أجرى فريق #صالون_سوريا، دورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة الحساسة...
تدريباتنا
ورشة تدريب صالون سوريا
يعلن فريق #صالون_سوريا، التحضير لدورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة...
ارتبطَ اسمُها نضالاً وكفاحاً بقافلةِ شهداءِ السادسِ من أيار الذين قضوا وقد بذلوا نفوسَهم نضالاً في سبيل حريةِ أوطانِهم، وهي أول مَن لبَّى نداءَ السجناءِ مِن الأدباءِ ومعتقلي الرأي، وانبرت تدافعُ عنهم بنفسها وبقلمها الجريء، وتفضحُ حالَ السجونِ العثمانية الممتلئة بألوانِ العذابِ والاضطهادِ، التي رزح بها خيرةُ رجالِ الفكرِ والأدبِ والوطن، ولم تدخر جهداً كي لا يعلَّقوا على المشانقِ المنصوبة، لعلَّها توقِفُ ذلكَ الظلمَ الذي جرى على يدِ السفَّاح جمال باشا الذي وصفتهُ بِشرُّ طاغيةٍ ابتليت به البلاد، غيرَ خائفةٍ من عقابهِ ولا متهيبةً مشانقه وجواسيسه.
تُمثِّلُ ماري عجمي، الشاعرةُ والأديبةُ والصحافية الدمشقيَّة أو كما سمَّتها وداد سكاكيني ” أديبةُ الشَّام”، رمزاً بارزاً من رموزِ النهضة الثقافية والاجتماعية النسويَّة في سوريا في القرنِ الماضي، فهي التي وهبت الصحافةَ السورية في بداية انبثاقها، أولَ مجلةٍ نسائيةٍ ثقافيةٍ اجتماعيةٍ أسمَتها ‘‘العروس’’، وكانت رائدةَ أولَ مشروعٍ نهضويٍّ نسويٍّ، وبذلك تُعدُّ من مؤسسي الصحافةِ النسوية السورية، وقد ساهمت في تلك الثورةِ النسويةِ من خلال مشاريعِها التنويريةِ التشاركية، والعملِ في الصحافةِ وإنشاء الجمعيات والأندية الأدبية والمدارس.
ماري المناضلة:
سعتْ ماري غيرَ مُتخوّفةٍ ولا مُباليةً بِبطشِ السلطاتِ العثمانية إبانَ سياسةِ التتريك التي تعرَّضتْ لها البلاد، وجَهِدت بكلِ ما أمكنها أن توقفَ أحكامَ الاعدامِ التي أصدرتها المحكمة العُرفيةِ وطالت كوكبةً من رجالِ الأدبِ والفكر، وكانت الصحافيةُ الوحيدةُ التي دخلت السجونَ العثمانية وقابلت المحكومينَ المثقَلينَ بالسلاسلِ واطلعت على أوضاعِهم وظروف اعتقالِهم ووصفتْ أحوالَهم وما عليها من قهرٍ وحرمانٍ واحتقار للكرامةِ الإنسانية، ونقلتْ عنهم همومهم وطموحاتهم ورسائلهم، محاولةً بلقائها لبعض المتنفذين أن توقِفَ بعضَ الأحكامِ أو تخفّفها، وحين قابلت جمالِ باشا طلبتْ منه أن ينهي اعتقاله لرجالِ الثقافةِ والفكرِ الذين يوشكون على الإعدام، عقاباً لهم على تحديهم للحكمِ العثماني ومطالبتهم بتحرير بلادهم، وسعتْ لتشكيل لجنة تدافع عن حقوقهم وتطالب الواليَ جمال باشا بالعفو عنهم.
تقولُ ماري: ” لقدْ كنتُ أسمعُ أنينَ أولئك الشهداء، وأُبْصرُ مواكبهم المزمِعةَ على الرحيل، وأرى المشانقَ المنصوبةَ كأنَّها مواقفَ مناطيدِ المجدِ المحلّقة إلى السماء … “
لقد استطاعتْ ماري أن تتخطى اعتلالَ صحتها منذ شبابها، وأن تستعين بعكازها الذي رافقها دوماً لتحقيقِ نضالها وأهدافها الوطنيةِ رغم صعوبةِ الظروف، فبثباتِ روحها وإرادتها القوية، كانت تتقدمُ إلى جمال باشا لتطالبه بالعدلِ والإنسانيةِ تجاه رجالِ الفكرِ والثقافةِ.
مولد ماري وتعليمها:
وُلِدتْ ماري عجمي في دمشق القديمة بِمحيط الكاتدرائية المريميَّة في 14أيار / مايو عام 1888م من زوجةٍ ثانيةٍ لأبٍ كهل من أصلٍ حَمَويٍّ هُوَ يُوسف عَبده العجمي وكيل الكنيسة الكاتدرائية ويعمل في الحياكةِ وتجارةِ الحرير، انتقل جَدُّهُ إليان الحَمَوِيّ إلى دمشق وهُنَاكَ اكتسبتْ عائلتهُ اسم العَجَمي، لِتجارتهِ بالحُلْيِ إلى بلادِ العَجَم (فارس) كَمَا هُوَ معروف، عاشَتْ ماري في مدينةِ دمشق التي ارتبطت بها بروابطِ الحُبِّ والانتماء، ودرستْ الابتدائِيَّةَ بالمدرسةِ الإيرلندية ثُمَّ تابعت دراستها الإعداديَّة في المدرسةِ الروسيةِ؛ وُهِبتْ ماري منْذُ صِغَرها رُوحاً طموحةً، وقلباً تَفتَّحَ على دمشق التي أحبَّتْها وتَغْنَّتْ بها، نشرتْ أوَّلَ مقـالةٍ لها في جريدة ” المحبة ” وهيَ ابنةُ ثلاثة عشرَ ربيعاً، واستفادتْ من مكتبةِ نعمان قساطلي ومجلةِ ” الجامعة ” لفرح أنطون، وبعدَ أن أشبعتْ رُوحهَا من العربيةِ وآدَابها انتقلت لِتَعلُّمِ الإنجليزيَّة حتَّى أتقنتْها.
وَبغيةِ تحصيلِ علمٍ متسامٍ، واكتسابِ خبرةٍ ثريةٍ في الحياةِ، وتحقيقاً لِطمُوحها الرَّامِي إلى نهضةٍ عربيَّةٍ، حَوَّلت مسيرتَهَا الدّراسِيَّة نحوَ فنِّ التمريض في الجامعةِ الأمريكيةِ ببيروتَ في عام 1905، غيرَ أنَّها اضْطُرَّت للاستغناء عن هذا المشوارِ بسبب تدهُّور حالتها الصحيَّة، ومذَّاك الحين، اتَّسع نطاقُ اهتماماتِها ليشمَلَ تحريرَ المرأةِ وتعزيزَ دورهَا في المجتمع، وذلكَ عبرَ تبنيّها لمشروعٍ يَتَمَثَّلُ في تحطيمِ القُيود والتحدِّيات التي تعترضُ طريقَ المرأة، وإزالةِ العوائق التي تُؤخِّر تقدُّمها؛ وإنَّ براعتِها في ذلك الميدانِ وإخلاصها لهذَا الغرضِ، جعلا منها مثالاً يُحتذَى بهِ في النَّضال النَّسوي، وعُنصراً فاعِلاً في بناء مجتمعٍ أكثرَ تقدُّماً.
مجلةُ العَرُوسِ.. عَرُوس الصحافةِ السُّوريةِ:
واجهتِ الشَّابةُ السوريَّةُ ماري عجمي المجتمعَ الشرقيَّ بمشروعِها الإصلاحيَّ الجريء، فقد حملتْ بينَ كفَّيها مشروعاً إصلاحِيّاً وتنويريّاً، يُنادي بتحريرِ المرأةِ وإعطائِها مكانتها المُستحِقَّة واللَّائقةَ في المجتمع لتكونَ شريكةً فاعِلةً في النَّهضةِ العربيةِ الوليدة؛ وكانتْ تلك الفترةُ مليئةً بالتحوُّلات العميقةِ في الدولة العثمانية، التي انعكستْ تداعيَاتها على الشُّعُوب الخَاضِعة لهيمنتها، فقد بدأت نهضةً فكريةً وليدةً تتسلَّلُ بينَ طبقات المجتمع من المفكرين والأدباء، وكانت مقتصرة على الرَّجالِ دون النساء في مجتمعٍ حرَّم خُروجَ المرأةِ ونشاطَها.
لمْ تتردَّد ماري في مُواجهة مجتمعٍ رافضٍ لخروج المرأة إلى مضاميرَ تُعدُّ مِنَ المُحرَّمات، فأسَّست عامَ1910 م أَوَّلَ مجلَّةٍ نِسائيَّة في المنطقة العربية تدعو إلى تحرير المرأةِ وتمكينها وتختصُّ بقضاياها، وسمَّتها “العَرُوس” وقالت إنَّها عَرُوسُ المجتمعِ السُّوري، وعَمِلتْ ماري رئيسةً لتحرير المَجلَّة وإدارتِها، ووظَّفت عدداً منَ الفتيات المتعلَّمات للتحرير فيها مُستعينةً بأسماء مستعارةٍ خَشْيةً منْ انتقام المُجتمع.
قسَّمتْ ماري المجلَّة إلى أبوابٍ عدة أبرزها “حديثٌ ذُو شجونٍ”، حيثُ تضعُ انطباعَهَا وآرَاءَهَا حول بَعضِ القضايا وما تطالعهُ في المجلَّات الأجنبيةِ، وخصَّصت أبْواباً للمباحث النفسيَّة والفنونِ الجميلة والرُّوايةِ وتدبيرِ المنزل والاجتماع.
أصدرت ماري من عروسها أحد عشر مجلداً، طوال فترتي الحكمين التركي والفرنسي، وقد حملت أعباء المجلة وحدها، تلك التي ينوء بمثلها عُصبة من الرجال.
يبْرزُ هذا التنوُّع في الأبواب والتركيزُ على العُلُوم النفسية والاجتماعية الدَّور الرِّيَادي لهذه المجلَّةِ، أمَّا مَقَالاتُها التي يَعْلو فيها نَقْدُهَا فقد وقَّعتْها باسْمِ “ليلى”، ومنَ الواضحِ أنَّها كانت تحملُ رسالةَ التغْيِير والإصلاح في مجتمعٍ ما زالَ يرفضُ أن تكون المرأةُ شريكةً في الحياة العامَّة.
منبر العروس:
شَرَعتْ مجلة “العَرُوس” الآفاقَ أمامَ النساء ليعبِّرنَ عمَّا بداخِلِهنَّ وَيُبرِزْنَ أصوَاتَهُنَّ وَآراءَهُنَّ فيما حَولهُنَّ، فكتبتْ فيها عددٌ منَ السيَّدات الأديباتِ مثل روز شَحفة وأُنس بركات وزينب فواز وأديل عَجْمِي وسلمى كسَّاب وَنازك العابد وعفيفة صعب وغيرهنَّ.
كما كَتَبَ في “العَرُوس” رِجَالُ الفِكرِ والأدب في تلكَ الفترة كجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وجميل صدقي الزهاوي ومعروف الرصافي وإيليا أبو ماضي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم والأخطل الصَّغير وعباس محمود العقاد وَغيرُهُم.
إن كَثْرَةَ الأدباء حوْلَ “العَرُوس” وَمُشَاركَتِهمْ الأفكارَ والمشاريعَ ذاتِها تُوحِيَان بالثَّقَافة الواسعةِ والمشروعِ النهضويِّ الذي اضطلعتْ بهِ ماري عجمي لتكونَ رائدةً في مجتمعٍ عاشَ قُرُوناً طوالاً في جهالةٍ مُطْبِقةٍ، ولِكُونِها واحدةً منهم، كانت قريبةً مِمَّا يُعانيهِ الأديبُ حتَّى تَتَجلَّى الفكرةُ أمامهُ ليحيلها إلى نصٍّ يُومضُ بما يبْتَغيه لذا صاغت قصيدةً تحكي عن حياتهِ، وَوحي فكرته، مُعَبِّرةً عن مُعَاناتِهِ، فأنشدتْ:
إن صفتْ خَمْرٌ بأقْدَاحِ الهَوَى مَــالَ يجْلُوهَا بأبْكَارِ البيانِ
أو شكتْ طيرٌ بأوداء الحمى هَــاجَهُ النَّـوْحُ فأبْكاهُ جِنَان
إنْ تقُولُوا ما بـِــــهِ مِنْ لـــوعَةٍ ليسَ ما فيهِ التياعُ بلْ حنان
كُـــلُّ قلْبٍ فـــــــــي البرايَـــــا قلبهُ فارحـموهُ إنَّهُ قلـبُ الزمانِ
رسائلُ حبٍّ في دهاليزِ الموت:
معَ اندلاعِ الحرب العالميةِ الأولى عام 1914م، ضاقت السلطاتُ العثمانيةُ بالصُّحف والمجلاَّتِ ذَرعاً فأغلقتِ الكثيرَ منها وكانتْ مجلة “العَرُوس” إحداها، كَما اعتقلت الكُتَّاب والأدُباء الوطنيين الأحرار المناهضينَ لسياساتهم، ومِنهُم بِترو الذي أملَتْ ماري رسائِلَهَا إليهِ في السِّجنِ حُبَّاً وامتِعاضاً مِنَ القمعِ الخارجي ومِنَ السجنِ المجتمعي الذي يَحُرمُ المرأةَ حُرِّيَّتها ومُطالبَتها بحُقوقِها.
كانَ المناضِلُ والصَّحفيُّ اليونانيُّ الفذْ وكيلُ مجلةِ “العَرُوس” في بيروت بِترو باولي قد وَقَعَ في حبِّ الكاتبة السورية ماري عجمي، التي أجَابتهُ بِمثلِ حُبِّهِ فَخُطِبَا وقد جمعتْ بينهُما روحُ النضالِ والكفاحِ ومحاربةِ الظلم والاستبداد التُّركي، إلَّا أنَّ السعادَةَ لم تَدم طويلاً، فبِترو كاتِبُ مَقَالاتٍ لاذِعةٍ ناقِدةٍ تهاجم السلطاتِ العثمانية وتدعو إلى التحرُّر والاستقلال، وقد كان يُوقِّعُ مقالاتهِ باسمِ “الباتِر”، الاسمِ الذي كانتْ ماري تُحبُّ أن تُناديهِ بهِ، فقَبَضَ عليه الأتراكُ وأُودِعَ في سجن عاليةَ في لُبنانَ، وكانتْ ماري تقطعُ المسافات ذهاباً وإياباً لزيارته، حتى نُقل إلى سجن قلعةِ دمشقَ، حيثُ استمرَّت زياراتُها له وللسجناء السياسيِّين والأدباء، تَطَّلعُ على أحوالهم وتنقلُ معاناتِهم، وقد خاطبتهُ مَرَّةً “أتدركُ أنَّكَ في سِجنِكَ أكثرَ حُرِّيةً مِنِّي، وَأنَّ السَّلاسِلَ والأقفالَ التي يَغلُّونَ بِها أيدِي السُّجناءِ ليستْ بأشدَّ مِمَّا تُوجَّه إلى ذاكِرَتِي”.
كانت ماري ترشُو الخُفراء في السجن لِلقاءِ خطيبِها والأدباءِ المسجُونينَ، وإن لم تستطِع، كانت تُرسلُ لهُم الرسائلَ، أو تُناجيهم عبرَ قساطِلِ المياه التي تنقُلها من عين الفيجه إلى السجنِ، ولم يخرج بِترو من السجن حَتَّى أُعدمَ معَ رفاقه في قافلةِ شُهداءِ السادسِ من أيَّار في العاصمةِ اللبنانيةِ بيروت، لم تنس ماري حبيبها الذي ذهبَ ضحيَّة الظُّلم والاستبدادِ وكان الحزنُ يتشَظَّى في قلبِها ويدفعُها إلى متابعةِ النضالِ بقلمها الدَّامي ضِدّ ظلمَ الأتراك واستبدادهم ولم تحبَّ ماري بعدهُ أحداً، بل كوَّنت فلسفتها في الحبِّ من تلكَ التجربةِ المؤلمة في دهاليزِ الموت:
يا وَاهبَ العُشَّــــــــــاقِ نضــــرتَهُ كالزَّهرِ يلهبُ حُسنَهُ وَرَقَهُ
ما الحُبُ أن ترجو مُوَاصلةً أو أن تظلَّ الدهر من عشقِه
الحُـــــــــــبُّ معنى لستَ تدركــــهُ مــــا لم تــرَ الأنوارَ مُنبَثِقه
لقد منحت ماري عجمي بقلمِها الحرِّ ولُغتها الرصِينةِ القدرةَ على نقلِ تجربةٍ عاطفيةٍ جذّابةٍ مليئةٍ بالحبِّ والألمِ في آنٍ معاً، فانصهرَ الحبُّ مع الكفاحِ من أجل الحريةِ في بوتقةٍ واحدةٍ، لتخرُجَ منها صورةٌ رائعةٌ لامرأةٍ عصاميةٍ لا تخشى الموتَ ولا تركع أمامه طالما كان الثمن هو الحرية والكرامة.
نشاطها النضالي والأدبي:
عبَّرت ماري بِتلقائيَّتها وفطنتها عن مساحاتٍ جديدةٍ في عالم الأدب والثقافةِ والإعلام واستطاعت من خلال ” العَروس ” أن تُنشئَ نهضةً نسويةً على مُستوى عربيٍّ، سمحت من خلالها للمرأةِ السورية التأكيدَ على دورها التفاعلي وقدرتها في تحمُّلِ مسؤوليةِ النهوض بالمُجتمع والنضال للتَّحرُّر من الاستعبادِ العُثماني. تقول عنها وداد سكاكيني: “وحين اتصلتْ بالمجتمع وتغلغلت في شؤونه وشجونه جعلت تدمغ بالحجة البالغة ما يُفترى على المرأة ظُلماً وكيداً، داعية قومها إلى تحريرها وتبصيرها، وإلى رفع مستواها بالتعليم والتقويم، لكي تكمِّل الرجل ويتعاونا معاً على بناء الأسرة والمجتمع”.
درست ماري الأدبَ العربيَّ في مدرسة الفرنسيسكان ( دار السلام ) مدةَ أربع سنوات في مطلع الثلاثينيات وسافرت إلى بغداد بقصدِ التدريس عام 1940م، لكنَّها لم تمكث هناك أكثر من سنة، عادت بعدها لتنصرف إلى النشاطاتِ الأدبيةِ والاجتماعية، وبعدما أثبتت الكاتبةُ مهارتَهَا اللُّغويةَ الفذّة وَقُدرَتَهَا على الترجمةِ بإتقانٍ، ترجمت أعمالَ عددٍ من الكاتبات الأمريكيَّات والإنجِليزيَّات اللواتي تركنَ بصمةً لافِتةً في عالمِ الأدب، مثلَ دُوروثِس دوكُس ولُويزا آلكوت وآلِن رُوبنسون، وقدَّمَت ترجَمَاتٍ عربيَّةً لِرُوايةَ “المَجْدَليَّةُ الحسنَاءُ” وكتاب “أمجد الغايات” للكاتبِ باسيل ماسِيوز.
ماري الشَّاعِرة:
وصفَ إسماعيل مروة شِعرَها قائلاً : عُرفَتْ ماري عجمي بجَودَةِ شِعْرِها ونَثْرِها، وقُدرتِها على نقْدِ هذَيِنِ الفَنَّينِ حتَّى أنَّها اُختيرت لتكونَ عضواً في لجنةِ النقدِ الأدبيِّ في جمعيةِ الرابطةِ الأدبية، وقد امتازَ شِعرُها بالرِّقة والعذوبة، والمَتانة والجَزالة في القافية واللُّغةِ والسَّبكِ والبلاغةِ العالية، وعمقِ المعنى وحُسنِ اختيارِ الكلمةِ، والتزامِ أوزانِ أشعارِ العربِ وقوافيهم. يقولُ محمود حاج سعيد عن ماري عجمي: ” لَمْ تعطِ ماري عجمي الشعرَ إلا جانباً يسيراً من اهتمامها، ولو تفرَّغتْ لهُ، كما تفرَّغَ فُحولُ الشُّعراءِ، لكانت شاعرةً تقِفُ إلى جانبِ كبارِ الشُّعراءِ دون ريبٍ، وقد امتازَ شِعرُها بالرِّقةِ والعذوبة، ومتانةِ القافية، وبلاغةِ المعنى، وحُسنِ اختيارِ الكلمةِ”
كان شعرها يدور في فلك الشؤون الذاتية والقضايا الاجتماعية والإنسانية والإشادة بالفلاح والعامل والجندي وحول جمال الطبيعة وحبها، ولا سيما دمشق وغوطتها، وكان لشعورها القومي أثر بيّن فقد تغنّت بلبنان وفلسطين وبغداد ومصر.
ويضيف إسماعيل مروة ” تتحول رباعية الحب والحزن والطبيعة والذات الشاعرة إلى مرتكز لرؤية الوجود والعالم في محاور البناء الفكري والوجداني والتخيلي لقصائد ماري عجمي، مؤثّرة في اختيارها موضوعاتها الشعرية.
وهي صاحبهُ قريحة شعرية اصطبغت بالرومانسيةِ لولعِهَا بالطبيعةِ التي عدَّتها محراباً لها، حيثُ هُناكَ يطيبُ العيشُ:
وأطيبُ العيشُ افتِراشُ الثَّرى وَشربَةٌ مِن سلسَبيلٍ عجيــب
فـــي ظِلِّ دوحٍ عابقٍ بالشَّـــذا يهتزُّ في الأصباحِ بالعندليب
كما وصفَ أمين نخلة شِعرَهَا قائِلاً: “أمَّا الشِّعرُ فإن ماري عجمي لمْ تجنحْ إلى نظمهِ إلَّا في بعضِ ما كانت تتحرَّكُ لهُ نَفْسُها في الأحيانِ من حُبٍّ للإيقاع وطربِ النَّغمةِ أو في بعضِ المخايلِ السامية، إنَّما شِعُرها أشْبَهُ شيءٍ بالزَّهرِ الزكيِّ في جِبالنا اللُّبنانيةِ أيامَ الرَّبيعِ يخرجُ إذْ يخرج فلا يدري أحَدٌ كيفَ طَلَعَ من قلبِ الأرض”.
كانتْ ماري تُولي دِمشْقَ بالغَ الحب وتُؤثِرها بالغَ الإيثار، وتَخُصّها بقصيدةٍ أو مُوشَّحٍ بَديعٍ كأنَّهُ نجْوَى المُحِبَّ للمحْبُوب، وكأنَّها كَتَبتْهُ وهي بعيدةٌ عن جُلَّقٍ مُشتاقةٌ لِرياضِها وغُوطَتِها وشَتَّى مَحَاسِنِها:
دمشقُ! إِذا غِبْتِ عن ناظِرِي فَرسمُكِ في حُسنِه الزَّاهرِ
مُقيمٌ على الدهرِ في خاطِرِي
يَهُـــــــبُّ نسيمُ الصَّبـــــا هاتِفًـا أَمَا والَّذي طــابَ من تُربتِكْ
إذا فتَّح الوردُ في روضـــتِكْ وغنَّــى الهزارُ على دوحتِكْ
سَمِعْتُ شَتَاتَ الأغَاني فَمَا اهْتَزَّزْتُ اهتِزَازي لأنشُوَدَتِك
ولا عبقت نفحةٌ في الفضا ألذُّ وأطـــــــــــيبُ مِــــن نَفْحَتِك
ذَهَبَتْ ماري ترنو بعيداً في أفقِ الكلماتِ، واستبصرتْ فضاءاتٍ رحبةً في الشعرِ وجاستْ أغواراً سحيقةً في الأدبِ والنَّثر قلَّما وَصَلَها أحد، لتعبِّرَ عن رؤَاهَا في دَعمِ أُمَّتِها واستنهاضِ الهممِ لصالحِ وَطَنِها، فَوَجَدت في الكلمةِ والأدَبِ ضوءاً تلتَمِسُ فيهِ طَريقاً إلى قُلُوب أبناءِ الوطن، تُقوِّي مِن عَزَائِمهم وتَشُدُّ عَضَدهُم لِلنُّهُوض بالاقتِصَاد المَحلِيِّ وتحفِيزِهِ، وتَحْرِصُ أن يَكونَ الاعتمادُ على المُنْتَجات المحليةِ في مُخْتَلَفِ المجالاتِ، فتناشدُ أبنَاءَ وَطَنِهَا بأنْ يلتَفِتُوا إلى ثرواتِ أرضِهِم ويستَثْمِرُوها ويَقِفُوا في وَجهِ المستعمرِ الذي يَسلِبُهُم خيراتِ بلادهِم ولقمةَ عيشِهم فتقولُ: “إنَّ المحراث في يدكَ أيُّها الرجُلُ، لسيفٌ تَذُودُ بهِ عنْ حَيَاتِكَ، والمِغْزَلُ في عينيكَ، أرهفُ سهم تناضلُ بهِ، دونَ مالكَ واستقلالكَ”.
وفي هذا السياقِ، لم تتوانَ ماري عن دعمِ العُمَّالِ والفلَّاحينَ في موقفٍ لافتٍ، حيثُ نسجتْ قصيدةَ “أملُ الفلَّاح” التي أبهرت الجميع بأسلُوبها البلاغيَّ ومضمونِها، وتوِّجت بالجائزةِ الأولى في محطة الإذاعةِ البريطانية بِلُنْدُن عامَ 1947، وكانَ تكريمُها للفلَّاح بأسلوبٍ فريدٍ من نوعه:
هُوَ الزَّارعُ الفــــلاحُ لولا جهــــــــــــادَهُ لَما شَمتْ بالرِّيحانِ حُسْنُ المخايلِ
هوَ الطَّوْدُ للعبءِ الثقيلِ وقدْ بَدَا على وَجْهِهِ من اتِّقَـــــــــادِ المَشَــاعِلِ
نبيٌّ فقدْ أوْحَى إلى القَفَرِ بالشَّذى وعلَّقَ أقراطَ الغصــــــــونِ الحَوامِلِ
رسَالَتُهُ طيبٌ وجنيٌ ونَشُّــــــــــــــــوةٌ وَكعْبَتهُ الخضـــــــــراءُ حجُّ القوافِلِ
نواد أدبية وثقافية:
بعدما انتهتِ التطلُّعاتُ إلى خيبةِ أملٍ بعدَ سيطرةِ الإنجليزِ والفرنسيين على دولِ المنطقة العربية، عادت ماري إلى توعية الشعبِ العربي والصدح بحقيقة مصالحِ الانتدابِ، وخاضت معركةً أدبيةً ونضاليَّةً شرسةً ضد الاستعمارِ الفرنسي الذي بذلَ كل ما بوسعهِ لإسكات صوتِها الحر وقلمِها الثائرِ، وحاولَ استمالَتَها بالذَّهبِ والجواهر، إلَّا أنها رَفَضَتْ كُلَّ المغرياتِ التي قُدِّمت لها، والذي ردَّ بتعطيل مجلة العروس نهائياً؛ وبعدَ أن تأكَّدت من أن حضارتيهما لم تأتِيا لتُعطيَ الشعوبَ العربيةَ حُقُوقَهَا وتمكِينَهَا من الحُكمِ الذَّاتيِّ، بلْ جاءت للاستيلاءِ على ثَرواتها واستعبادها، وزادت مقالاتُهَا حِدَّةً ساخرةً بفَرَنْسا ووعودِها الإصلاحيَّةِ ومُحاجَتِها وتبيَان كَذِبِهَا وَلُصُوصِيَّتها وتلاعُبِها بالبلادِ والعبادِ.
وَفي سَعْيها الدَؤُوبِ للإسهامِ في تحسينِ واقعِ المجتمعِ، أسَّستْ ماري مدرسةَ بناتِ الشُّهداءِ سنةَ 1920م بِالتَّعاونِ مع نازكِ العابدِ، وتعاونتْ مَعَ فاطمة مردم وسلوى الغزِّي في تأسيسِ جمعيَّةِ “يقظة المرأة الشامية”، وجمعيةِ “نُور الفيحاء” ونَاديها، بهدفِ تحقيقَ التَّنميةِ الاجتماعيةِ والثقافيةِ للأفرادِ والمجتمعِ.
أسَّسَتْ أولَ رابطةٍ ثقافيَّةٍ في دمشقَ عُرفت باسم الرابطةِ الأدبية، انتُخِبَت ماري عُضواً في لجنةِ النقدِ الأدبيِّ في الجمعيةِ ذاتها عامَ 1921م، والتي انضمَّ إليها العديدُ من المثقَّفينَ والكتَّاب والفنَّانين من بينهم خليل مردم بيك وفخري البارودي وشفيق جبري، واصلتْ عَمَلَها المُثمر لثلاثِ سنوات حتى أغلقتها السلطاتُ الفرنسيةُ، وتحوَّلَ منزِلُهَا إلى صَرْحٍ ثَقَافِيٍّ هامٍ يجتمعُ بين جدرانه كوكبةٌ من أعيانِ دمشقَ مِنَ المثقفينَ والأُدَباء مِنَ النساءِ والرجالِ للحوار ومداولةِ قضايا الثقافةِ والسياسةِ.
بقيت ماري مستمرَّة في الدعوةِ إلى الحُرِّيَّةِ والعدالةِ وغرسِ الحسِّ الوطنيِّ وبُذورِ مناهضةِ الانتدابِ الفرنسي في نفوسِ الطلَّابِ واليافعينَ في مسيرتها للتعليمِ في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين، وإنارةِ العقولِ بالوعي والمعرفة، والتحريضِ على الانتفاضِ ضِدَّ القمعِ والدعوة إلى التحررِ من براثن الاستعمار، فأضحى منزلها منبراً للمثقفين يجتمعونَ فيهِ لمناقشة قضايا المجتمع العربيِّ ونهضتهِ والتداولِ فيها، وَدَعَتْ إلى النضال والثورة ضد الاستعمار والظلم، ودافعت بمقالاتها وخُطبها عن قيمِ الحرية والعدالة، ومنحت الشعبَ العربيَّ صوتًا وهيبةً وكرامةً، فهتفتْ بالنفسِ الثائرةِ التي تتوقد بين جنْبيِّ الشبابِ العربيِ في نضالهِ ضدَ الغاصبينَ لأرضهِ:
كــــــانَ كالبُلبُـلِ فـــي أيكَتِـــــهِ يَتَغَنَّــــــى بالقوافـــــــــي العامـِـرهْ
فَرَمَـى الكأسَ وألقــَـــــــــى نـــــايه وَمَضـَـــى للحــربِ نفساً ثائرهْ
باعَ يومَ النصرِ طوعاً روحهُ فهيَ ومضٌ بالنِّصالِ القاهرهْ
كـيْ يَدُكَّ الأرضَ بالخصــمِ فلا تتصبَّاهُ العوادِي الجائرهْ
هَلْ لَهَا إلَّا غيــورٌ حــــــــــــــــــازِمٌ لا يَهَابُ الموتَ، نارٌ صاهــرهْ
تَعْصِفُ النخوةُ في أضلاعهِ عصفةُ الريحِ بروضٍ عاطـِرهْ
فقد كانت الكاتبةُ والأديبةُ الرائدةُ ماري عجمي الشخصيةُ الإنسانيةُ المؤثرةُ التي تركت بصماتٍ وإرثًا لا يُنسى في عالمِ الشعرِ والنثرِ والأدب والثقافة، وواجهت التحديَّات بشجاعةٍ وعزيمةٍ وحكمة، وعملتْ دونَ كللٍ على إرساءِ دعائمِ نهضةٍ فكريةٍ وثقافيةٍ واجتماعيةٍ في الأوساطِ العربيةِ.
الموت وحيدة:
لم تتوانَ ماري عن مُواصلةِ مشوارها الأدبيِّ والنضالي، ولم يبلُغْ منها اليأسُ محلاً فبعدَ إغلاقِ مجلةِ العَرُوس، في عامِ 1940م سافرت إلى العراقِ بقصد التدريس، وكانت من تلاميذها الشاعرةُ المبدعةُ نازك الملائكة، وبعدَ عودتِها إلى دِمَشْقَ، بدأ مرضها يتفاقم، وانزوتِ الشاعرةُ المناضلةُ في سبيل قضايا الوطنِ والمرأةِ وتحريرها وتكسير قيودِ المجتمع، وأصبحت تذوبُ وحيدةً في محيطِ الوجعِ، لا يزورها إلا بعض صديقاتها المقربات، حتَّى وافتها المنيةُ في 25 ديسمبر/ كانون الأول عام 1965م، ودُفِنت في دمشق، في جنازةٍ لم يشهدُها سوى 16 شخصاً من أقاربها ليسَ بينهم أديبٌ إلَّا فؤاد الشايب، ليبقى إرثُها يشعُّ نوراً وتألُقًا في عالمِ الأدبِ والثقافة.
وَمِنْ الكُتُبِ والمقالاتِ التي نُشرت وتحدثتْ عن أدبها، يأتي “ماري عجمي.. في مختاراتٍ منَ الشِّعرِ والنثر”، الذي يضمُّ أروعَ ما خطَّتهُ هذه الكاتبةُ الرائِدةُ، والذي نشرتهُ الرابطةُ الثقافيةُ النسائيةُ في منتصف القرن الماضي، وتباينتَ الردودُ حولَ هذا الإصدارِ الفريد، إذ نُقِشَ على صفحاتهِ الأولى بيتانٍ للزعيمِ السوري فارس الخُوري، الذي ردَّده عددٌ من المعجبين، مؤكدينَ بذلك على عبقريةِ الشَّاعرة الفذَّة:
يا أُهيلَ العبقريـــة سَجِّلوا هـذي الشَّهادهْ
إنَّ ماري العجميَّةَ هي مــــيُّ وزيــــــــــادهْ
ومنَ الشهاداتِ الأدبيةِ التي أُبرمتْ بحق الشاعرةِ والأديبةِ ماري عجمي، قالَ عنها رئيف الخوري في مهرجانِ تأبيِنها: ” نذرتْ حياتها نذراً للأدبِ، حتَّى ليمكن القولُ إنَّها ترهَّبت للأدبِ ولم تكن عروساً لغيرِ القلم “.
أمّا شهادةُ الشاعر خليل مردم بك فيقول فيها: لا أُحِبُّ من غوايةِ المرأةِ إلَّا غوايَتَهَا في الأدب، وأكثرُ ما يعجبني من أدبِ المرأةِ هو سحرُ الحياءِ، وهذانِ المعنيانِ ماثلان في الآنسة ماري عجمي وأدَبِها “، وقال أيضاً واصِفاً أدَبَها وشِعْرَها: ” جَمَعَتْ ماري بينَ الصناعتينِ النثرِ والنظم، فلها المقالاتُ والخُطبُ والقصائدُ، وعالجتِ الترجمة كما عالجت الإنشاء “
كما وصفتها الأديبَّةُ ناديا خوست: بأنَّها ” متألِّقَةُ الرُّوحِ، وَطَنيَّةٌ، حَادَّةُ البصرِ والبصيرةِ، جريئةٌ وعملاقةٌ، وكَتَبتْ بلُغَةٍ مُضرجةٍ كالفجرِ”.
وقال عنها الصحفي والأديب عبد الغني العطري في كتابه << حديث العبقريات >> وقد سمَّاها ” الأديبة الشاعرة والمناضلة الرائدة”، يقول: ” نحن لم نقمْ لها تمثالاً في حيِّها وهي جديرة بذلك، ولم نطلق اسمها على شارع وهي أهل لذلك أيضاً “.
وأشارت الأديبة كوليت خوري: لا شكَّ في أنها حتى هذه اللحظة لم تأخذ حقها من التاريخ.. ولم تحتل المكانة التي تليق بها في سجلِ المجد..”.
*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”
مواضيع ذات صلة
مواضيع أخرى
تدريباتنا
ورشة تدريب صالون سوريا
أجرى فريق #صالون_سوريا، دورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة الحساسة...
ورشة تدريب صالون سوريا
يعلن فريق #صالون_سوريا، التحضير لدورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة...