في أحد أشدّ أيام سوريا حساسيةً وأكثر مفاصلها تعقيداً، تحديداً في اليوم الرابع...
تدريباتنا
ورشة تدريب صالون سوريا
أجرى فريق #صالون_سوريا، دورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة الحساسة...

تشهد قبرص لحظة فارقة في سياستها الإقليمية، في وقت تشتد فيه التغيرات حول المتوسط وتترنّح فيه التوازنات القديمة. من السواحل السورية التي تُطل عليها نيقوسيا عن قرب، تنطلق قوارب الهاربين من الخوف والمستقبل المجهول، ومن أعماق البحر تظهر مؤشرات توتر جديدة تتعلق بالحدود البحرية، ومشاريع الطاقة، ومراكز النفوذ الإقليمي. كل هذا يحدث بينما تتحرك أوروبا نحو إعادة تعريف أمنها وحدودها، وتراجع الولايات المتحدة دورها التقليدي ضمن الناتو، تاركة فراغاً تسعى قوى إقليمية لملئه بسرعة في الشرق الأوسط، وعلى رأسها تركيا والاتحاد الأوروبي.
لم تعد العلاقة بين قبرص وسورية مجرد مسألة دبلوماسية رمادية تُدار بهدوء خلف الأبواب، بل تحوّلت إلى ملف يتقاطع فيه الأمن والهجرة والسيادة البحرية، ويرتبط مباشرة بمستقبل الجزيرة نفسها. حين زار وزير الخارجية القبرصي، كوستانتينوس كومبوس، دمشق في شباط 2025، لم يكن يحمل رسالة بروتوكولية فقط، بل خطة مبدئية لإعادة وصل ما انقطع، بحثاً عن صيغة جديدة للتعاون وسط واقع متحرك ومعقّد.
في لقاءاته مع الرئيس السوري أحمد الشرع ووزير خارجيته أسعد الشيباني، طُرحت ملفات حساسة تتعلق بإعادة الإعمار، والبنية التحتية، والاتصالات، وربط دمشق مجدداً بشبكات إقليمية أكثر استقراراً. وتم التحرك على مستوى الاتصالات مؤخراً، حيث طلبت وزارة الاتصالات السورية التعاون من سفير قبرص في دمشق، ميخائيل حجكيرو، لتحديث الربط الضوئي وتوسيع الحزمة الدولية، لمواكبة التطورات وتحسين واقع الاتصالات في سورية.
شهد الحراك القبرصي تجاه سورية تزامناً لافتاً مع إشارات أوروبية أولية نحو تخفيف بعض العقوبات المفروضة على دمشق، ضمن نطاق محدود ومشروط، شمل القطاعات الإنسانية والتقنية. في الوقت ذاته، برزت في واشنطن مواقف جديدة توحي بإمكانية مراجعة تدريجية للعقوبات الأميركية، إذا ظهرت بوادر إصلاح سياسي ملموس داخل سورية. هذه التطورات، التي جاءت بالتوازي مع اجتماع رقمي ضم رؤساء فرنسا ولبنان وقبرص وسورية، فتحت أمام نيقوسيا نافذة سياسية نادرة لإعادة تعريف موقعها الإقليمي، واستثمار اللحظة لإرساء دور فعّال في مرحلة إعادة ترتيب توازنات شرق المتوسط.
ورغم أن الشراكة الاقتصادية تبدو في صدارة أولويات قبرص في علاقتها مع دمشق، إلا أن البُعد السياسي والأمني يظل جزءاً لا يتجزأ من نظرة نيقوسيا إلى الملف السوري. انسحاب إيران من الساحة السورية، ومحاولات إعادة توزيع النفوذ بين القوى الإقليمية، فتحا المجال أمام قبرص لتطرح نفسها كحلقة وصل محتملة بين سورية والاتحاد الأوروبي، ضمن مناخ جديد يُعاد فيه تشكيل التوازنات. لكن هذه الفرصة مشروطة بتعقيدات متزايدة، أبرزها ما يجري في البحر المتوسط، حيث يتحول الفاصل البحري بين قبرص وسورية إلى مساحة مفتوحة للتنافس الإقليمي. الاتفاقات البحرية التي تُناقش بين أنقرة ودمشق تثير قلقاً متصاعداً في نيقوسيا وأثينا، وتمتد أصداؤها إلى عمق القرار الأوروبي، ليس فقط بسبب احتمال رسم حدود بحرية جديدة دون تنسيق، بل لما تعكسه من تصاعد الحضور التركي في المشهد السوري، سياسياً وجغرافياً واقتصادياً.
الوجود التركي في الشمال السوري لم يعد مجرّد تدخل عسكري محدود بذريعة التصدي للكيانات الكردية التي تصنّفها أنقرة كـ”إرهابية”، بل بات أشبه بإعادة تشكيل ميداني متدرّج لواقع سياسي وإداري جديد. القواعد العسكرية تتكاثر، والإدارات المحلية تتماسك، فيما تنتشر المؤسسات الخدمية والتعليمية على نحو يعيد ترتيب البنى والانتماءات في تلك المناطق. في المقابل، يشهد الجنوب السوري حالة مختلفة من التمدد، لا تقل خطورة. هناك، توسّع إسرائيل رقعة نفوذها عبر أدوات غير عسكرية، من خلال عمليات مسح أمني ناعم، وعروض للمساعدات الطبية والدعم الإنساني، في مشهد يوحي بتثبيت حضور طويل الأمد بأدوات ناعمة هذه المرة.
هذا النوع من التدخل المزدوج، شمالاً وجنوباً، يعيد إلى الأذهان في نيقوسيا تجربة عام 1974، حين فُرض واقع انقسامي في قبرص عبر سيطرة تركية غير معلنة، أخذت شكل إدارات محلية واجهية. ويشير خبراء أمنيون قبارصة إلى أن ما يحدث اليوم في سورية يحمل ملامح مشابهة، ما يجعل الملف السوري في صميم الحسابات القبرصية، ويُضاعف من يقظة نيقوسيا تجاه أي تغيّر يمس سيادة الدول أو يعيد رسم خرائط النفوذ والديموغرافيا في الإقليم.
وفي مقابل هذا الامتداد التركي والتوغل الاسرائيلي، تحاول قبرص أن تُفعّل أدواتها المتاحة. موقعها الجغرافي يمنحها فرصة لعب دور وسيط إقليمي، لا سيما أنه بات يُنظر إليها من قبل الأوروبيين كقاعدة للمراقبة وجسر للطاقة ونقطة ارتكاز بين ثلاث قارات. في ظل هذا الإدراك الجديد، بدأت نيقوسيا تفكّر بصوت عالٍ: كيف يمكن تحويل هذا الموقع إلى أداة تأثير؟ كيف يمكن ربط البحر بالتعاون لا بالصراع؟ وهل يمكن تأسيس شراكة مع سورية، لا تعادي الموقف الأوروبي والجيران، بل تُكمل مساراته عبر أدوات عملية أكثر مرونة؟
أحد الأبواب المطروحة يتمثل في تعزيز التعاون الاقتصادي والتقني بين نيقوسيا ودمشق، انطلاقاً من البنية التحتية وقطاع الاتصالات، وهي مجالات لا تخضع مباشرة للعقوبات، ويمكن من خلالها بناء ثقة ميدانية. كما يمكن دفع رجال أعمال قبارصة إلى استكشاف فرص ما بعد الحرب، في إطار قانوني يراعي الالتزامات الأوروبية والأمريكية لكنه لا يعطّل المبادرة.
في الوقت ذاته، تحتاج قبرص إلى أن تخرج من مربع ردّ الفعل في ملف ترسيم الحدود البحرية، وتتقدم بمبادرة تفاوضية شاملة تشملها مع تركيا وسورية واليونان وربما مصر، تحت إشراف أوروبي، لإعادة تنظيم المصالح البحرية في شرق المتوسط. هذه المبادرة يجب ألا تقتصر على منع التصعيد، بل أن تبني مشاريع مشتركة في الطاقة والبنية التحتية، وتحوّل البحر من ساحة مواجهة إلى ممرّ مصالح متبادلة وقد تكون باريس عرّابة هذه الخطوة كما شهدنا في اتصال الأوروبيين مع الرئيس الشرع وبحضور الرئيس اللبناني من خلال الاجتماع الرقمي عبر الفيديو.
إن المراهنة على الجمود أو الحذر الزائد، في لحظة تعيد فيها دول المنطقة رسم خرائطها، قد لا يفضي سوى إلى العزلة. ما يجري في طرطوس من انطلاق قوارب اللاجئين، وما يُبنى في جرابلس أو تدمر أو ريف حمص من قواعد “دفاع مشترك” مع تركيا، وما يُتداول في أنقرة ودمشق من تفاهمات بحرية، وما تقوم به إسرائيل من مسح أمني جنوباً.. كلها إشارات إلى أن الأمور تتحرك بسرعة، وأن من لا يواكبها بخطط واقعية سيتحوّل إلى مجرّد مراقب بلا أثر.
لذلك، من المفيد أن يفكر صناع القرار في نيقوسيا ببعد استباقي، لا يتأخر في انتظار التحولات بل يشارك في صنعها. قبرص تمتلك شبكة علاقات أوروبية، وموقعاً استراتيجياً، ومرونة دبلوماسية، وكلها عناصر يمكن أن تُستخدم لصياغة تفاهمات جديدة أكثر عدلاً واستقراراً.
أما في دمشق، فإن التعامل مع قبرص بوصفها شريكاً لا تابعاً، وفتح قنوات صريحة حول الملفات البحرية والأمنية، قد يمنح الحكومة السورية فرصة لإعادة التموضع الإقليمي من موقع الفاعل لا المتلقّي. فكلما ازدادت القوى المتوسطة بين سورية وأوروبا، كلما تقلّصت الحاجة للوصايات الدولية أو المحاور المغلقة.
المتوسط يُعاد تشكيله اليوم، فيما تقف قبرص وسورية أمام اختبار تفاهم يتجاوز خطوط المياه، ليطال التاريخ والجغرافيا ومستقبل المنطقة. هذا التفاهم، إن لم يُبنَ على قاعدة من المصالح المتبادلة والاحترام المتوازن، فستكون الفوضى المقبلة شاملة، وقد تغرق القوارب مهما اختلفت دوافع ركابها قبل أن تلامس ضفة الأمان.
في الخلفية، تتصاعد موجات اليمين المتطرف، وتتشدد السياسات الأوروبية في وجه الهجرة، بينما تتفاقم الضغوط الاقتصادية، ما يجعل الملف السوري في قلب المأساة. وسط هذا المشهد، تتحرّك عواصم كبرى كباريس وبرلين نحو مقاربات أكثر واقعية تجاه دمشق، بينما تبدأ نيقوسيا، بحذر محسوب، اختبار مرونتها الخاصة في مواجهة ما هو آت.
مواضيع ذات صلة
مواضيع أخرى
تدريباتنا
فوضى الإعلام والحاجة إلى شاشاتٍ وطنيةٍ موثوقة
في أحد أشدّ أيام سوريا حساسيةً وأكثر مفاصلها تعقيداً، تحديداً في اليوم الرابع...
ورشة تدريب صالون سوريا
أجرى فريق #صالون_سوريا، دورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة الحساسة...