تدريباتنا

آخر الرجال في حلب خارج المسؤولية الأخلاقية

بواسطة | مارس 3, 2018

يفصلنا يوم واحد عن المحفل السينمائي الكبير الذي تقيمه إدارة «أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة»، والذي سيتم فيه توزيع جوائز الأوسكار بنسختها الـ90 على الأفلام الفائزة. كانت الأكاديمية قد أعلنت قبل نحو شهر عن وصول الفيلم الوثائقي «آخر الرجال في حلب Last Men In Aleppo» القائمةَ النهائية التي تضمّنت أفضل خمسة أفلام وثائقية مرشحة للحصول على الجائزة لعام 2018 الجاري، وهو من إخراج فراس فياض، وحسن قطّان (سوريّا الجنسية)، إضافة إلى ستيڨ جوهانسن (دنماركي).

الفيلم الذي ماكان له أن يُرشح للجائزة فيما لو كان سورياً إذ سيؤخذ حينها في حسابات قائمة الأفلام الأجنبية، أثار الكثير من البلبلة أخذاً وردّا، ففي حين اعتبرته وسائل إعلامية تلفزيونية وأخرى إلكترونية مدعاةً للتعالي والفخر بوصفه “أول فيلم سوري يصل إلى الأوسكار”، انقسمت أصوات أخرى من جانبها (مؤيدة للنظام، ومعارضة له) حول ما يتعلّق بالتوجه الفكري لأحد مخرجيه، حيث تناقلت على نطاق واسع جداً صورةً لمنشورٍ على فيس بوك ينعو فيه (حسن قطان) صديقاً له في تنظيم جبهة النصرة.

وكان قطان قد نشر على صفحته في فيسبوك قائلاً: «ما تزال بسماته الجميلة التي تنير وجهه معلقة في ذاكرتي المرهقة، لم يكن كأي مجاهد آخر، عشق القتال والموت تحت راية إسلامية فنالها، كان أكثر الذين عرفتهم صفاء وبشاشة وورعاً وتقوى، أسدٌ من جبهة النصرة قد رحل اليوم عنا إلى جنان الخلد، أتمنى من الله تعالى أن يتقبله.» مُرفقاً (المنشور) بصورة للجهادي وهو يشير بيده إلى الراية السوداء ببقعتها البيضاء الشهيرة.

قد يبدو اتهام البعض لقطّان بانتهاجه فكراً إرهابياً هكذا بعبارة صريحة أمراً مبالغاً فيه، لكن أن يكون أحد مخرجي فيلمٍ مرشح لنيل جائزة شهيرة قد توجّه إلى عضو “تنظيم إرهابي” بالنعوة، والإشادة، وإبداء التعاطف هو أمر مشين، ومعيب، ومخجل، ناهيك عن أنه يحط من قيمة العمل ونزاهته، ويقلل من مصداقيته كذلك، خصوصاً وأنه فيلم وثائقي، أي أن ذلك يطعن حرفياً في صلب النقل الموضوعي للحقيقة. وضع قطّان، بصفته أحد مخرجي العمل، المادة الوثائقية المرشحة للأوسكار في موقفٍ حرجٍ لا يمكن تجاوزه في عمليّتي الإنتاج وما بعدها، لا بل يسيء لشعارات الحرية والكرامة والمواطنة التي انتهجتها الثورة السورية ضد نظام الحكم الديكتاتوري في البلاد مطلع العام 2011، والتي باتت الآن (الشعارات) شكلاً طوباويّاً لايعدو التنطّع لها أن يكون محاولةً لدفن الرؤوس في الرمال لا أكثر، ناهيك عن أن تلك البلبلة التي أثارها قطّان من خلال منشوره تعد بمثابة منحة للنظام السوري بأدواته الإعلامية، إلى جانب البروباغندا الروسية في توجيه الاتهامات لا للجهاديين فقط، وإنما لمفهوم المعارضة السورية ككل.

الجميع يعلم أن عمليات اختطاف الأجانب وطلب الفدية المالية لقاء إطلاق سراحهم أو تسليم جثثهم في بعض الأحيان حالت دون استساغة الصحفيين الأجانب لفكرة الدخول إلى البلاد ونقل ما يجري فيها مؤخراً، الأمر الذي ترك الباب مفتوحاً أمام المخرجين السوريين الشباب، لكن ليس ثمة طريقة لفعل ذلك دون التواصل مع آخرين في الداخل قادرين على الإحاطة بما يجري تحت حماية من فصائل عسكرية على (اختلاف توجهاتها)، وهذا أيضاً يطعن في موضوعية نقل المادة خارج سوريا. ناهيك عن أنك لو كنتَ مخرجاً سورياً مثلاً ما كان من المناسب أبداً لأخلاقيات مهنتك أن تتواصل مع إعلاميين ذوي ولاء للقاعدة في ليبيا بُغية صناعة فيلم وثائقي عما يجري هناك، مامن سبب يبيح لك ذلك إلا الانتهازية اللعينة.

في المقابل ينأى من يحترم أخلاقيات مهنته بنفسه بعيداً عن هذه المساحة المليئة بالشبهات، كيف لمن يحترم أخلاقيات مهنته أن يشتغل على مادة لا يعلم أصلها ولا فصلها حتى وإن كانت حقيقية، إذ لا شيء يمنعها من أن تكون قد اجتزأت من الحقيقة ما يعجبها، والاجتزاء من الحقائق هو نكرانها عينُه.

لم تكن السينما يوماً ما لعبة، إنها مسؤولية كبرى، شأنها شأن الكلمة، بإمكانها أن تدعو، أو تدفع، أو تهدد، أو تعطي، أو تمنع. إن كل الأحداث تُصنع، تَبدأ أو تنتهي، ولا يبقى منها سوى ما هو مرهون باللغة، مكتوبةً كانت أم بصرية.

على أية حال، كثيرةٌ تلك الأصوات التي تدعو دائماً إلى الفصل بين الفن وشخصية الفنان، ليس من السهل الاستجابة لتلك الدعوة بالتأكيد إذا ما أخذنا ضرورة اتساق الفكرة مع صاحبها بعين الاعتبار، وهنا تتبادر مجموعة من الأسئلة: كيف للمرء أن يقف ضد الإصدارات المرئية التي ينتجها تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» لأنها تحتوي على مشاهد العنف، وأن يغض الطرف عن كونها أصلاً من صناعة داعش؟ وكيف للمرء أيضاً أن يؤيد مثلاً أداةً إعلامية تابعة لنظام حكم ديكتاتوري دون أن يترك ذلك مساحة كبرى للشك في مصداقية وجوهرية ما يُراد من مادّتها الإعلامية؟ وكيف يرتضي الفنان أصلاً أن يعمل وفق منهجيّة الغاية التي تبرِّر وسائلها؟

أن يتحرّى الفنان الصدق، ويُسائل نفسه على الدوام، ويبتعد عن منتجة الواقع المعقد واختزاله على نحو قد يضعه بموقع من يسعى لتحقيق مجد شخصي دون مسؤولية اجتماعية، هي عناصر أساسية من عناصر الأخلاقيات المهنية خاصة في ظل الحرب. ختاماً، إن كان ثمة من سيقول الحقيقة المُنصفة التي لا مآخذ عليها إزاء ما جرى ويجري في سوريا، فهم المدنيون الذين دفعوا ويدفعون الثمن الأكبر لهذه الحرب العبثية. ‎

مواضيع ذات صلة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 خلال مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء، والتي استمرت لأكثر من نصف قرن، أبدَعَ مدرسة لحنية وغنائية متفردة وغنية ومتكاملة، تركت بصمتها المؤثرة في تاريخ الموسيقى العربية، وقد ساعدته موهبته في الغناء في فهم طبيعة الأصوات التي لَحَّن لها، فكان يُفصِّل اللحن على مساحة...

جُرح في الزوبعة

جُرح في الزوبعة

كانت حياة أنطون سعادة القصيرة (1904-1949 م) أشبه بدورة الإله بعل في الميثولوجيا الكنعانيّة القديمة، فبعل الذي يموت ويولد على نحوٍ أبديٍّ، وفقاً لـ"ألواح أوغاريت"، يرمز إلى "بلاد كنعان" أو "فينيقيا" تبعاً لتسميتها اليونانيّة القديمة، هذه البلاد التي مهما حاقَ بها من...

زكي الأرسوزي أو أمل ضائع بأُمّة تنبعث من عبقريّة لسانها

زكي الأرسوزي أو أمل ضائع بأُمّة تنبعث من عبقريّة لسانها

تعرّض زكي الأرسوزي (1899-1968 م) لإهمال كبير، ولم يُكَرَّس في الأدبيات الفلسفيّة العربيّة إلا على نحوٍ عَرَضيّ، بصفته أحد دعاة الفكر القوميّ، ومؤسِّس فكرة حزب البعث العربيّ، التي أخذها ميشيل عفلق منه وحوّلها إلى تنظيم سياسيّ فاعل في سوريا، وتلاشى ذكر الأرسوزي مع تلاشي...

مواضيع أخرى

الدراما السورية في موسم 2024: مبالغات تخطت الحدود واستسهال واضح

الدراما السورية في موسم 2024: مبالغات تخطت الحدود واستسهال واضح

لا يختلف اثنان أنّ الدراما السورية أحدثت فارقاً وصنعت بريقاً أخاذاً في فترةٍ ذهبيةٍ امتدت ما بين عامي 2000 و2010. وتحديداً ما بين مسلسل الزير سالم الذي أخرجه الراحل حاتم علي ووضع فيه الراحل ممدوح عدوان عصارة ما يمكن لكاتب المجيء به نصاً وحواراً وأحداثاً ليجعل منه...

استنساخ المسلسلات السورية وغياب الحاضر

استنساخ المسلسلات السورية وغياب الحاضر

أهتم كثيراً بمتابعة الدراما العربية، خاصة السورية، وثمة مسلسلات سورية لامست أوجاع السوريين وما يتعرض له الشعب السوري مثل مسلسل غزلان في غابة من الذئاب للمخرجة المبدعة رشا شربتجي. هذا المسلسل أثلج قلوب السوريين كلهم لأنه حكى بصدق وشجاعة ونزاهة عن أحد كبار المسؤولين...

الأمهات في سورية: عيد ناقص

الأمهات في سورية: عيد ناقص

غدت الأمومة في سورية مهمة قاسية ومثقلة بالهموم واكتسبت أوجهاً كثيرة، إذ انتزعت الحرب دور "الأم" الأولي المناط بالعطاء والتربية والمساند المادي الثانوي، وبدأت كثير من الأمهات يلعبن دور المعيل الأساسي ومصدر الدخل الوحيد لتحمل نفقات الأسرة في ظل غياب قسري أو اختياري...

تدريباتنا