تدريباتنا

كل أيامنا صيام: السوريون في رمضان

بواسطة | أبريل 14, 2023

“رمضان؟، صيام؟، طقوس؟، هل تعتقد أنّنا نصوم بكيفنا، إذا ما استبعدنا الجانب الديني، فكلّ أيامنا في سوريا صيام، ما الذي اختلف الآن؟ منذ عامين لم تدخل اللحوم الحمراء منزلي، أهذا منطقي في بلد زراعي؟. بل أين المنطق أن يصل سعر كيلو الخيار لعشرة آلاف ليرة، في بلد زراعي أيضاً، هذه كذبة كبيرة، نحن لسنا بلداً زراعياً ولا إنتاجياً ولا رعوياً. نحن بلد أثبتت الحرب فيه أنه رأسمالي برجوازي يحكمه الإقطاع المتلون في عباءات مختلفة”.
يقول المهندس عبد الرحمن مراد في حديثه مع “صالون سوريا” مستذكراً أياماً كان الخير فيها يطوف على العباد بحسب تعبيره، فالمهندس الأربعيني الذي يعمل في وظيفة حكومية، يكاد دخله لا يكفي لأدنى متطلبات الحياة لا الكريمة، ولا حتى شبهها، بل تلك التي تبقيه على خط الفقر أقلّه، وعلّه ينال ذلك.
يضيف عبد الرحمن في حديثه: “الصيام سنة لا نتجاوزها كأسرة، ولكن في ذات الوقت لا يمكننا إغفال أنّ أيامنا جميعها أصبحت تتبع تلك السنة، فالمنزل الذي ليس فيه حواضر الإفطار والعشاء وطعام الغذاء، فحكماً أهله صائمون، ماذا تغير؟. فقط أننا لا نشرب الماء بين وقت الإمساك والإفطار، لا أريد أن أشكو وأندب وألطم، أعلم النتيجة سلفاً، ولكن سأكتفي بالقول إنّ راتبي الذي يبلغ نحو 130 ألف ليرة سورية، يعادل سعر كيلو لحم وكيلو جبنة، وعلى ذلك يمكن القياس”.
وبحسرة باديةٍ على ملامح مراد يتحدث عن مكونات إفطارهم الرمضاني التي تقتصر على البطاطا، “مقلية، مسلوقة، مفركة بطاطا، يا الله كم نحن مرفهون، وبالمناسبة فإنّ البطاطا ليست رخيصة، ولكنها ضمن المستطاع، أما السلطات فقطعاً ليس بمقدورنا إعدادها، صحن السلطة اليوم قد يكلف عشرين ألف ليرة”.
يحز بنفس المهندس منظر الموائد العامرة في المطاعم التي أغلقت حجوزاتها حتى نهاية شهر رمضان، متسائلاً بغرابة عن مصدر أموال الكثير من الناس في بلد جلّ رعاياه موظفون حكوميون، مبدياً قلقه من حالة التفاوت تلك، والتي يقول عنها إنّها أمعنت نهشا في الطبقة الوسطى، فأحالتها للعدم المادي، مقابل تبلور في الثراء لشريحة أخرى لا يدري هو كيف حصلت على أموالها، ولكنّه يعيد الأمر إلى معادلة رياضية غير مفهومة الأبعاد والنتائج.

شظف العيش

تعمل أم أحمد “سيدة خمسينية” كمستخدمة في إحدى شركات العاصمة دمشق، تعيل أولادها بعد وفاة زوجها مطلع الحرب، هي بدورها صائمة، وأولادها كذلك، لكنها تشترك مع المهندس وكثير من الأسر بذات المعاناة المتعلقة بانعدام الموارد التي تمكنهم من الإفطار كما يجب أن يكون. وما يجب أن يكون هو تماماً ذاك الشكل الذي يحاكي موائد المنازل قبل عقد، قبل أن تبدأ الحرب وتصيب المجتمع وطبقاته الوسطى والدنيا بشلل بات معه عاجزاً عن إتمام شؤون حياته منفرداً دون مساعدة تنتشله من حيث هو، وتلك المساعدة حكماً ليست على شكل سلة غذائية أو مساعدة عينية، فإن أعانت تلك المعونات الأسرة أسبوعاً وشهراً، فمن سيعينهم على شظف العيش بقية الأشهر؟، وهذا الرأي كان حصيلة آراء استمزجها “صالون سوريا” في معرض الحديث مع أشخاص متعددين عن الصيام القهري للكثير من العائلات السورية.

الحنين إلى فروج كامل

تغالب أم أحمد دمعتها حين تخبرنا أنّهم لا يتسحرون، لأنّ كيلو الجبنة بعشرين ألفاً، والزعتر كذلك، واللبنة بآلاف أخرى، وكما أنّهم لم يتمكنوا من إعداد مؤونة المكدوس والقريش بسبب ارتفاع الأسعار في حينه، ولكنّها توقظ أولادها ليشربوا الماء على الأقل، والشاي أحياناً، على ما تقوله.

وتضيف: “فطورنا هندباء، خبيزة، سبانخ، ما توفر من حشائش رخيصة، ومعها الخبز المدعوم، والذي والحمد لله هو نعمة، فلا زلنا نستطيع الحصول عليه كل يوم، ولكن ماذا أقول؟، براد منزلنا خاوٍ، حسبي الله ونعم الوكيل مما آلت إليه أمورنا”.

وتتابع: “في رمضان 2020، اشترينا فروجاً كاملاً وتناولناه على الإفطار، تلك كانت آخر مرة يدخل فيها الفروج منزلنا، وبعدها تدهور الحال ولم يعد بمقدورنا شراء اللحوم، وحينها كنا نتسحر، ونفطر، ونصوم، ونعد الأطباق الشهية، رحم الله أبا أحمد، كان عمود البيت وجسره، بعد رحيله، وبعد سنين الحرب تلك، نحن الآن نشد الأحزمة على بطوننا، نحن نصوم مكرهين طيلة العام. وإياك أن تعتقد أن رمضان هذا مختلف عن شعبان وما سبقه من الأشهر، فكل أيامنا ما قلّ من الطعام، ولكن حسرة في نفسي طقوس هذا الشهر الفضيل كيف تلاشت”.

أسر لا زالت تقاوم

أسر أخرى يمكن القول إنّها ما زالت تقاوم، ولكنّ عاداتها رغم ذلك تغيرت شيئاً فشيئاً، إذ درجت عادة معظم الأسر السورية أن تستقبل إفطار أول يوم رمضاني بأكلات يكون اللبن قوامها، كالشاكرية على سبيل المثال، ولكنّ الطبخة ذاتها صارت مكلفة، فتجاوزت أسر كثيرة عن ذاك الطقس.

رقية منصور واحدة من تلك النساء التي لم تتمكن من مجاراة تلك العادة هذا العام، تقول: “أنا وزوجي و4 أولاد لدينا، إذا أردنا تحضير الشاكرية فهي ستكلف ما لا يقل عن 60 إلى 70 ألف ليرة، أي أكثر من نصف مرتب زوجي. لذا تجاوزت الطبخات التي تعتمد على اللبن واللحوم، ولكن هذا ليس الأسوأ، فلم يمر يوم رمضاني سابق ولم أكن أحضر طبختين أو ثلاثاً على مائدة الإفطار، أما في رمضان هذا فقد افتتحنا شهرنا بالشوربة، وكل يوم لاحق بطبخة واحدة، وبكل حال الحمد لله، فغيرنا لا يفطر أبداً”.

وجبة واحدة

ومن جانبه يقول الشاب محيي الدين عشماوي لـ “صالون سوريا”: “في الأيام الطبيعية أتناول وجبة واحدة، فما الذي تغير في رمضان، إذاً؟”. ويؤكد أنّ أيامه كلّها صيام، وبأن لا شيء يختلف، مشيراً أنّ هذا السوء لم يكن خلال سنوات الحرب، بل هو تمادى وكبر في السنتين الأخيرتين على وجه الخصوص.

ويشرح من وجهة نظره ذلك بالعقوبات التي انهالت تباعاً على بلده، فضلاً عن تهاوي قيمة العملة المحلية وما إلى ذلك من أسباب: “في أول يوم رمضاني هذا العام قررت أن أدلل نفسي، فاشتريت ساندويش بطاطا (دبل) من مطعم وكان سعرها 9 آلاف ليرة، لو أنني سأدلل نفسي كل يوم، فسأحتاج 270 ألف ليرة في رمضان، أليس من السخرية أنّ البطاطا أصبحت دلالاً، فكيف باللحوم؟”.

لن أصوم

معروف الحسن شاب عزف عن الصيام هذا العام، بعد أن كان ملتزماً بالصوم طيلة سنين سابقة، في معرض شرح فكرته يقول: “ما الغاية من الصيام؟، أن أشعر بالفقراء، حسناً أنا فقير للغاية، على الآخرين أن يشعروا بي وليس العكس، وإذا ما كانت كل أيامي صيام، فما الفرق الآن؟، لا لن أصوم، وسأدخل الجنة إن كان لا لشيء، فلصبري على ما نحن فيه وهذا يكفي”.

وفي هذا الإطار يمكن ملاحظة توجه نسبي يتعلق بالعزوف عن الصيام، ويعود ذلك لأسباب مختلفة، دينية متجددة، اقتصادية، اجتماعية، وغيرها.

مجتمع يشعر بالبرد

وفي المحصلة هناك أناس كثيرون نهشهم الجوع المتنامي، الجوع الذي تقول الأمم المتحدة عنه إنّه ينتشر في المجتمع السوري الذي بات أكثر من 90 بالمئة منه تحت خط الفقر، وما من دلائل على ذلك أوضح من حال الناس الملحوظ في الطرقات، ولربما يمكن القول إنّ بهجة هذا الشهر تلاشت، ومعها طقوسه المميزة.

ولعلّ ما يمكن الاستدلال به على ذلك أيضاً هو منظر طفل صغير حاول “صالون سوريا” محادثته حين كان يلتصق بمولدة لإحدى المحال بغية تحصيل بعض الدفء، وفي موعد الإفطار تماماً، لكنه ارتاب ومضى لحاله، فهل ثمة ما هو أوضح من ذلك حين الحديث عن مجتمع بات كلّه “يشعر بالبرد”؟، كحال ذاك الطفل تماماً.

مواضيع ذات صلة

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

 "كنت أحلم بلوحةٍ تستطيع أن تخاطب بجمالياتها شريحة أوسع من الناس، لوحة تستطيع تجاوز مجموعة الجمهور التي تتكرر في حفل الافتتاح لأي معرض". ربما توضح تلك الكلمات، وهي للفنان نذير نبعة، مدى تبنيه وإخلاصه للفن، الذي كان رفيق دربه لأكثر من ستين عاماً، فهو الفنان الذي...

مواضيع أخرى

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

رغم انتشار ثقافة المطالعة واستقاء المعلومات عن طريق الشبكة العنكبوتية إلا أن ملمس الورق ورائحة الحبر بقيا جذابين للقارئ السوري. ولم تستطع التكنولوجيا الاستحواذ على مكان الكتاب الورقي، أو منافسته. وبقي الكتاب المرجع الأساسي والحقيقي لأي بحث علمي وأكاديمي، ولم يستطع...

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

بقي الريف السوري محروماً من المسرح إلى أن أنشأت مديرية المسارح والموسيقى في وزارة الثقافة ما أسمته "المسرح الجوال" عام ١٩٦٩، والذي بدأ عروضه بنشر الوعي المسرحي في الريف والمناطق الشعبية والنائية. صارت الصالة في كل مكان  والجمهور ضمنها، وكان كسر الحواجز بين...

“وفا تيليكوم”: اتصالات إيرانية على أراضٍ سورية

“وفا تيليكوم”: اتصالات إيرانية على أراضٍ سورية

ينتظر السوريون في الأسابيع المقبلة بفارغ الصبر وفق تصريحات حكومية انطلاق المشغل الخلوي الثالث "وفا تيليكوم" المرتبط بإيران التي ستدخل على خط الاستحواذ في قطاع الاتصالات الحساس والذي ظلّ حكراً على متنفذي السلطة لعقود. من خلال التواصل المباشر مع مصادر متعددة من داخل...

تدريباتنا