تدريباتنا

الحل في سوريا هو ثورة ثقافية

بواسطة | نوفمبر 28, 2017

-I-

ما يجري في سوريا الآن (ثورة مصنَّعة)، بدأتْ متقَنة ومحبوكة بشكل ذكي للغاية. ولا يمكن النظر إليها كحدث منفصل عن التغيرات العالمية: صعود قوى جديدة وانهيار قوى عملاقة تعجز عن استنهاض ذاتي داخلي لاقتصاداتها المتهاوية، فكان لا بدّ لهذه القوى الثانية من زعزعة أطراف الإمبراطوريات الناشئة بادئةً بالأطراف وليس بالمراكز، لأسباب تتعلق بارتباط كلٍّ من الاقتصادين. ولأسمِّ الأشياء بأسمائها: ليست الرأسمالية العالمية التقليدية، وعلى رأسها أميركا، في أزمة بقدر ما هي في حالة انهيار، ولا يسعها القيام بحروب عسكرية ضد غريمها الصيني المتنامي، على الأقلّ الآن، بسبب زواج اقتصاداتها بهذا الاقتصاد الصيني ومديونيتها له بسبعة آلاف مليار دولار على شكل سندات خزينة. إذاً لا بدّ من تقليص المسافة بين النّموّين (أميركا -9% والمؤشر إلى نزول، والصين +13 % والمؤشر إلى صعود) –ولتكن (الحرب) بشكل غير مباشر، وبأرخص الأكلاف: إحراج اقتصاديات وزعزعة نمو الإمبراطورية الصاعدة عن طريق تجييش الأكثريات في مجتمعات الأطراف، وليكن الممر السوري/ العراقي/ الإيراني إحدى هذه المحاولات، مع الأخذ بالاعتبار أن الخلقة العراقية في هذا الممر ليست جديرة بالذكر لأنها قد تحولت إلىدولة فاشلةبطبيعة الحال.

نعود إلى الأكلاف: استخدام الإسلام السنّي كمطية سهلة ورخيصة ووضعه في مواجهة الإسلام الشيعي والأقلياتِ التي يرى معظمها أن لا فائدة ترتجى من وراء المواجهة المباشرة، ولو كانت سلمية، مع نظام فاسد في بنيته الذاتية وفي تبعيته، لأسباب جيوسياسية معروفة، للشمال الصاعد. وترى، كما يرى الكثيرون أن الإصلاح البطيء، التراكمي، هو الحل الذي يجنب البلاد الدم والخراب.

لم يدرك أحد هذين العاملينالقدَرَين الرئيسين: النظام الذي يمتلك البلاد بجيشها واقتصادها، والتصاقه العضوي الذي تكرس منذ أكثر من نصف قرن بروسيا والصين، وبالتالي استحالة انفكاكه عنه ولو كلّف ذلك تهشيم كلّ شيء. وليس أدل على ذلك من أن أول فيتو صيني في التاريخ كان لصالح سوريا، وأن روسيا تستميت الآن في حماية النظام السوري.

مع (تحريك) كوريا الشمالية، قد تتغير المعادلات ويفقد إغلاق الممر السوري/ الإيراني أهميته، فمعظم الولايات الأميركية باتت تحت مرمى الصواريخ الكورية الآن، وبالتالي ستربح روسيا الحرب، ولا بأس من إعطاء الشركات الأميركية بعض المكاسب النفطية والاستثمارات في إعادة الإعمار.

-II-

لا بد من التغيير في بنية النظام الفاسد القائم الآن، أو تغييره. ويبدو أن (قدر) سوريا الجيوسياسي سيأتي بنسخة تكاد تكون مطابقة للنظام القائم. لذلك فإن (الثورة) البديلة للإسلام معطوب الرأس والقلب هي (ثورة ثقافية) تعمل على تفكيك المقدس السلفي وفصله عن الدولة وإنجاز مشروع علماني مكتمل يكون فاتحة عدالة اجتماعية، وإطلاق الحريات دون شروط، وإغلاق السجون السياسية مع تفعيل القضاء المدني المنفصل عن المؤسسة الحاكمة، وترسيخ ثقافة القانون وفكرة أن النظام، ورأسه، هم موظفون لخدمة الشعب السوري وليس ملاكاً لمزرعة وأقنان.

-III-

كلّ شيء يشير إلى أن البلاد تسير نحو الحلّ. ويبدو أن هذه الحرب هي حرب وجود أو لا وجود بالنسبة للأطراف المعنية، وهي: النظام السوري وإيران وروسيا والصين. أكتب هذه العبارة وأنا أسمع الآن الأصوات المكتومة الدائمة للصواريخ الروسية التي تخرج من القطع الحربية البحرية باتجاه مواقع المعارضة المسلحة في الداخل، ما يشير إلى أن أميركا قد سحبت يدها من القضية السورية لصالح الدول آنفة الذكر، وأن المعارضة (أو المعارَضات) المسلحة قد انحصرت في جيوب تتضاءل يوماً إثر آخر. ربما كان بعض ثمنِ انسحاب أميركا الاعتراف بنفوذ لها في إقليم كردي، والتخلي عن شطر من إدلب متاخم لتركيا، كجائزة ترضية.

-IV-

قلتُ أعلاه إن الحل هو ثورة ثقافية. ولن يقيض لهذه الثورة النجاح ما لم تطحْ بثقافة المحسوبيات وتتجاوز المؤسسات الثقافية الرسمية البيروقراطية. هناك مطلب إلغاء الرقابة، والسماح بصحافة حرة، ودعوة المثقفين السوريين للعودة من منافيهم الإجبارية أو الاختيارية ليقولوا ويكتبوا كما يفعلون الآن في تلك المنافي.

على المثقف أن يكون صوتَ ضميره وضمير شعبه، وليس زلمة سلطة فصامية فاسدة.

-V-

العدالة الاجتماعية، تفعيل القضاء النزيه، إلغاء المحسوبيات والمحاصصات الطائفية، الزواج المدني، بناء مؤسسة جيش وطني يُنصَّبُ قادته وضباطه على أساس الجدارة لا على أساس الطائفة أو العشيرة.

ومع الإقلاع في مشروع علمنة ومدننة المجتمع السوري، ووضع المقدس الديني على طاولة البحث، سيُمنى الفكر الديني برمته بالخسارة بالتأكيد، ما يفسح المجال أمام الجيل الجديد لأن يختار شريك حياته دون الأخذ بالاعتبار منبت وطائفة هذا الشريك.

-VI-

رؤياي قاتمة بعض الشيء.

سيبقى الجرح الطائفي ينز صديدَه إلى أمد طويل. ربما يتخامد مفعوله رويداً رويداً مع (أريحية) اقتصادية ينعم بها الشعب السوري مع عودة انتعاش هذا الاقتصاد والبدء باستثمار النفط الموعود.

ستبقى الأحزاب القومية التي أخرجت من أرحامها الفاشية، مع تغيير طفيف في الأسماء والواجهات. وسيبقى المعارض الوطني مقصىً إذا تجاوز الخطين الأحمرين: النظام، والواقع الجيوسياسي للبلاد.

ما يلطف هذه الرؤيا، إيماني بأن شعب حضارة الـ 7000 سنة لا يمكن خصيه، أو وقف روحه الخلاقة بطبيعتها عن إعادة بعث نفسه من الرماد، ليطير من جديد نحو آفاق الإبداع في العلم والفن.

الشعب السوري هو طائر الفينيق القادم.

مواضيع ذات صلة

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

مواضيع أخرى

النساء ومعاركهن المتجددة

النساء ومعاركهن المتجددة

 يتم تسويف قضايا النساء بذرائع متعددة على الدوام، مرة بذريعة الحرص على الأخلاق العامة، ومرة أخرى بذريعة عدم المواجهة مع قوى الأمر الواقع، ومرات بذرائع تنبع فجأة من خبايا السنين وتصير حاضرة بقوة مثل طبيعة المرأة البيولوجية، أو التشريح الوظيفي لدماغ المرأة، وصولاً...

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

تمر سوريا اليوم بمرحلة فارقة في تاريخها، حيث يقف الجميع أمام اختبار صعب: هل يمكن تجاوز إرث القهر والاستبداد لبناء دولة جديدة قائمة على الحرية والكرامة؟ أم أننا سنتعثر مجددًا في أخطاء الماضي، التي صنعها الخوف، الصمت، وصناعة الأصنام؟ اليوم، نحن في حالة فراغ سياسي...

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

شهدت سوريا خلال أربعة عشر عامًا من الصراع تحولًا جذريًا في موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية. بدأ الحراك شعبيًا وسلميًا، لكنه انتهى بصراع مسلح معقد ومدعوم خارجيًا، في ظل غياب قوة سياسية مؤثرة ميدانيًا. وبينما ساندت روسيا وإيران النظام السوري، مما أطال أمد...

تدريباتنا