتقدها إذ تترك نقصاً ما في مشهد ألفته العيون وسيترك غيابه عيباً ندركه بسرعة. ثم ستنسى ذلك حين تختفي الغابة كليا، كأنها لم تكن يوما. وعلى طول الطريق ستجد أن الأشجار نقصت بطريقة مواربة كأن من قطعها ترك بعضها ليخفي ما غاب ولا أعرف ما المعيار في اختياره.

 هذا العام لاحظ الجميع أن الأعياد لم تترافق بزينة كثيرة. شكلت حرب غزة جزءاً مهما في ذلك،  لكن السبب الرئيس هو أن الجزء الأكبر من الناس بدأ بتقليص النفقات  دون تردد. ويطوف في ذاكرتي ذاك اليوم الذي يبدو الآن  بعيداً جداً حين قررنا الحصول على شجرة طبيعية لعيد الميلاد ليفرح الأطفال بها وبتزيينها. كان من الصعب الحصول عليها فالثلج قد تساقط وكان ذلك غير قانونيا، اكتفينا بغصن جميل، أحضرناه فبدا كغابة مزينة في منزلنا. أتذكر تلك اللحظة التي عشناها بسعادة بالغة و رفاهية روحية. لم تعد الأشجار تدخل إلى المنازل كغابة فرح  أو زينة للأيام التي نتوخاها في العيد، بل تدخل ميتة ومحطمة، كهذه الأيام والسنوات، ولتحترق رغم أنها لا زالت تشكل  ثروة لأملٍ بالدفء.

٤

أتذكر الآن  ما قرأته في رواية عداء الطائرة الورقية لخالد الحسيني حين يعود البطل إلى افغانستان ويجد مدينته قاحلة بلا شجرة واحدة مستغرباً ذلك، ليكتشف ان السكان قد اقتلعوا كل الأشجار للتدفئة، احترقت الأشجار ليتدفأ البشر لكنها بقيت مقيمة في ذاكرة الكاتب .

بعد سنوات طويلة من الحرب ومن معاناة البشر لا يعود بالإمكان النظر للشجر المقطوع بشاعرية  فالمهم الإنسان، المهم أن هناك أطفالاً وعوائل تتدفأ فهناك حرفياً عوائل لن تستطيع حتى شراء الحطب.

 ارتفعت أسعار زيت الزيتون بشكل صارخ وصار معتادا أن ترى من يشتري الزيت بما يكفي لطبخة واحدة أو وجبة واحدة، إلى جانب التضخم هناك هبوط الكميات بسبب الحرائق التي نالت الأشجار في مناطق كثيرة. ستشاهد من يشتري مقدار كأس الشاي زيتاً حتى أنه لا يكفي لإتمام الطبخة، الزيت الذي قد يكون عند بعض العائلات وجبة وحيدة مع الملح فيغمس الأولاد الخبز به  لعدم توفر الحواضر للعشاء.

  حين احترقت أشجار قريتنا كان الرماد يغطي الأرض، المعنى الحقيقي  لعبارة عن بكرة أبيها. رغم ذلك نجت  شجرات متفرقة على السفح كانت تبدو وحدها وسط الرماد مثل طفل مذنب، يخونها الانتصاب، وتكاد الريح التي تبعثر رماد أخوتها، تنيخها للأرض.

 قد تحمل النجاة عبء جرم الشهادة، وقد تصبح النجاة ذنباً ممضاً كجرح  لا يشفى إلا بعودة الحياة  للبقية.

أينما التقيت بالناس سترى كيف بات التوتر سمة عامة. تقول ف .ر:” كل شيء نطبق عليه التقنين إلا التوتر والعصبية والغضب الدائم، الصوت العالي صار طبيعياً، ونبرة الاستفزاز والهدوء عملة نادرة تسرب العنف إلى الأطفال نتيجة ما يعانونه ويرونه من الأهل. فالجو الأسري دوماً مشحون وتتعقد الأمور أكثر بغياب الأب الذي يعمل ساعات طويلة. وكذلك  في البيوت التي تسكنها عدة عائلات نتيجة التهجير وريثما يتمكنون من العودة لبيوتهم مما يحرم أي أسرة خصوصيتها وحميميتها وقدرتها على التفاهم “.

سيرى المراقب أن النساء اللواتي يمارسن رياضة المشي يتجهن إلى أطراف الأحياء  لجمع النباتات البرية التي ستكون وجبة شهية بدون ثمن كالخبيزة أو الهندباء، وهناك نساء يحصلن عليها من الحدائق العامة بلا تردد.

تقول م.ر إن راتب زوجها لا يكفي حتماً فتلجأ للعمل في البساتين القريبة كقطاف ورق العنب أو عناقيده أو زهور القبار قبل أن تتفتح . وهو ما انتشر  في القرى بشكل كبير والضواحي: جمع زهور القبار لصالح التجار حيث يباع بالكيلو لتصديره للخارج. أعمال موسمية مجهدة ومتعبة لا بد من ذلك للاستمرار وأي عمل سيكون مساعداً فهناك الكثير من العائلات ليس لديها أحد في الخارج ليرسل حوالات تعينها على الظروف.

لم يعد أحد يفكر بالتوفير فكل ما يحصل عليه هو قوت يومه والسؤال الكبير كيف تدبر الأسرة أمورها في هذه الأيام ستكون الإجابة عليه من الصعوبة بمكان، لأن الوضع يفوق التخيل.  

مواضيع ذات صلة

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

مواضيع أخرى

في وقت فراغي: ستَّة نصوص لِـ(أديبة حسيكة)

في وقت فراغي: ستَّة نصوص لِـ(أديبة حسيكة)

(1) في وقت فراغي كنتُ أملأ الأوراق البيضاء بالحقول كان يبدو الفجر أقرب و السحاب يمرّ فوق الطرقات بلا خسائر..  وكان الماضي  يمتلئ  بالألوان. لا شيء مثل اللحظة حين لا تجد المسافة الكافية لتخترع أجنحة تكاد تنمو كزهرة برية.  بدأتُ أجمع صوتي من الريح و أفسّر...

فصلٌ من القهر والعذاب: كيف مضى فصل الصيف على سوريا؟

فصلٌ من القهر والعذاب: كيف مضى فصل الصيف على سوريا؟

لم يكتفِ الناس في سوريا من معاناتهم وأوجاعهم اليومية، التي فرضتها ظروف الحرب وما تبعها من أزماتٍ متلاحقة وتردٍ في الواقع الاقتصادي والمعيشي، حتى أتى فصل الصيف، الذي سجل هذا العام ارتفاعاً كبيراً وغير مسبوق في معدلات درجات الحرارة، وكان الأقسى على البلاد منذ عقود،...

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

رغم انتشار ثقافة المطالعة واستقاء المعلومات عن طريق الشبكة العنكبوتية إلا أن ملمس الورق ورائحة الحبر بقيا جذابين للقارئ السوري. ولم تستطع التكنولوجيا الاستحواذ على مكان الكتاب الورقي، أو منافسته. وبقي الكتاب المرجع الأساسي والحقيقي لأي بحث علمي وأكاديمي، ولم يستطع...

تدريباتنا