تدريباتنا

الحوالة كبديل للوطن

بواسطة | سبتمبر 20, 2018

تترقب عيناها وصول “الغنيمة” المالية في مستهل كل شهر، تنتظر قدومها وهي تمسك بيدها ورقة مجعدة مزدحمة بنفقات أساسيات العيش اليومي. تقول الشابة هند: “أنتظر بفارغ الصبر حلول أول كل شهر لتصلني حوالة مالية بقيمة ٤٠ ديناراً (أي ما يعادل ٦٤ ألف ليرة سورية) من شقيقتي التي تقطن في الكويت.” وفي الوقت الذي لا يشكل فيه هذا المبلغ إلا حوالى ٣% فقط من دخل الشقيقة المغتربة الشهري، يعد هذا المبلغ ثروة في يد الأخرى التي اختارت البقاء في سوريا.

تضيف هند “إن الحوالة لا تسبب ضائقة مالية لشقيقتي، بل هي فراطة مقابل دخلها الشهري، لكنها مصدر حيوي ووحيد  بالنسبة لي، خاصة أنني بدون عمل وليس لدي أي مصدر دخل آخر، فهذه النقود تنقذني من الغرق في الديون وتجيرني من ذل السؤال ومنة الناس.”

تتوجه هند بعد قبض الحوالة فوراً للدويلعة لدفع أجار منزلها والتخلص من صاحبه المرابط أمامه للحصول على الأجار. تروي هند: “فور حصولي على الحوالة أقتطع ٣٠ ألف ليرة سورية  لأجار منزلي حتى لا أعرض نفسي لمصير الطرد ناهيك عن مزاج المؤجر الجشع برفع الأجرة أسوة بأسعار المنازل الأخرى.”

أما عن بقية مكونات قائمة المشتريات، فتشطب منها هند أية مطالب توحي بالترف أو الرفاهية منها ارتياد المطاعم والمقاهي والمسابح لتقتصر على قسائم شراء الطعام من الرز والبرغل والمعكرونة وإتباع حمية شبه نباتية، فهي تقتصر فعلياً على كفاف اليوم، بالإضافة إلى مصاريف المواصلات وتكاليف الجامعة، “وأحيانا عند الضرورة، أرتاد معهداً لتدريس اللغة الإنكليزية”، تشير هند.

فهل تشمل إحصائيات السوريين الذين يعيشون تحت خط الفقر هند التي تعيش على الحوالة؟

يُعرّف خط الفقر بأنه أدنى مستوى من الدخل يحتاجه المرء ليتمكن من توفير مستوى معيشة ملائم في بلد ما. ويتمثل هذا الخط بالعجز عن تأمين المتطلبات الدنيا للعيش من حيث المأكل والمشرب والملبس والرعاية الصحية. ووفقاً لهذا التعريف يتصدر السوريين من ذوي الدخل المحدود خط الفقر فهم يحتاجون لثلاثة أضعاف معدل مرتبهم الهزيل الذي لايتجاوز (١٠٠ دولار ـ ٤٥ ألف ليرة سورية) لتغطية المدفوعات، خاصة في ظل حرب كشرت عن  أنياب الفقر والبطالة والغلاء الفاحش والنزوح والتهجير القسري.

دفعت الحرب وما نتج عنها من إمعان في التفقير العديد من محدودي الدخل للبحث عن مصدر دخل ثان يقيهم شر العوز، ووجد أغلبهم هذا المصدر في الفتات الذي يرسله لهم الأقرباء المغتربون، اللاجئون منهم والمهاجرون، فأصبحت حوالاتهم الدورية المصدر شبه رسمي لدخل ذويهم، ومعيلاً أساسياً لمساعدتهم على تحمل نفقات الحياة التي باتت مكلفة جداً.

أما ماهر، اسم مستعار، فيعيش ببحبوحة بالنسبة لشاب عاطل عن العمل، إذ يعتاش من عرق جبين شقيقيه اللاجئين في هولندا وألمانيا فيتناوب الأخيران على اقتطاع حفنات من النقود التي تمنحها حكوماتهما لتأمين مصروف الشاب المقيم في الحسكة.

يقول ماهر: “تصلني حوالة مالية كل شهر، حوالى ٢٠٠ يورو أي  مايقارب ١١٠ آلاف ليرة سورية، أنفقها على مصروفي الشخصي والدخان وفاتورة الخليوي، وشراء الملابس والأهم من ذلك أنني حققت حلمي في صنع فيلم قصير بإمكانيات متواضعة بعد توفير جزء من الحوالة  على مدار عدة أشهر وادخارها من أجل استئجار الكاميرا ومعداتها اللازمة.” وبالإضافة لتأمين مستلزمات الحياة اليومية، قد تتحول الحوالة أحيانا لمدخرات تؤمن المستقبل ويحتمي بها صاحبها من نوائب الدهر.

يقول ماهر:” والدتي تشتري بعض الحلى والليرات الذهبية بالحوالة المخصصة لها من شقيقي الثالث في تركيا، لتحتفظ بها كمدخرات يمكن الاعتماد عليها في وجه غدرات الزمان.”

كما يمكن أن تتخذ الحوالة دور “الملاك المخلص”، يقول محمد الذي عمل بتركيا وفضل عدم ذكر كنيته: “أرسلت لشقيقي مبلغاً وفيراً كنت أدخره خلال سنوات عملي هنا، ليسد نفقات علاجه من سرطان الدم خاصة أن تكاليفه باهظة جداَ ولا يمكن أبداً الانتظار في طوابير المستشفيات الحكومية داخل سوريا والتي تستغرق وقتا طويلاً إن حالفه الحظ.”

المعونة المالية التي تصل عائلة أحمد المصري على شكل حوالة، تشكل شريان حياة للراتب التقاعدي الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة في الأسبوع الأول من الشهر، يقول أحمد الذي يعمل في مجال السياحة التجميلية في إسطنبول:

“يشكل مبلغ ١٠٠ دولار  قرابة ١٠% من دخلي، لكنه يعد مصدراً حيوياً لعائلتي، إذ يصرف على الطعام والشراب ويمكنهم من العيش بكرامة  لاسيما أن راتب والدي التقاعدي الذي لا يتجاوز ٤٠ ألف ليرة سورية لا يصمد إلا لعدة أيام.” ويتابع أحمد “ناهيك عن نفقات إضافية طارئة كالعلاج والتحاليل والصور الشعاعية المكلفة، فمنذ فترة علمت أن والدي يعاني من آلام مبرحة في الأسنان أفقدته قدرته على تناول الطعام منذ شهر ولا يستطيع تكبد مصاريف العلاج فأرسلت له على الفور حوالة إضافية لتكاليف العلاج.”

صديق أحمد أيضاً الذي فضل عدم ذكر اسمه ساعد بحوالته المالية التي يرسلها لدفع أجار منزلين في حلب من إرساء هدنة لفض النزاع بين زوجته ووالدته وفصلهما في منزلين مختلفين، يقول الشاب: “وصلت المشاكل بين زوجتي وأمي إلى طريق مسدود، ولكي لا أخسر إحداهما استأجرت لكل منهما شقة لتعيش بمفردها، برقبتي ثلاثة بيوت مع بيتي في تركيا.”

أما أكثم، اللاجئ في هولندا، فأخذ على عاتقه مسؤولية دفع أقساط المدرسة الخاصة لشقيقته، يقول أكثم: “أرسل لأمي ٢٠٠ يورو كل شهرين تدخرهما من أجل أقساط المدرسة الخاصة لشقيقتي الصغرى بعد أن  صنفت من الأوائل في سورية”، إضافة لتكاليف أخته، تكفّل الشاب بعمته بعد أن فقدت زوجها في الحرب وأصبحت تعيش على راتبه التقاعدي وحصص المعونات القليلة.

في ضوء كل هذا، هل يرغب السوريون الذين اختاروا البقاء في سوريا فعلاً بعودة أشقائهم وأبنائهم إلى الوطن بعدما أًصبحت حوالاتهم ستر نجاة تحميهم من الغرق في العوز والفقر؟

مواضيع ذات صلة

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

مواضيع أخرى

في وقت فراغي: ستَّة نصوص لِـ(أديبة حسيكة)

في وقت فراغي: ستَّة نصوص لِـ(أديبة حسيكة)

(1) في وقت فراغي كنتُ أملأ الأوراق البيضاء بالحقول كان يبدو الفجر أقرب و السحاب يمرّ فوق الطرقات بلا خسائر..  وكان الماضي  يمتلئ  بالألوان. لا شيء مثل اللحظة حين لا تجد المسافة الكافية لتخترع أجنحة تكاد تنمو كزهرة برية.  بدأتُ أجمع صوتي من الريح و أفسّر...

فصلٌ من القهر والعذاب: كيف مضى فصل الصيف على سوريا؟

فصلٌ من القهر والعذاب: كيف مضى فصل الصيف على سوريا؟

لم يكتفِ الناس في سوريا من معاناتهم وأوجاعهم اليومية، التي فرضتها ظروف الحرب وما تبعها من أزماتٍ متلاحقة وتردٍ في الواقع الاقتصادي والمعيشي، حتى أتى فصل الصيف، الذي سجل هذا العام ارتفاعاً كبيراً وغير مسبوق في معدلات درجات الحرارة، وكان الأقسى على البلاد منذ عقود،...

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

رغم انتشار ثقافة المطالعة واستقاء المعلومات عن طريق الشبكة العنكبوتية إلا أن ملمس الورق ورائحة الحبر بقيا جذابين للقارئ السوري. ولم تستطع التكنولوجيا الاستحواذ على مكان الكتاب الورقي، أو منافسته. وبقي الكتاب المرجع الأساسي والحقيقي لأي بحث علمي وأكاديمي، ولم يستطع...

تدريباتنا