أجرى فريق #صالون_سوريا، دورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة الحساسة...
تدريباتنا
ورشة تدريب صالون سوريا
يعلن فريق #صالون_سوريا، التحضير لدورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة...
حواجزٌ اسمنتية وأخرى حديدية تبتلع ثلاثة أرباع الشارع فيما يشغل عسكري جزءاً من الربع الأخير وهو يؤدي واجب التفييش وعرقلة حركة السير، على مد النظر تنتشر باصاتٌ ضخمة تحمّل أتلالاً من الأفراد، وبأعدادٍ كبيرة تثير تعليقاً متذمراً بين منتظري وسائل النقل العامة: ” من أين تخرج هذه الجموع وأغلب الشعب بين المهجر والشهيد؟”
يمكن لزاوية منعطف تحت جسر الرئيس أو جسر الثورة أن تُجسد مشهد المأساة اليومية، كما لو أنّها لوحة تحمل وجوهاً معلّقة في الفراغ، بملامح ونظرات واحدة، وحركات جسد متأهبة للتدافع والركل عند قدوم وسيلة النقل.
وفي ظل سنوات الحرب المحقونة بضجيجها طفت في الطرقات سُلطة جديدة، تضاف إلى قائمة السُلطات الكثيرة في البلد، مثلتها سُلطة السرفيس والتكسي.
فالكثيرون اليوم لجؤوا إلى مهنة سائقي التكسي، بعد أن قضمت أنياب الحرب العديد من المهن، وأفرزت نسباً كبيرة من العاطلين عن العمل، مما دفع خليطاً هائلاً من كافة شرائح المجتمع للالتفاف حول هذا المقود.
وتكفي القفزات التي شهدتها عدادات التكسي لأن تقتني تكسي جديدة، بسبب الزيادات التي تراكمت خلال السنوات الثمانية الماضية، ففيما كنت تستطيع الذهاب إلى سوق الحميدية أو منطقة الحريقة وتوابعها بـ (35) ل.س قبل الحرب، اليوم يترتب عليك أن تدفع مبلغاً يتراوح بين (600-700) ل.س للمشوار الواحد، إن سوّلت لك نفسك اتخاذ قرارٍ بركوب التكسي، فعملة اليوم لم تعد لها قيمة في هذه البقاع.
في إحدى دوائر الدولة حيث الشعور باللاقيمة واللاعتبارية التي تقابل المراجعين هناك، قال لي أحدهم:” لقد خدمت في الدولة 20 عاماً كمهندس زراعي، وفي اللحظة التي طُلب مني فيها أن أخالف القانون بحفر آبار ارتوازية في دمشق، وذلك من قبل الأكبر مني نفوذاً، تخليت عن وظيفتي، واقتنيت سيارة أعيش فيها مرتاح البال، وأعود لبيتي لأنام نظيفاً” مضيفاً “صدقيني يا ابنتي، غيري سيفعلها، لقد عُرض علي مليونا ليرة سورية، الشام الآن في أحلك أيامها عطشاً والموافقة على هذه الآبار فيه ضرر كبير لها.” منهياً حديثنا بـقوله: “اتركي كل شيء خلفك، ولا تنتظري اصلاح الكون، نحن هنا محكومون، ولا خيار لنا إلا بيع أنفسنا اذا أردنا أن نبقى في هذه المؤسسات، وهذا ما دفعني لإدارة هذه المؤسسة (السيارة) كي أريح نفسي من كل قرفهم”.
ولكن في دمشق لا يمكن الاعتياد على هذه الوسيلة في تنقلاتك، وإن أجبرت على هذا الخيار فهناك خطوات عليك ترتيبها قبل رحلتك، أولها وجهة السائق، حيث تحددها لتتوافق مع وجهة السائق ثم أجرة الطريق والخلاف بينكما من حيث التسعيرة، حيث تعد المفاصلة أحد أهم الشروط المسبقة لعملية الركوب، إذ يمكن لبعض السائقين أن يرمي أسعاراً خيالية بين منطقتين تفصل بينهما بضعة أمتار لا أكثر. غالبية السائقين يتحكمون بالرُكاب في أوقات الذروة والازدحام المروري، حيث يجري ضمنياً اتفاق فيما بينهم على تسعيرة واحدة، ويجري تطبيق هذه المعاهدة دون أن يخل أحداً بشروطها. أكثر شواهدها حضوراً، اختزلته السنوات الأخيرة بمسمى “التكسي سرفيس” والتي أخذت على عاتقها تخفيف أزمة المواصلات ولكن بشروط السائقين، فجميعهم يمسكون بالخيط وإبرته، ويحيكون أسعار الطرقات وفقاً لمشيئتهم.
يصطف سرب من السيارات المتوجهة إلى جرمانا عند حافة جسر الرئيس، في البداية جرى الاتفاق على 300 ليرة، أصبحت لاحقاً 400 لتنتهي بـ 500، يلحق هذه التسعيرات العديد من المبررات المتعلقة بارتفاع سعر مادة البنزين، وغلاء القطع، حتى أنّ البعض قد يضاعف التسعيرة إلى عشرة أضعاف. وباتت هذه الديباجة مكررة حتى حفظها معظم أفراد الشعب عن ظهر قلب وبات يرددها على مسمع السائقين، إلى أن حلت أزمة الوقود وتمت إزالة بعض الحواجز من الطرقات، عندها واجه بعض الركاب سائقيهم بأنه لم يعد مبرراً لهم إبقاء السعر المرتفع على حاله، إلا أنهم وجدوا تبريرات جديدة كرشوة شرطي المرور حيث يتطلب حفاظ التكسي على مهنته استخدام رشاويٍ يُسكت بها شرطة المرور، إلى جانب الكثير من الأمور التي تجعل الراكب المُحتاج للتوصيلة يصمت ويصعد معه وهو ممتن. و تستطيع هذه “التكسي سرفيس” أن تخبرك عن الكثير من أحوال من يصعد بقربك، فهي كمساحة أصغر من السرفيس أو الباص وقلة عدد الركاب تخلق جواً من الألفة، ورغبة بالشكوى والتحدث مطولاً.
يبدو الجميع محتاجين لمن يتحدثون إليه بعد أن فقدوا قدرتهم على كبت كل هذه المآسي التي لم تعد محتملة، الشعور بالوحدة يترافق مع إدارك بأن كل من حولك يعيش الحال ذاته، مما يساعد على تحطيم الكثير من الحواجز بين الناس، فالكارثة وحدّت الآمهم، وبات الجميع يشعرون بأن الحزن والغضب حالة معممة، لهذا لم يعد مهماً ما يتم التفوه به اتجاه كل هذه الخسائر.
نادراً ما كنت أصمت عند المشاركة بحديث يشمل الحال العام، ولكن في واحدة من المرات التي كانت فيها وجهتي جديدة عرطوز، تشاركت عندها التكسي مع ثلاثة اشخاص، أحدهم يجلس في المقعد الأمامي يحمل موبايله منهاراً وهو يصرخ: “كيف حصل ذلك؟ لقد قلتم لي بأنه قد تجاوز مرحلة الخطر” قبل أن ترتجف أصابعه ويسقط الموبايل من يده، يتفوه ببضعة كلمات:” لقد كنت في حماة لم يعطوني إجازة منذ سنتين، هربت من هناك لأزور ولدي المريض بالسرطان، يالله طفل لا يتجاوز عمره الخامسة يأكله السرطان؟ لقد استدنت من صديقي أجرة القدوم إلى دمشق وعبرت كل هذه المسافة فقط لأراه”.
يسمع سائق التكسي العديد من الحكايات كهذي التي شهدتها، ويُعيد العديد منها على مسامع ركاب سيارته ببعض المبالغة أيضاً، وبإحساس ودقة تبدو جلية في مرآة عينيه أحياناً أخرى.
سائق أنيق تملأ رائحة عطره السيارة، يشيح بوجهه بعيداً ويشارك قصصه الخاصة عن زوجته التي تركته مع ثلاثة أولاد. “لقد تزوجتْ قريبة أحد أصدقائي الذين تطوعوا في الدفاع الوطني، وكانت أكبر منه سناً، لا أعلم لما فعلت ذلك، كنت زوجاً صالحاً، ولتعلمي أنا أعمل في مديرية الشؤون الاجتماعية صباحاً وسائق تكسي بعد الظهر، ولكني رزقت بزوجة ثانية بعد سنة من هجرها لي الحمد لله، هي حنونة تعتني بأولادي، أكبرهم سنة أولى جامعة”.
وفي تكسي أخرى كان ردُّ السائق عند مفاصلتي له أبلغ من أية نقود كنت سأدفعها: “نحن تركنا بيوتنا وأراضينا وقدمنا إلى دمشق لا نحمل شيئاً إلا رائحة دورنا وأهالينا، كان لي معمل في عربين وفيه عمال كثيرون لا علم لي اليوم أين أراضيهم يا ابنتي، فلتهدأي أرجوك لأني لن أتقاضى منك إلا المبلغ الذي تأتين به عادة”.
بين كل القصص اليومية التي أسمعها والأحاديث التي أخوضها في تكاسي البلد، لن أنسى ذاك الحوار مع أحد السائقين الذي كان الأكثر أهمية بالنسبة لي لما يحمله من تناقضات الواقع وبشاعته.
صعدت التكسي بتوتر فشكل السائق بذقنه الطويلة وشعره الحليق أثار قلقي، وعند وصولنا إلى أول حاجز بدأ بالسرد: “البارحة عدتُ من دير الزور، عدت من ساحات المعركة إلى ساحات مشابهة لها، فنحن في معسكراتنا نواجه حرب البقاء، عندما يصمت صوت المدفعية يعلو صوتٌ من الداخل يخبرك كيف كتب لك البقاء وهناك من قاتل وناطح التلال والصحاري إلا أن الموت قد كان سباقاً إليهم، لماذا هم ولست أنا؟ ومن له الأحقية في البقاء؟ بالرغم من أنّ الغد سيكون شبيهاً باليوم، وستذهبين لتخوضين المعركة من جديد ويمكن للوقت أن يلحقك بهم بعد ساعات قليلة. هذه الساعات المسالمة هنا كانت أثقل من كل ساعات القتال الذي انتهت بسرعة قياسية مقارنة بالزمن الذي ستجلسين به لتعددين كل خسائرك التي رحلت قبل دقائق من الآن، خسائرك الماضية”. مضيفاً “المرة الأخيرة التي سمعت فيها صوت الفتاة التي كنت أرتاح لها كانت قبل اتصال العقيد المسؤول عني ليخبرني بأمر الالتحاق بقطعتي التي ستقاتل في دير الزور، كانت تتصل بي لتتلمس تعلقي بها، تطلب مني أن أطمأنها بكلمة عن مصير علاقتنا وعن تمسكي بها، عن طلبي منها بأن تنتظرني حتى الأبد… إلا أنها الآن متزوجة. فلقد أنهيت المحادثة بطلبي منها أن تكمل حياتها بشكل طبيعي وألا توقف حياتها عند شخص مجهول الطريق والإحداثيات، إن جاء أحدهم إليك راغباً فتزوجيه قلت لها وفعلت.”
في ساعات الذروة يفاصل أحد الركاب كالعادة السائق الصعود في سيارته فيرد عليه: “الطريق هو الحاكم”. يتشاركان حديثاً طويلاً يبدأ بأنّ هذه المهنة صعبة وخطرة لننتهي بأنه من دير الزور، وعندما يتلمس السائق حنيناً من الراكب يسأل “زرتها؟” ويدور الحديث التالي
نعم أثناء مواسم التنقيب الأثري هناك
الله يرحم، لم يعد هناك تنقيب ولا صخام
الكون بجله اشترك بهذه الجريمة ولكن المهربين الحقيرين هم الأسوأ
يغضب ويدير رأسه نحوي قائلاً: “من هم الحقيرين؟ أتعلمين لو أنه يقع بين يدي تحفة لما توانيت ثانية عن بيعها.” أجيبه فوراً: “إنه تاريخ البلد وفيه هويتنا وتراثنا”. يردف قائلاً “عندك ولاد؟” أجبته “لا،” فتابع قائلاً “عندما يطلب ابنك منك جاكيت أو حذاء ولا تملكين سعره ستلعنين أبو التاريخ وأبو البلد، أنا أمّي لكني أعي تماماً ما تقولينه ولكن أولادنا أهم من كل هذا، فكي عني (أي حلّي عني.)!”
في الأيام القليلة الماضية والتي عانينا فيها من موجة الصقيع والبرد صعدت فيها مع شابٍ في مقتبل العمر، يدور حديث بيننا عن المازوت والكهرباء والاتفاقات التي بقيت قائمة حتى مع الدول الأعداء في خصوصهما، يقول بحسرة: ” إني نادم أشد الندم كوني رفضت مرافقة أخي في الوقت الذي سافر فيه، الآن لا أفعل شيئاً سوى إيجاد طريقة هرب وبأسرع وقت ممكن، لو يمكنهم سرقة الهواء الذي نتنفسه لما قصروا ولكنه هواء ملوث طافح بالبشاعة لا يمكن لأحد شراءه.”
إضافة لحكايات الألفة ينعكس غياب الأمان والحوادث على علاقة السائقين بركابهم أيضاً، حيث شهدت السنوات الأخيرة تعرّض الكثير من سائقي التكسي للقتل والنهب، كما اختطف العديد من السائقين مع سياراتهم وتم قتلهم أو اعتقالهم،في الوقت نفسه ملأ الرعب قلوب الراكبين بسبب جهلهم بمن يقود سيارتهم وقلقهم من خطورة الطرقات التي بات يسكنها الرعب والخوف، خوفٌ بات يسكن طرفي العلاقة شأنها شأن بلد كامل بات فيه الجميع يخشى من الجميع.
مواضيع ذات صلة
مواضيع أخرى
تدريباتنا
ورشة تدريب صالون سوريا
أجرى فريق #صالون_سوريا، دورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة الحساسة...
ورشة تدريب صالون سوريا
يعلن فريق #صالون_سوريا، التحضير لدورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة...