تدريباتنا

استعادة حنّا مينة

بواسطة | مايو 2, 2023

يعتبر حنّا مينه واحداً من الروائيين الأوائل الذين يؤمنون بأن القيمة الأثمن للرواية هي المعرفة، لقد فتح عينيه على القهر مُذ أبصر الاحتلال الفرنسي وصعود البرجوازية العربية التي لم تكن سوى نسخة مشوّهة ومزوّرة عن البرجوازيـــّة الغربيّة.

وبينما كان قرّاؤه يطلقون عليه روائي البحر/ شيخ الرواية السورية، مفتونين بهذه المنطقة من الوجود والمغامرة؛ فإن هاجسه الحاضر في حواراته وشخصياته: تمثل في النظر للكتابة باعتبارها فعلَ إيقاظ.

تظهر في سيرته الذاتية ومن خلال علاقة الابن بالأب سليم ميناـ والذي كان يتنقل بلا هدف “كان أبي رحالة، أراد الرحيل تلبية لنداء المجهول، ولطالما تساءلت: وراء أي هدف كان يسعى؟ – ملامح افتراق الروائي الشاب عن خطوات والده عبر تحديد هدفه في الحياة؛ لقد تأثر بمقاومين يصفهم بأنهم من طراز خاص، وأعجب بقناعة أن النضال الحقيقي هو في نمو إنسانية الإنسان؛ فلم يكن البحر ولا الغابة وهي -ملمح أساسي في أعماله-هاجساً جوهرياً بل مجرد وسيط وارتداد نحو الذات لاستكشافها، من خلال عقد حوار مع أحطِّ ما فيها كي نزيح التراب عن أسمى ما تحمله: (الوعي المصحوب بالإرادة الحقيقيّة للتغير).

لقد بدا وكأن هذا الماضي بالنسبة لنا نحن -والذي كان حاضر مينه ذات يوم – منذور ليجدّد نفسه وسيعاود شبحه الاستيقاظ في حياتنا الحاضرة، وهنا تأتي أهمية تناول تجربته ونتاجه الذي يفوق 40 عملاً بين الرواية والدراسات ومجموعتين قصصيتين وفي هذه الأعمال لم يكن حنا مينة ليأتي من خارج سياق معاناة هذا الشعب ولم يكن أبطاله ليخرجوا عنهم “فعشت معهم حافياً، عاريـــاً، جائعاً، محرومــاً من كل مباهج البراءة الأولى”.

في كتابه “الرواية والروائيّ” تلومه والدته على الحياة في قلب الخطر، خطر فقد الطفل العليل وخطر السجون والمنافي “وأنت تعطي نفسك للعذاب، في سبيل ماكنت تسميه التحرر من الاستعمار الفرنسي وتحقيق العدالة الاجتماعية”.

إنّ تحرّي مكانة أدبه في الملهاة السورية سيظل مبتوراً دون فهم رؤيته للعلاقة التي تصل الذات بالآخر. فمنذ روايته الأولى المصابيح الزرق 1954 وحتى كتابه الرواية وهو في عمر 80 ظل مهجوساً بفكرة الهويــــّة الإنسانية كأساس لأي انتماء، وهذه الهوية التي تتعرض الآن بسبب الحرب واللجوء لاختبارٍ عنيف، لقد زرعت الحرب الشك في روح الإنسان ورضّ هذا التحول علاقته بهويته رضّاً عنيفاً.

 كيف نستعيد مينه في عصر الشتات؟

تبدو أعماله محاولة جديــــّة ومبكرة للإجابة عن هذا السؤال، وتكشف لنا شخصياته الساذجة والبسيطة عن إرادة النمو التي تميز هذه الهوية المغيبة بفعل النهب والتجهيل، إنها تريد التحقق لكن ذلك لا يمكن لها في البداية لأن المستقبل الذي يؤمن به مينه لا محل فيه من دون مسؤولية الذات إزاء الآخر أو الشريك في الوطن.

فالهوية التي رسمها في أعماله وشخصياته تطالب بحقها في الوجود لكن هذه المطالبة لا معنى لها إذا لم تقترن بالوعي والاكتواء بالتجرية؛ وبرغم تهتُّك أحلامها والشك بقدرتها على المقاومة فلن ينقذها سوى الوعي المستند للإيمان بشراكة الذات مع الآخر.

 إن اصالة تجربته تتأتى من كون أدبه ثمرة نضاله وهو يصف نفسه “إن وعي الوجود عندي، ترافق مع تحويل التجربة إلى وعي”.

لقد اختار نماذجه من الأشخاص البسطاء، فالإنسان الأعلى في أعماله لا يصير ما هو عليه بدون الخطوة الأهم في طريق الحرية (الجهل والمشقة ثم التحرر وعبور الغابة المظلمة).

البحر في أعماله كناية عن صراع الذات لاختبار الإرادة، الغابة إشارة إلى الفطرة الأصيلة للإنسان، والمعتقل في “المصابيح الزرق” كناية عن بئر يوسف، والغرفة في “الثلج يأتي من النافذة” هي لحظة الكشف عن بذرة الحرية واتخاذ القرار.

بذرة الحرية ليست قيمة دخيلة على الإنسان، بل جوهر كينونته والجهل صناعة. لقد كان أبطاله على غراره يريدون تخليص العالم من الظلم، وبهذا الصدد يشير إلى نفسه: “لمساعدتهم على الخلاص من حمأة الجهل والسير بهم ومعهم نحو المعرفة”.

إن الروايات الغزيرة التي كتبها بدءاً من “المصابيح الزرق” 1954، “الثلج يأتي من النافذة” 1969، و”الياطر”، -197 ورواية “الشراع والعاصفة” ، 1993 نُسجت في عالم يبدو مثالاً على الانفعال المكثّف ضد وضعيّة قائمة، (سياسية، اقتصادية، اجتماعية)، بحيث يخوض شخوصه الذين ينحدرون من القاع الاجتماعي (عالم بحارة وصيادين وعمال ميناء) دورة حياتهم. يكتب معللِّاً اختياره: “كي أفتح عيونهم على الواقع البائس”.

لم يكن البحر إذن سوى وسيلة لشحذ الإرادة، وما الصراع معه سوى صراع مع الذات في فهمها لمفاتيح وجودها ولغزها العميق. إنّ القيمة الكبيرة التي يعود بها البحار من قلب البحر إما ماديــــّة أو روحيّة؛ ولكن لا أحد يعود فارغــاً فالسلة الخاليّة من السمك قد تملؤها حكمة جديدة.

لقدعاد يونس من بطن الحوت مزوّداً بالفهم، (فهم دوره ووظيفته)؛ وكذلك يوسف الذي ساعدته وحشة البئر على أن يستعد لِمِلكٍ ومكانة قُدرّا له، إن جلجامش أيضـاً تعلم في رحلته وعبر خسارة صديقه أنكيدو عن الأبديــّة والخلود.

 لكن ماذا عن الذين عبروا البحر لاجئين، هل خرجوا من بطن الحوت!

ومع أن المعاناة التي يخوضها أبطاله فردية إلا أنها ضرورية لاكتشاف من نكون وحمل مسؤوليتنا إزاء الآخر. وفرادة حنا تكمن في هذا بالضبط، لذلك كافح الطروسي بطل الشراع والعاصفة من أجل العودة للبحر، لكن توجب عليه قبل ذلك محاربة محتكر الميناء والقوارب الخشبية وتحدي سلطته وهزم أعوانه لكي يثبت جدارته بالبحر والعودة إليه، إنــّه يذودُ عن حقوق الآخرين ويحمل هموم عمال الميناء، ويسبب القلق للمحتكر وأعوانه من أن يوعّي العمال بحقوقهم، وهو ينتظر استحقاقه بالنزول إلى البحر ومقاومة عواصفه وقبل ذلك عليه أن يثبت بطولته أمام عواصف البرّ من رجال الأمن والسراي والعملاء، وهي كالريح العاتية على الشراع لكنّه يقاوم.

لقد مُنِعَ من نزول البحر وفقد سفينته، فافتتح مقهى على الشاطئ بقرب البحر، ويمثل قول الأستاذ في الرواية خلاصة توجّه البطل “أن القضية ليست قضية فرد بل قضية مجتمع ينبغي إصلاح المجتمع”.

وهذه ال “ينبغي” هي التي حرضت الطروسي، إنّها هذا الرفض المشحون بالشجاعة؛ فالوعي قيمة مهمّة في مسيرة الإنسان للتحرر؛ ولكنها لا تكفي بدون الشرط الأهم: الارتباط الأخلاقي بالآخر ومصيرنا المشترك.

 يكتب في سيرته الذاتية: “فأنا أعرف أن اليوم الذي أنسى فيه ناسي، أو أدير لهم ظهري، أو ينقطع حبل السرّة الذي يربطني بهم سيكون يوم توقفي عن الكتابة، وتاليًا عن الحياة”

 لقد جسدت شخصياته الصراع من أجل التنوير لذلك سيعرضهم لاختبار أيوب، الفقر والمعاناة، التيه، ثم الخروج من النفق؛ لذا فهو يقيم الفجوة تلو الأخرى بين شخوصه وأفعالهم، إنّ فعلاًّ كالقتل الذي ارتكبه بطلالياطروالذي ينتهي به هائماً على وجهه في الغابة-يبدو غير مفهوم لصاحبه ذاته وكأن انفعاله غير المبرر ينتمي لغيره، كذلك السجن بالنسبة لبطل المصابيح الزرق.

إن إدراك البطل لعالمه الداخلي ولأسطورته الذاتيّة، ووعيه العميق بقيمته كإنسان لاحقة للعزلة القسرية في الغابة أو السجن، لذا نجد شخصياته تعاني بداية من توهان وتحُاصر بشكوك ذاتيّة في إنسانيتها، تعيش وطأة الندم في كل ما تفعل فمصيبتها ماثلة في كيفية إدراكها لواقعها ولابدّ من النضال لبناء إدراك جديد

إن لديه قدرة هائلة على تشخيص جوانية أبطاله وتشريحها، عبر ارتدادٍ قاسٍ على الذات فشخصياته تجسيد للحظة التي ذكرها كونديرا “اللحظة التي  تهمل فيها الرواية عالم الفعل المرئي لتعكف على اللامرئي في الحياة الداخلية

وعبر تقنية الاستبطان، تتيح أعماله للقارئ فرصة المراقبة لتفتح ونمو الوعي لدى الشخوص فبطل “الياطر” فوضويّ ومتمردٌ على كل سلطة؛ يهرب للغابة بعد عملية قتل ارتكبها. وفي “الثلج يأتي من النافذة”سياسي يهرب من وطنه سوريا ملاحقًا إلى لبنان وتسهم عزلته وهروبه في تطور إدراكه للواقع وأيمانه بالكفاح العملي؛ وفي “المصابيح الزرق” تتحول شخصية البطل إثر سجنه، ومع أنه ينضم للجيش الفرنسي؛ لكن بفعلته سيحرض والده للخروج في مظاهرة ضد الفرنسيين، ويتدرج فياض بطلالثلج يأتي من النافذة من المعاناة والمشقة إلى المرحلة الأسمى المتمثلة في النضال الفعلي وكتابة منشورات تنويرية.

إن البطل حبيس جهله الأولي عاجز عن استيعاب وضعه اللاإنساني والذي يكمن في بقائه مدفوعًا من الآخرين نحو قدر لا يد له فيه، وشرط خروجه من محنته لا يختلف عن شرط خروج يونس من بطن الحوت، الذي أحاطت به ثلاث ظلمات، (ظلمة البحر، وظلمة الحوت وظلمة الليل) – والمقابل الرمزي في أعماله  ظلمة الجهل وظلمة العجز وظلمة الشرطاللاإنساني (الفقر والامتهان) ولكن الأخير ليس سوى انعكاس للشرطين الأولين، لذا سيقسو على شخوصه عبر صنوف العذاب كالجوع والحمى والآفات الجسدية وتعريضهم لكافة أنواع الحرمان الجسديــّة والنفسيّة وعلى غرار صانع السيوف سيعرضهم للضربات العنيفة والكاوية.

تعكس أعماله في أعماقها رفضاً للخلاص الفردي والنظرة القاصرة التي ترى البشر: كمجموعة أنانيات، إن بطل “الياطر” سيقود الناس للثورة بعد رحلة التيه والجنون، وكذا بطل الثلج الذي يقرر: “لن أهرب بعد الآن، لن أهرب بعد الآن.”

 يصف مينه عودة الشخصية في الياطر ” لم تكن له وجهة نظر واحدة، الحياة، في هذه الغابة، هي التي أعطته وجهة نظر، قوامها أن يكافح ليعيش، وقد كافح وعاش، وحين ظهر حوت آخر في ميناء المدينة، يعود رغم الخطر الذي يتهدده، وفي فعلته هذه بعد أن حولته شكيبة من وحش إلى إنسان، يسهم بعفوية في بناء العالم الجديد، إذا ما عرفنا أن الحوت هو رمز الأجنبي الفرنسي الذي جاء غازيــًا ومحتلاً سورية”.

ولأن ضريبة الجهل غالية تبرز أصالة المؤلف الذي عمل حمالاً في الميناء، وكتب أولى قصصه على الأكياس في امتزاج تجربته بأدبه وامتلاكه رؤية مستقبلية للهوية الإنسانية السورية؛ فمن رماد الجهل واستلاب الوعي تنبت جمرة الوعي بالذات وبالغير، وحنا مينة بحار وتعرفون معنى أن يكون المرء بحاراً، كلنا في السفينة معاً ولا نجاة لنا إن قفزنا منها فرادى دون اكتراث بالآخر الذي يشاركنا محنتنا.

 “البحار لا يصطاد من المقلاة وكذلك لا يقعي على الشاطئ بانتظار سمكة السردين التافهة. إنه أكبر، أكبر بكثير، وأنا هنا أتحدث عن البحار، لا عن فتى الميناء”.  لقد كان أدبه تجسيداً بليغاً لما عاشه، وهو يطالب بحقه من المستقبل.

 أن نقدم إجابة وافية على سؤاله حول معركتنا الحقيقية، فهل هي مع الآخر أم مع جهلنا وضعف إدراكنا لواقعنا وقراءته بعمق؟  وما مسؤوليتنا إزاء بعضنا البعض؟

 هل وصلتنا رسالته. وكيف تلقيناها؟ ومالذي سنضيفه إليها؟ وهو الذي يعترف أنه لم يستنفد كل الكلمات، ويشعر بمسؤوليته تجاه المستقبل الذي نحن سكانه الآن ” أوجه كلماتي إليكم، الآتون بعدي من الأجيال الشابة، إذا لم تكن لكم قلوب من تراب”.

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”

مواضيع ذات صلة

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

مواضيع أخرى

النساء ومعاركهن المتجددة

النساء ومعاركهن المتجددة

 يتم تسويف قضايا النساء بذرائع متعددة على الدوام، مرة بذريعة الحرص على الأخلاق العامة، ومرة أخرى بذريعة عدم المواجهة مع قوى الأمر الواقع، ومرات بذرائع تنبع فجأة من خبايا السنين وتصير حاضرة بقوة مثل طبيعة المرأة البيولوجية، أو التشريح الوظيفي لدماغ المرأة، وصولاً...

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

تمر سوريا اليوم بمرحلة فارقة في تاريخها، حيث يقف الجميع أمام اختبار صعب: هل يمكن تجاوز إرث القهر والاستبداد لبناء دولة جديدة قائمة على الحرية والكرامة؟ أم أننا سنتعثر مجددًا في أخطاء الماضي، التي صنعها الخوف، الصمت، وصناعة الأصنام؟ اليوم، نحن في حالة فراغ سياسي...

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

شهدت سوريا خلال أربعة عشر عامًا من الصراع تحولًا جذريًا في موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية. بدأ الحراك شعبيًا وسلميًا، لكنه انتهى بصراع مسلح معقد ومدعوم خارجيًا، في ظل غياب قوة سياسية مؤثرة ميدانيًا. وبينما ساندت روسيا وإيران النظام السوري، مما أطال أمد...

تدريباتنا