تدريباتنا

سوريا… دون عقول

بواسطة | مارس 15, 2022

يتدفق الاستنزاف السوري للكفاءات والعقول، مع تزايد الطلب للهجرة، حيث باتت البلاد شبه فارغة من طاقاتها التي من الممكن أن يعوَّل عليها مستقبلاً للتعافي من آثار الحرب، في ظل تعامٍ حكومي مريب عن أهمية هذه الموارد البشرية والفكرية؛ بل بالعكس من ذلك، تنتهج الحكومة سياسة “التطفيش” مع عجزها عن تأمين الخدمات الأساسية والوظائف والدخول الكافية، ورعيها لعملية فساد منظم في كل قطاعات البلاد، في ظل أزمتها الاقتصادية الخانقة، خاصة مع الاستنقاع السياسي الحاصل، وغياب الأفق بأي تغيير أفضل في بلاد تحكمها احتلالات متعددة وتداعيات أمنية ومالية وعصاباتية كثيرة، كانت كفيلة بانهيار الأحوال المعيشية للسوريين بشكل دراماتيكي، لتصل نسبة الفقر الى 90%، وليعاني 60% من السوريين من انعدام الأمن الغذائي وفقا لتقرير الأمين العام للأمم المتحدة إلى مجلس الأمن حول تمديد آليات المساعدات الإنسانية العام الماضي، “وحتى هذه اعتادوا أن يصلهم منها الجزء الشحيح والردي بعد دخولها في دوائر الفساد”.
حاملو الشهادات هم أكثر من يفكر بالهجرة، فهم يقارنون أنفسهم بمن هاجر منذ بداية الحرب، أو في الموجة الثانية للهجرة 2015، نادمين على تمسكهم ببلدهم، وقد تحولت حياتهم فيه إلى غربة، واغتراب عن أعمالهم. يقول حسام، وهو مهندس مدني، “بمرور الوقت تحولت إلى كائن غرائزي، همه كيفية تأمين الأكل والشرب في دوامة لا تنتهي على مدار ساعات اليوم، وصرت مجرد رقمٍ في طابور الخبز والمحروقات والسكر والرز والصرافات، وممزقا بين عملي الوظيفي صباحاً وعملي كمحاسب في مطعم مساء لتأمين قوت عائلتي… كيف تدرس ابنتي الجامعية بالبرد والعتم، وماذا ينتظر أولادي بعد تخرجهم؟ فقط أنتظر سعراً معقولاً لمنزلي يكفي تكلفة السفر”.

اكثر تضررا
قطاعا الصحة والتعليم هما الأكثر تأثراً بهجرة الكوادر العلمية؛ فتدني الأجور هو أحد الأسباب التي تدفع الأطباء إلى الهجرة، بحثاً عن مستوى معيشي أفضل يتناسب مع مؤهلاتهم. ووجهتهم الخليج أو أربيل أو الصومال أو الدول الأوربية؛ فالأطباء السوريون في ألمانيا مثلاً، من غير الحاملين للجنسية الألمانية، يزيدون على 5200 طبيبة وطبيب، وهو أكبر عدد بين الأطباء الأجانب، وفقا لإحصائية أجرتها نقابة الأطباء الألمانية عام 2021 .
الكارثة الأكبر على الصعيد الطبي هي النقص الحاد في أطباء التخدير، وقد دقت رئيسة رابطة التخدير في نقابة الأطباء، زبيدة شموط، في تصريح لجريدة “الوطن” أواخر 2021، ناقوس الخطر، حول الاستنزاف الكبير في أعداد أطباء التخدير، فعددهم بات 500 طبيب تخدير، بينما تحتاج البلاد إلى أكثر من 1500. والمتواجدون هم في سن 55الى 65، ولا يوجد سوى ثلاثة أطباء تحت سن الثلاثين. يتم التعويض عن هذا النقص بممرضين، بينما وجود طبيب التخدير أساسي في أي عمل جراحي، ما يزيد الخطورة على حياة المرضى.
70 بالمئة من خريجي طب الأسنان الجدد يهاجرون، حسب تصريح لنقيب أطباء الأسنان في اللاذقية، طارق عبد الله، إلى صحيفة البعث مؤخراً. يقول جورج، وهو طبيب أسنان، “إن الحكومة تفرض الضرائب العالية على مستلزمات المهنة، في ظل تدهور الوضع المعيشي، وصعوبة العمل مع انقطاع الكهرباء وغلاء كلفة البدائل… إنها ترى عملنا مجرد مهنة تجارية، وليس حاجة إنسانية”.
قبل الحرب والأزمة السورية، وعلى مدى عقود، كانت جامعاتنا تعاني من غياب منظومة البحث العلمي والابتكار، وتدني نسبة الإنفاق على التعليم العالي، وعدم تناسب المستوى العلمي والمعرفي للكفاءات مع مستوى التطور التقني والاقتصادي، و تدني الدخل، وتوغل البيروقراطية والمحسوبيات، مما شكل دافعاً لهجرة الكثير من الكفاءات في السابق. وهذا ازداد سوءاً خلال الأزمة السورية، وانعكس على نوعية التعليم بشكل عام. فقد أعلن المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس في عام 2016، خروج سورية من مؤشر جودة التعليم، لعدم التزامها بمعايير الجودة في التعليم، حسب مركز دمشق للدراسات والأبحاث “مداد”.

أسباب نفسية
خسر التعليم العالي حوالي 20 في المئة من أعضاء الهيئة التدريسية في مختلف الجامعات بسبب الهجرة، بحسب تصريحات وزير التعليم العالي السابق، عاطف النداف، عام 2017، وقد عزا هذه الظاهرة إلى “أسباب اقتصادية واجتماعية ونفسية مرتبطة بالظروف الراهنة،” خاصة مع انخفاض الأجور. ووفقاً لأستاذ بجامعة البعث “إذا رغب الأستاذ بشراء مرجع أجنبي لتطوير معارفه فهو يحتاج مبلغاً يعادل راتبه الشهري إضافة إلى القيود البيروقراطية في منح الموافقات وتدني أجور التأليف، هذا اذا لم نتكلم عن أجورنا الشهرية”.
استبدل طلاب الجامعات أحاديثهم عن التنافس والتحصيل العلمي على مقاعد الدراسة، بأحاديث عن الطرق المتاحة للهجرة، في ظل التراجع في جدوى التحصيل العلمي؛ يحلم أحمد، وهو طالب علوم، بالهجرة: “لا أريد أن أمشي على خطا والدي الجامعيين في حساب وتقنين ما تبقى من رواتبهما الشحيحة، منذ الأيام الأولى من الشهر. بينما يقول علاء، خريج معلوماتية في الثلاثين من عمره، “تسرب مستقبلي من بين يدي بعد سنوات الاحتفاظ بالخدمة الإلزامية؛ أنا الآن عامل في مطبعة خاصة، نسيت مصطلحات البرمجة التي كانت فيما مضى تضيف هالة على حضوري، بت أخجل من نفسي ولا بد من الرحيل”.
يعاني كثير من السوريين من مشكلة تأمين تكاليف الهجرة؛ فبعد أن يئست سناء، خريجة الفنون الجميلة، من إيجاد فرصة عمل جيدة، اتبعت دورات مهنية في فن الوشم، وبدأت تعمل في هذا المجال الذي يدر عليها دخلاً يضاعف ما يجنيه والداها الجامعيان، تريد السفر إلى دبي، لتعمل في هذا المجال، وتجمع المال اللازم لإكمال دراستها في إحدى الجامعات الأوربية، حيث تجد احتراماً للفن.
تغيب الأرقام الرسمية لأعداد الشباب المهاجر، لتبقى الإحصاءات محصورة بتقارير المنظمات الدولية ودراسات مستقلة. أكدت دراسة صادرة عن مركز دمشق للأبحاث والدراسات (مداد)، بعنوان “هجرة الكفاءات والعقول السورية نزيف تنموي مستمر”، أن الموجة الكبيرة من الهجرة واللجوء إلى خارج سوريا منذ 2011، شملت لأول مرة شباباً وأطباء ومهندسين وعلماء وفنانين وأساتذة جامعات، وأكثر من 900 ألف سوري استقروا في ألمانيا حتى العام 2017، 40% منهم من أصحاب المؤهلات العلمية العالية، إضافة إلى أعداد أقل اتجهت إلى بقية البلدان الأوربية، والولايات المتحدة، وكندا.

خراب
وذكرت الدراسة أن التقديرات الصادرة عن النقابات المعنية تشير إلى هجرة نحو ثلث الأطباء وخمس الصيادلة (أي 33% و 20% على التوالي)، اما اساتذة الجامعات ومن مختلف الكليات فقد بلغ 1220 أستاذا ، ويقدر عدد المهندسين بـ 8521 مهندسا على تنوع تخصصاتهم، وحملة الإجازة الجامعية (المجاز) تجاوز 21480، وهناك أعداد كبيرة جدا من الوافدين السوريين الى الجامعات العالمية للحصول على درجات الماحستير والدكتوراه وتقول الإحصاءات ان 70% منهم لن يعودوا الى سوريا.
كما استطلعت دراسة لمعهد بحوث العمالة (IAB)، والمكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين (BAMF)، والمعهد الألماني للبحوث الاقتصادية (DIW برلين) الكفاءة العلمية للاجئين السوريين الذين تقدموا بطلبات للحصول على اللجوء في ألمانيا ما بين 2013-2016، وخلصت إلى أن 40% حاصلون على الشهادة الثانوية فما فوق، و22% حاصلون على الشهادة المتوسطة.
ليست الحرب وما تبعها من خراب هي الدافع الوحيد لهجرة العقول السورية، أورد الباحث السوري، محمد جمال باروت، أن سوريا تصنف من البلدان الطاردة للكفاءات العلمية، وتحتل المرتبة الأولى بين الدول العربية حسب مؤشر هجرة الأدمغة المعتمد ضمن منهجية قياس المعرفة للبنك الدولي بنسبة 2.3% للمؤشر المتدرج من 1 حتى 7 حسب التقرير العربي عن المعرفة لعام 2009. وقدرت دراسة لخبراء الهجرة والتنمية في الأمم المتحدة نسبة هجرة الكفاءات ومن هم في طور الكفاءات وفق مؤشر مستوى التعليم بأكثر من ثلاثة أخماس المهاجرين السوريين الى دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD لعام 2000
وحسب مصادر الجمعية الطبية العربية الأميركية، إن عدد الأطباء السوريين في الولايات المتحدة الامريكية يفوق 6000 طبيبا من أصل 15 الف طبيب عربي، و 18 ألف طبيب مقيم في ألمانيا من أصل عدد الجالية السورية المقدرة ب 59 ألفا عام 2008. ولا تشمل الاحصائيات السابقة الكفاءات العلمية التي هاجرت إلى دول مجلس التعاون الخليجي، حيث كانت تحدث هجرات نوعية للنخب العلمية بعضها لبضع سنوات.
لن تتوقف هجرات العقول السورية، ليضاف “طابور” الانتظار على أبواب دوائر الهجرة والجوازات إلى “طوابير” اعتادوها مكرهين عله يكون الطابور الأخير قبل الخلاص. لكن، رغم الأمان الذي يتحدث عنه اللاجئون و “العيش الكريم” خاصة في الدول الأوروبية، فإن اختلاف الثقافة واللغة والنظام بين البلدين، إضافة إلى جائحة كورونا، أثرت على اندماج اللاجئين في المجتمع و سوق العمل، ما يعني ضياع سنوات من حياتهم دون العمل في اختصاصاتهم، لضرورة تعديل مستوى التعليم. يضاف إلى ذلك فترة زمنية ليست بالقصيرة للتدريب على العمل، مع تأخر سوريا في هذا المجال، وهذا يضيف صعوبات أخرى وخاصة للاجئين من الفئات العمرية الكبيرة.
تحاول الحكومة الاستثمار في ملف اللاجئين، بعقد “مؤتمرات لعودة اللاجئين ” بدعم وتنظيم روسي، لترسيخ قناعة أن “سوريا آمنة”، الأمر الذي تنتج عنه مكاسب سياسية، للشروع بعملية إعادة الإعمار، في قطاعاته الريعية، واستغلال عقودها المربحة عبر شبكاته وأذرعه الاقتصادية داخل وخارج سوريا، متجاهلة أهمية الكوادر البشرية المدرّية والكفؤة، في ظل تعاميها عن موجات الهجرة التي حدثت وستحدث، والتي ربّما تحول سورية إلى دولة كهلة سكانياً. وبالتالي مواجهة نقص الكفاءات والإفادة منها عن طريق استيراد الكفاءات الغربية بتكلفة كبيرة؛ في دراسة للباحث الاقتصادي الدكتور عمار يوسف، أكد أن هجرة الكوادر تعدّ الخسارة الأكبر، لكونها شكلت نزفاً مركباً للاقتصاد الوطني يصعب تعويضه قريباً، إضافة إلى الوقت والمبالغ الهائلة التي تحتاج إليها لإعادة تأهيل كوادر جديدة. وتقدر الدراسة تلك الخسائر لنهاية 2016، بـ40 مليار دولار.

اللاجئ
صرح مسؤول هولندي مؤخرا ان “اللاجئ السوري أفضل استثمار حصلنا عليه خلال هذه المرحلة “؛ فحوالي ٢٥٠٠ طالب سوري في الجامعات الهولندية خلال السنوات الثلاث الأخيرة، من عدد أبناء الجالية، والذي يقارب المئة ألف، ونصف الجالية هم تحت الثامنة عشرة. أما الطلاب الذين سجلوا في المعاهد التطبيقية فيكاد يصل إلى ضعف هدا العدد. وقد دخل مجال العمل الأكاديمي نحو أربعين شخصا ما بين باحث وأستاذ جامعي وطالب ماجستير، وأطباء الأسنان بدؤوا بفتح عياداتهم، وأكثر من ١٠ بدؤوا العمل من بين ٧٠ طبيبا…وحصل عدد من الأطباء على فرص عمل في أهم المشافي، أو هم في طور التعديل، وكذلك عدد من الصحفيين.
فيما تسعى بلدان و مجتمعات إلى التسابق في حيازة المعرفة وتوظيفها، وصولاً إلى القيمة المضافة العالية الناتجة عن الاستثمار في الذكاء الإنساني ومناجم العقول، بوصفهما ثروة لا تنضب، وأن يكون الإنسان وسيلة للتنمية وغاية لها في آنٍ معاً؛ فإن الحكومة السوريّة تسابق الزمن في هدر الطاقات الإنسانية وشل عقولها، ليصبح حال السوريين في الداخل أشبه بتعليق للكاتب السوري محمد الماغوط على المجموعة القصصية “النمور في اليوم العاشر” لزكريا تامر: “كنا ندرس يا أولادي من قبل، كيف يتطور المخلوق البشري في مناطق كثيرة من قرد إلى إنسان. والآن سندرس كيف يتطور المخلوق البشري في هذه المنطقة من إنسان إلى قرد. وأهله وحكامه يتفرجون عليه من النافذة وهم يضحكون”.

مواضيع ذات صلة

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

 "كنت أحلم بلوحةٍ تستطيع أن تخاطب بجمالياتها شريحة أوسع من الناس، لوحة تستطيع تجاوز مجموعة الجمهور التي تتكرر في حفل الافتتاح لأي معرض". ربما توضح تلك الكلمات، وهي للفنان نذير نبعة، مدى تبنيه وإخلاصه للفن، الذي كان رفيق دربه لأكثر من ستين عاماً، فهو الفنان الذي...

مواضيع أخرى

فصلٌ من القهر والعذاب: كيف مضى فصل الصيف على سوريا؟

فصلٌ من القهر والعذاب: كيف مضى فصل الصيف على سوريا؟

لم يكتفِ الناس في سوريا من معاناتهم وأوجاعهم اليومية، التي فرضتها ظروف الحرب وما تبعها من أزماتٍ متلاحقة وتردٍ في الواقع الاقتصادي والمعيشي، حتى أتى فصل الصيف، الذي سجل هذا العام ارتفاعاً كبيراً وغير مسبوق في معدلات درجات الحرارة، وكان الأقسى على البلاد منذ عقود،...

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

رغم انتشار ثقافة المطالعة واستقاء المعلومات عن طريق الشبكة العنكبوتية إلا أن ملمس الورق ورائحة الحبر بقيا جذابين للقارئ السوري. ولم تستطع التكنولوجيا الاستحواذ على مكان الكتاب الورقي، أو منافسته. وبقي الكتاب المرجع الأساسي والحقيقي لأي بحث علمي وأكاديمي، ولم يستطع...

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

بقي الريف السوري محروماً من المسرح إلى أن أنشأت مديرية المسارح والموسيقى في وزارة الثقافة ما أسمته "المسرح الجوال" عام ١٩٦٩، والذي بدأ عروضه بنشر الوعي المسرحي في الريف والمناطق الشعبية والنائية. صارت الصالة في كل مكان  والجمهور ضمنها، وكان كسر الحواجز بين...

تدريباتنا