تدريباتنا

الانتظار وحرائق جدتي

بواسطة | أبريل 26, 2020

آلاف المشاهد تزدحم في ذاكرتي لأصدقاء وأبناء غادروا على عجلٍ دون أن يلتفتوا خلفهم وكأنّ رحلة هروبهم لم تكن إلا لعبة غميضة قصيرة الأمد يلعبونها في زوايا المكان لكنها طالت وامتدت بعيداً إلى أماكن الشتات في كافة أصقاع الأرض. سأروي يوماً قصص الشوق المعلّق على محاجر الأمهات في انتظار أبناءٍ لن يعودوا، أبناءٍ دفنتهم الحرب وغابوا في شقوق الأرض وآخرون غيبهم سراب الطريق الطويل في غربةٍ لا نهاية لها. “لن أتأخر في غيبتي” هكذا أخبروا أحبتهم ظناُ منهم أنّ العودة قريبة، كانوا في لحظتها على ثقةٍ بأنّه رغم كل هذا الرعب والدمار الذي خلفته سنوات الحرب السورية الطويلة لابدّ وأن يحظوا بلحظة وداعٍ أخيرة حرموا منها جميعاً، فكل الحروب تنتهي عاجلاً أم آجلاً. أما اليوم فلم يبق لهم سوى الانتظار، وحده الشتات كان بانتظارهم وحدهم.

 كنتُ واحداً ممن غادروا هذه البلاد وعدتُ إليها بعد أن كاد يخنقني الحنين. أقف اليوم عند عتبة بيت جدي مستعيداً ذاكرة طفولة ضبابية كالحلم، وكما في تلك الأيام، أجلس عند موقد النار وألفّ أصابعي بخيوط الصوف السميكة، تلك التي كانت تستخدمها جدتي لتصنع منها فتيلاً لضوء قنديلها، وأتذكرها اليوم كما لو أنّ ما حدث لم ينته بعد. أسترجع صوتها وهي تنادي على عمي كي لا يسافر بعيداً، لتبقى بعدها تردّد بمرارة “لم يعد مجيد يا بني، يبدو أن الشموع التي أضأتها له لم تنفع، آه لو يعود سأشعل له أصابعي إن عاد.”

 ألفّ أصابعي الآن وأنا أستعيد مشهد جدتي وهي تحكي لي حكايات الغابات والأنبياء بينما كان مغزل الصوف يدورُ في يدها، أنا الطفل الذي ظنّ وقتها أنها تغزل الخيطان وتخبئها لتلفها ذات يوم على أصابعها وتوقدها احتفاءً بعودة ابنها، لذلك كنت أكرهُ صوف الخراف كثيراً وأبكي كلما رأيت شيئاً يشبهها. لم أرد شيئاً يذكرني بخيوط الصوف حتى لحية جدي البيضاء والطويلة كانت تشعرني بالفزع والخوف، وكم كنت أخاف النار أيضاً، النار التي لا تعني لي سوى احتراق أصابع جدتي، وكي أحميها خطرت ببالي فكرةٌ صغيرة وهي ألّا أدعها تُشعل النار لوحدها أبداً، ومن حينها لا أذكر إن مرّ يومٌ دون أن أكون حارس النار في بيتها، حارساً يحمل أعواد الثقاب بجيبه الصغيرة ويفتح دفتر ذاكرته ليشهد على نارٍ لن تنطفئ بعدها.

في صباحات تلك الأيام البعيدة كنتُ أستيقظ على صوت باب الغرفة الخشبي وهي تشرعه لندى الصباح ورائحة الحبق المزروع في زوايا المكان، ليبدأ يومي بإشعال التنور في الغرفة الصغيرة في قبو البيت، فجدتي كانت تحرص على أن تُعدّ خبزها بنفسها مع فجر كل صباحٍ. كنتُ أرقبها وهي تعارك وعاء العجين ملثمة بشالها الأبيض كما لو أنها كانت فارساً يخوض معركةً عنيفةً، بينما كنتُ أجلس بالقرب منها لأدفع ببقايا القش وأوراق البلوط تحت نار الموقد كي لا تخمد. لا يمكن أن أنسى مشهد الضوء المتسلل من الشباك الصغير في أعلى الغرفة الحجرية وهو يمتزج بدخان الموقد ورائحة الخبز مشكلاً فضاءً ممتداً لخيال طفل أدهشته ألاعيب الضوء والدخان، وكالجنية في الحكايا كنت أخالها تحاكي أحداً ما أو ترقص معه وهي تلوّح بكلتا يديها بأرغفة الخبز وكأنهما جناحا حمامة، ضاربة أكفها تارة على خشبة أمامها وتارة أخرى على صاج الخبز بجانبها، كم كنت سعيداً وأنا أسترق النظر محدّقاً بأصابعها الصغيرة لأتأكد أنها بخير.

 كنتُ أحرصُ على إبقاء النار متقدة ًفي بيتها كل يوم خوفاً من أن تُشعل أصابعها في غفلةٍ مني، فأدورُ حول نار الغسيل ونار الطبخ ونار الشتاء كفراشةٍ تحتفي باللهيب لأشعلها بدلاً عنها. من خوفي على أصابعها أخذت على عاتقي حتى إشعال البخور في ليالي الصيف الحارة لطرد الحشرات من غرفتها، “لن أدعها تمس النار” كنت أهمس في داخلي وأردد “أنا حارس النار …أنا حارس النار”.

لا أتذكر إن مرّ يومٌ في طفولتي دون نارٍ، لكني فزعت ذات يوم عندما انتبهت أن خيوط الصوف تملأ البيت، خيوط طرزتها على شبابيك غرفتها وعلى أطراف السرير، شالات خبأتها في رفوف خزانتها، معطف جدي، إطار الصورة المعلقة لعمي مجيد، بساط الغرفة المصبوغ بالأحمر، وسادة نومها، وحتى مقابض الأبواب ومعطفي الدافئ، وحدها أصابعها كانت عارية من خيوط الصوف، لم أنتبه في غفلة دهشتي أنها ربطت جديلتها أيضاً بعقد صوفيّ مطرز يتدلى على أكتافها وعنقها ويمتد حتى أسفل ظهرها.

في آخر أيامها وقبل أن تتيبس عظام مفاصلها رأيتها تمسك صندوقاً صغيراً وتنزل به القبو عبر الدرج، وما إن شممت رائحة الدخان تنبعث من غرفة التنور حتى هُرعت صوبها لأجدها جالسةً بجانب الموقد وقد فتحت الصندوق وبدأت بإحراق كتبٍ ودفاتر كانت كل ما بقي لها من رائحة ولدها الغائب. وقفتُ متجمداً عند الباب فاللحظة التي كنت أخافها دائما قد أتت، كان الصمت رهيباً في الغرفة والدخان الكثيف المنبعث من الموقد قد حوّل المكان لمسرحٍ كبيرٍ مفتوح على كل المشاهد والأسئلة، وحدهما عيناي كانتا مسمّرتين على يديها في انتظارٍ وخوفٍ أوقف الهواء في حنجرتي، لم أدر كم من الوقت مرّ حينها وكل ما أذكره بعد ذلك أنها وبعد أن خمدت النار ضمتني إلى صدرها وأطلقت أصوات حنجرتها المكبوتة منذ زمن لنحيبٍ طويل.

جدتي التي أضرمت النار في طفولتي ذات يوم، قالت لي وهي على فراش الموت هامسة في أذني: “عندما أموت قُصّ ضفيرتي الملفوفة بعقد الصوف وأشعلها عندما يعود مجيد.”

مواضيع ذات صلة

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

 "كنت أحلم بلوحةٍ تستطيع أن تخاطب بجمالياتها شريحة أوسع من الناس، لوحة تستطيع تجاوز مجموعة الجمهور التي تتكرر في حفل الافتتاح لأي معرض". ربما توضح تلك الكلمات، وهي للفنان نذير نبعة، مدى تبنيه وإخلاصه للفن، الذي كان رفيق دربه لأكثر من ستين عاماً، فهو الفنان الذي...

مواضيع أخرى

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

رغم انتشار ثقافة المطالعة واستقاء المعلومات عن طريق الشبكة العنكبوتية إلا أن ملمس الورق ورائحة الحبر بقيا جذابين للقارئ السوري. ولم تستطع التكنولوجيا الاستحواذ على مكان الكتاب الورقي، أو منافسته. وبقي الكتاب المرجع الأساسي والحقيقي لأي بحث علمي وأكاديمي، ولم يستطع...

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

بقي الريف السوري محروماً من المسرح إلى أن أنشأت مديرية المسارح والموسيقى في وزارة الثقافة ما أسمته "المسرح الجوال" عام ١٩٦٩، والذي بدأ عروضه بنشر الوعي المسرحي في الريف والمناطق الشعبية والنائية. صارت الصالة في كل مكان  والجمهور ضمنها، وكان كسر الحواجز بين...

“وفا تيليكوم”: اتصالات إيرانية على أراضٍ سورية

“وفا تيليكوم”: اتصالات إيرانية على أراضٍ سورية

ينتظر السوريون في الأسابيع المقبلة بفارغ الصبر وفق تصريحات حكومية انطلاق المشغل الخلوي الثالث "وفا تيليكوم" المرتبط بإيران التي ستدخل على خط الاستحواذ في قطاع الاتصالات الحساس والذي ظلّ حكراً على متنفذي السلطة لعقود. من خلال التواصل المباشر مع مصادر متعددة من داخل...

تدريباتنا