تدريباتنا

خدمة العلم تحول السويداء إلى سجن لرجالها

بواسطة | أكتوبر 16, 2018

يشغل هاجس الخدمة الإلزامية الشباب السوري ويأخذ حيزاً كبيراً من همومهم وحياتهم منذ سنوات، إلا أن القصة اتخذت بعد الحرب أبعاداً أخرى كثيرة، لتتحول لمشكلة حقيقية يعاني منها الآلاف في عموم سوريا وفي السويداء بشكل خاص.

تشير أرقام تقديرية غير رسمية إلى أن عدد المتخلفين عن الخدمة العسكرية في السويداء تجاوز ٣٠ ألفاً بين فار من الخدمة و متخلف عنها، بنسبة قد تصل الى ٥٠ بالمئة من عدد شبان المحافظة الذين تتراوح أعمارهم بين ١٩ و٤٢ عاماً وهو سن التكليف والخدمة.

يقول نايف الذي يعمل شرطياً في إحدى القرى وهو على أبواب التقاعد: “باتوا يلقبونني بالقرية بالبومة أو وجه النحس، فمنذ خمس سنوات، اقتصر عملي على تبليغ المطلوبين للخدمة العسكرية، وبت ألحظ توجس الناس مني ونفورهم عند رؤيتي، لكن هذا عملي وعليّ القيام به.”

لم يتوقف الشبان عن الالتحاق بالخدمة أو البقاء فيها في الأشهر الأولى من الاحتجاجات، لكن الوضع تغير مع تصاعد العنف والتحول نحو المواجهات المسلحة، إضافة لإيقاف الحكومة لقرارات التسريح وطلب جنود للاحتياط، وبهذا أصبحت الخدمة العسكرية أشبه بالدخول إلى نفق مجهول النهاية.

وخلافاً لباقي المناطق السورية، لم يؤثر الموقف الشعبي من الحرب في هذه المسألة (معارضة وموالاة)، حتى أنه يمكن القول أن التخلف عن الخدمة في السويداء جعل موقفها مما يجري محايداً وبدت خارج الاصطفافات التي فرضتها جغرافية الحرب وطوائفها.

رفض عدد من الشبان الالتحاق بالجيش نتيجة لموقفهم السياسي أو الفكري، لكن للنسبة الأكبر من الرافضين أسباباً أخرى مختلفة شخصية أو عامة، مادية أو نفسية.

عن أسبابه الخاصة يقول عبد السلام وهو جندي فار من الخدمة “لم أستطع تحمل مشاهد الحرب اليومية، فما عانيناه لا يوصف أبداً، كنت على حافة الانتحار، وقررت الفرار من الحرب.” يضاف إلى الأسباب النفسية أيضاً التمييز والفساد داخل الجيش بالإضافة إلى المعاملة السيئة والإهانات المتكررة التي يتلقاها المجندون، وعن هذا يروي رواد، وهو أحد الجنود الذين شاركوا في جبهات الغوطة، “حتى في أشد اللحظات قسوة وأكثرها خطراً كان التمييز على الأساس الطائفي أو المناطقي موجوداً في طريقة التعامل وفي طبيعة المهمات الموكلة إلينا.”

كذلك لم تعد للخدمة العسكرية في زمن الحرب فترة محدودة يقضيها الشاب ويمضي في حياته بعدها، بل أصبحت حياة كاملة لا يُعرف متى تبدأ ولا متى تنتهي، فقرار التسريح بيد السلطات العليا فقط.

الموت على الجبهات أو الموت جوعاً

جاءت طلبات الجيش لتجنيد قوات احتياطية من الشبان، كارثية مع تردي الوضع المعيشي والأزمات الاقتصادية الحادة التي مرت في السنوات الماضية، فمعظم من طُلبوا معيلون لأسرهم، والذهاب للخدمة يعني موت باقي أفراد أسرتهم جوعاً، فراتب العسكري لا يكفيه شيئاَ في ظل الظروف الحالية، وإن حدث ومات في الحرب فلا تعويضات لأسرته تحميها من العوز وتأمن حياتها بعده.

يشرح أكرم الذي رفض الذهاب للخدمة ظروفه قائلاً: “ما هذه السخرية والاستخفاف بحياة الناس، يعوضون قتلى الحرب بساعة حائط أو درع شرف وبأحسن الحالات برأس من الماعز! أبي وأمي عاجزون تقريباً وأنا لدي ثلاثة أطفال وزوجة، ومسؤول عن إعالتهم جميعاً، فإن مت في الحرب هل ستكفيهم العنزة؟”

أما عن نتائج التخلف عن الخدمة العسكرية، فهي تعميم الاسم على الحواجز والحدود وكافة الدوائر الرسمية والأمنية، ليصبح الشاب مطلوباً لها، وتتجمد حياته بالكامل فلا يستطيع استصدار أي ورقة رسمية مهما كانت، من جواز السفر وصكوك الملكية وعمليات البيع أو الشراء، حتى تسجيل الزواج أو المواليد الجدد وتجديد أوراق ثبوته. إضافة إلى ذلك يصبح التنقل بين المدن مستحيلاً أيضاً نتيجة انتشار الحواجز في كل مكان.

من تداعيات المشكلة أيضاً الملاحقة القضائية والقانونية وبالأخص لموظفي القطاع العام أو المشترك؛ فبمجرد التخلف عن الخدمة، يُفصل الموظف من عمله، ويحرم من تعويضاته كاملة، ويصدر بحقه حكم قضائي أيضاً وغرامات مالية، وأدى هذا إلى حدوث أزمة في أعداد الموظفين بالمنطقة إذ بات من النادر أن تجد مدرساً أو موظفاً شاباً في تلك الدوائر.

ممنوع من السفر ومن العودة

تعتمد السويداء في اقتصادها بشكل أساسي على الموارد التي تأتيها من عمل أبنائها في الخارج سواء في المدن السورية الأخرى أو في دول الجوار وأميركا الجنوبية، إلا أن تفاقم مشكلة الخدمة العسكرية حرم الكثيرين من السفر، ومنع الكثيرين أيضاً من الزيارة، حتى أن بعض الشبان  الذين جاؤوا لقضاء إجازتهم في البلد تفاجؤوا بطلبات الاحتياط تنتظرهم ليُمنعوا من السفر ويخسروا عملهم وأرزاقهم في الخارج، وبهذا أصبحت الكثير من العائلات منقسمة ومشتتة بين الداخل والخارج.

توضح قصة مهند هذه التداعيات، فهو مدرس تاريخ متزوج ولديه طفل، اعتاد في كل صيف الذهاب إلى لبنان للعمل في محلات أقربائه ثم العودة مع بداية العام الدراسي ليتابع عمله في سوريا. إلا أن حياته انقلبت إلى كارثة خلال إحدى سفراته الحديثة، عندما أخبرته زوجته بأنه طُلب للخدمة العسكرية، يقول مهند: “لا أستطيع التحمل أكثر، أشتاق إلى زوجتي وابني، هم وحيدون في السويداء وأنا هنا، والتكاليف المادية مرهقة لا أقوى على تحملها، زوجتي موظفة أيضاً ولم يُقبل طلب استقالتها لتنتقل للعيش معي، تضطر لزيارتي كل ستة أشهر، ولا حل يلوح في الأفق.”

ومن الأشخاص الذين تأثروا أيضاً بتداعيات الخدمة العسكرية، سليم الذي اعتاد العمل كسائق على خط دمشق—السويداء، حيث كان يذهب كل يوم بسيارته لسوق الهال في العاصمة ويأتي محملاً بالخضار والمواد الغذائية ليبيعها في السويداء. “منذ طلبت للخدمة، تغيرت حياتي بالكامل لا أستطيع الالتحاق لأسباب كثيرة، ولم يعد بمقدوري العمل على السيارة، فأصبحت عاطلاً عن العمل وخسرت كل شيء” يقول سليم.

إضافة لتشتت العائلات وقطع الأرزاق والسجن داخل المحافظة، يعاني الفارون من الخدمة من صعوبات صحية، إذ لا تتوفر الكثير من الخدمات الطبية الاختصاصية بالسويداء، ويضطر العديد من السكان أن يذهبوا لدمشق لقربها الجغرافي، إلا أن الحواجز على الطرقات الآن تمنع المطلوبين من فعل هذا.

يروي أحمد وهو شاب في الـ٣٧ من عمره ومطلوب للخدمة العسكرية: “تعرضت لأزمة قلبية وأحتاج لإجراء عملية قثطرة في دمشق، ولأن السويداء لا يتوفر فيها جهاز طبي لوضعي الصحي، بات خطر المرض يهدد حياتي”، وليس لدى أحمد أي حل فإما يعتقل لفراره من الخدمة أو ينتظر مصيره في السويداء.

تزداد مشكلة المتخلفين عن الخدمة اليوم تعقيداً في ظل الأوضاع الأمنية والاقتصادية الصعبة التي تمر بها السويداء، ومع غياب الحلول وازدياد أعداد المطلوبين سقطت المدينة فيما يشبه الغيبوبة، وهي أمام خيارين إما أن تقدم صك براءتها أمام الحرب والاصطفافات و تدفع بأبنائها إلى الموت أو تتحول إلى سجن كبير لهم.

مواضيع ذات صلة

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

طيب تيزيني اسم أكبر وأهم من أن نُعرِّفه عبر سطور أو صفحات قليلة؛ لأنه جسَّد أفكاره تجسيداً عملياً، فكانت مؤلفاته تفيض من تفاصيل حياته ومواقفه الإنسانية والسياسية، وكانت حياته ومواقفه وبحق تعبيراً صادقاً عن أفكاره وفلسته، فكان فيلسوفاً بل حكيماً بكل ما تعنيه هذه...

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 خلال مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء، والتي استمرت لأكثر من نصف قرن، أبدَعَ مدرسة لحنية وغنائية متفردة وغنية ومتكاملة، تركت بصمتها المؤثرة في تاريخ الموسيقى العربية، وقد ساعدته موهبته في الغناء في فهم طبيعة الأصوات التي لَحَّن لها، فكان يُفصِّل اللحن على مساحة...

جُرح في الزوبعة

جُرح في الزوبعة

كانت حياة أنطون سعادة القصيرة (1904-1949 م) أشبه بدورة الإله بعل في الميثولوجيا الكنعانيّة القديمة، فبعل الذي يموت ويولد على نحوٍ أبديٍّ، وفقاً لـ"ألواح أوغاريت"، يرمز إلى "بلاد كنعان" أو "فينيقيا" تبعاً لتسميتها اليونانيّة القديمة، هذه البلاد التي مهما حاقَ بها من...

مواضيع أخرى

مثل الماء لا يُمكن كسرها

مثل الماء لا يُمكن كسرها

لم أستطع أن أخفي دهشتي حين قرأت المجموعة الشعرية "مثل الماء لا يُمكن كسرها" للشاعرة السورية فرات إسبر، فالنص مدهش وغني بالتجربة الإنسانية للمرأة في علاقتها بذاتها وبالعالم حولها، ويعبر عن صوت المرأة الحرة الشجاعة والمبدعة، صوت الأم والعانس والأرملة والعاشقة. أعتقد أن...

سوريا: كسوة العيد للأطفال محكومة بالأزمة الاقتصادية الحادة

سوريا: كسوة العيد للأطفال محكومة بالأزمة الاقتصادية الحادة

حرصت عائلات سورية -في أعوام خلت- على شراء الملابس الجديدة قبيل عيد الفطر، وبخاصة للأطفال كي يشعروا بالبهجة والسرور، غير أن التضخم وتراجع القدرة الشرائية، إلى جانب تدني دخل الأسرة بفعل الأزمة الاقتصادية الحادة أثر بشكل سلبي على هذه العادة. في جولة لنا على عدد من...

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

لشهر رمضان في سوريا عاداتٍ وطقوسِ اجتماعية وإنسانية، حرصت العائلات السورية على توارثها والتمسك بها عبر عشرات السنين، حتى تحولت إلى ما يشبه التراث الاجتماعي، ومن أشهرها "سِكبة رمضان" التي  تخلق حالة من الألفة والمحبة والتكافل الاجتماعي بين الناس، الذين يتبادلون...

تدريباتنا