تدريباتنا

الدولار ومعضلة الحياة اليومية في سوريا

بواسطة | ديسمبر 17, 2023

“نشتري عبوة المياه على تسعيرة الدولار في بلد المياه الجوفية، ونقبض رواتبنا الشهرية بالليرة السورية، وحين نذكر كلمة دولار ولو في محادثة فيس بوك نتعرض للمحاسبة، أليس هذا عجب العجاب!”

بهذه الكلمات الغاضبة تلخص المهندسة سما الحلبي معاناة السوريين مع تسعير يومياتهم على مقاس العملة الخضراء في معادلة رياضية–اقتصادية عجيبة لا يمكن معها تفسير تسعير جرزة البقدونس المزروعة في سهول الغاب بالدولار وصولاً للمنازل مروراً بكل ما يخطر ولا يخطر على البال.

“مصروف الشهر”

لم يعد خافياً على أحد–إلّا الحكومة على ما يبدو أنّ نسق الحياة اليومية للمواطنين يسير على إيقاع بورصة التجار المحسوبين عليها والذين تنكرهم واصفةً إياهم بالمضاربين والمتلاعبين بالعملة. ومن نافلة القول أنّ العملة الوطنية هي عماد الأمن القومي، فكيف يستوي ذلك سوى في مشهد اقتصادي يمتلك من الغرائبية ما يجعله جنائزياً على جيوب المواطنين الحالمين القابضين على الجمر بيد والقابضين مصروف شهرهم باليد الأخرى.

كلمة “مصروف الشهر” ليست محض تعبير مجازي في سياق مقال صحفي، بل هي نكتة سوداء اجترها السوريون واصفين ما تمنحهم إياه الحكومة شهرياً بـ “المصروف أو الخرجية”. وحقيقةً الأمر كذلك فعلاً، فحين يكون متوسط المرتب الحكومي نحو 15 دولار شهرياً فتلك معضلةٌ تسقط حكومات، يقول سوريون على الدوام.

بيدٍ من حديد

في وقت يهيمن فيه الدولار على كل تعاملات السوق تجرم الحكومة والقانون السوريان بأشد العقوبات أي شكل من أشكال التعامل به على صعيد التداول وضمناً إتمام عمليات البيع والشراء بعد أن صار شراء سيارة يحتاج لأكياس كثيرة من العملة المحلية التي كادت تصير بلا قيمة. في القانون السوري تصل عقوبة استخدام الدولار لسبع سنوات من السجن ويمكن تشديدها لعشرين سنة في حالة وجود قطع مالية مزيفة.

تجاهل القانون، في تورية غير مفهومة أو على الأقل غير مشروحة للعوام، أن كل شيء في حياة السوريين يسير وفق تسعيرة الدولار في السوق السوداء، السوق السوداء ذاتها التي تسعّر الحكومة بموجبها بشكل نسبي أسعار بعض الأساسيات كحال المشتقات النفطية.

فرضت الهيمنة الدولارية على الناس في معاملاتهم اليومية استخدام تلك العملة لإتمام عمليات البيع والشراء في مجازفة عالية المستوى تقودهم إلى السجن في حال وشى أحد بالبائع أو المشتري أو لو تم القبض عليهما في أي حال من الأحوال أو لو اختلف الطرفان لسبب ما.

قانون يعاقب ولا يحمي

فؤاد اسم مستعار لشاب وقع ضحية التعامل بالدولار الذي لا يمكن تأطيره قانونياً، حيث واجه مشكلة في تحصيل بقية ثمن سيارته التي باعها بالدولار لشخص آخر، يقول لـ “صالون سوريا”: “بعت السيارة بالدولار لأنّ ثمنها سيملأ حقائب كثيرة بالليرة السورية، ولأنّ عملتنا تفقد قيمتها بشكل ساعي، لذا عمدت كما يفعل الجميع للبيع بالدولار وبشكل سري بيني وبين المشتري الذي لم يكن لديه مشكلة، وبالفعل اتفقنا على الثمن ودفع لي ثمنها على أن يبقى ألف دولار لحين فراغها النهائي”.

ويضيف: “بالفعل فرغتها له لاحقاً وطلب مني التريث بضعة أيام حتى يرسل لي ما تبقى من المبلغ، ولكني شعرت أنّه يماطل، ثمّ في النهاية ما كان منه إلا أن قال لي: ليس لك شيء عندي، اشتكِ للشرطة لو شئت”.

فعلياً لا يستطيع فؤاد التشكي لأنّه سيسجن هو أولاً قبل أن يسجن الطرف الآخر، وهذا ما استغله المشتري، وقد استشار فؤاد الكثير من المحامين حسب قوله، لكنّ الجميع أشار إليه بذات النتيجة وهي أنّ الحبس مصيره نتيجة تعامله بالدولار في الشراء والمبيع، لذا اختار السكوت وتناسي ما جرى له كحل قسري وحيد.

حفاظ على المدخرات

ارتباط أسعار كل شيء في حياة السوريين بالعملة الصعبة خلق حالةً من التحدي الجماعي الشعبي للحكومة والقانون، حتى أنّ كمية الدولار المتوافرة في السوق باتت ملحوظةً، وحتى أنّ كثيرين من السوريين من أصحاب المهن الخاصة أو مصادر الرزق المتعددة يعمدون بصورة متواصلة لتحويل ما يجنونه من أموال إلى العملة الصعبة أو الذهب كخيار بديل.

وفي هذا الإطار يوضح الصناعي مازن ملوح لـ “صالون سوريا” وجهة النظر العامة قائلاً: “لنقل مثلاً إن سعر سيارة من نوع كيا ريو كان نحو 50 مليوناً العام الماضي، واليوم سعرها حوالي 200 مليون، هذا أوضح مثال عن الانهيار، اليوم ثمنها 200 مليون ولو حصل لك ظرف ولم تشترها فوراً فإنك ستشتريها بعد شهر بـ 210 أو 220 مليون أو أكثر، لذلك الناس تحوّل أموالها للذهب أو الدولار، الأمر ليس تجارة لمعظمهم، بل هو حفاظ على قيمة مدخراتهم بالمقام الأول”.

الادخار دون الاتجار

ومن جانب آخر ثمة أشخاص يخافون قوانين تجريم التعامل تلك، لكنهم يعرفون كيف يلتفون عليها، فلا يبيعون أغراضهم (منازل – عقارات – سيارات – موبايلات وغيرهم) بالدولار ولكنهم يسعرونها به ويقبضون الثمن بالعملة المحلية المقابلة له ثم يبدلونها بالدولار من جديد (سراً) وعبر وسطاء موثوقين من قبلهم.

كل ذلك لئلا يقع عليهم جرم التعامل بالدولار ومن الضروري الإشارة أن الحيازة بقصد الادخار الشخصي مسموحة، أي أن يكون لدى الشخص أيّ مبلغ كان من الدولار ومهما كبر فالأمر مسموح، لكن على أن يظل داخل منزله دون أن يخرج منه دولاراً واحداً للخارج.

يُستدل على ذلك بوضوح من خلال عمل الضابطة الشرطية التي يتم إبلاغها بقضايا سرقة منازل ويكون من ضمن المسروقات مبالغ مالية بالعملة الصعبة، فتكون الضابطة معنية في حال إلقاء القبض على اللصوص بإعادة تلك المبالغ لأصحابها دون مصادرتها ما لم يثبت أنّها خضعت للتداول بأي شكل.

ولإتمام الحيازة يجب أن تكون تلك المبالغ قد تم الحصول عليها عبر تبديلها من المصارف الحكومية المرخصة أصولاً وهو ما لا ينتهجه الناس لأنّ قيمة الدولار مثلاً في تسعيرة المصرف المركزي 11 ألف بينما وصلت قيمته في السوق السوداء أواسط آب/أغسطس المنصرم إلى نحو 16 ألف ليرة سورية، إلا أنّ ذلك أيضاً لا يشكل فرقاً كبيراً بعد أن تصير الأموال ضمن منزل الحائز فمن الصعب إثبات مصدرها، ليصير التوجه إلى التنبيه بعدم التداول بها لتسري عليه قانونية الحيازة الشخصية بقصد الادخار دون الإتجار.

المهم في القضية هو عدم ضبط عملية التداول خلال حصولها، أو عدم وجود فواتير مكتوبة باليد تثبت التعامل بالدولار، أو عدم القبض على الشخص خلال لحظة تصريف المبلغ، فيما يكفي وجود اعترافات متطابقة على المصّرف لأشخاص متعددين لإلقاء القبض عليه.

“أنبياء” الاقتصاد الجدد

مراراً، قررت الحكومة مجاراة السوق السوداء على قاعدة أنها الأحق بجمع الدولار الذي بحوزة مواطنيها. نسبياً لم تنجح، فقد انتصرت السوق السوداء عليها مجدداً، في علاقة تبادلية شائكة ليست ببعض رموزها أكثر من شريكة في لعبة التدوير تلك، هذه اتهامات يسوقها الناس معبرين عنها في غير مكان.

فالحكومة تضرب الصرافين غير الشرعيين، تطارد عمليات التبادل التجاري، تصادر العملة الأجنبية من الأسواق، لكنّها، مع كل ما فعلته، لم تستطع أن تؤثر في مجتمع بات لا يثق بعملته.

وفي ظل كل تلك الفوضى النقدية التي تعيشها سوريا ثمة سوريون لا يعرفون كيف هو شكل الدولار حتى، لكنهم يشترون قرص الفلافل على تسعيرة الورقة الخضراء وعلى مزاج “أنبياء” الاقتصاد الجدد الذين يحاصرون السوريّ في غرفة نومه حتى كادوا يفرضون عليه ضرائب الإنجاب.

مواضيع ذات صلة

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

 "كنت أحلم بلوحةٍ تستطيع أن تخاطب بجمالياتها شريحة أوسع من الناس، لوحة تستطيع تجاوز مجموعة الجمهور التي تتكرر في حفل الافتتاح لأي معرض". ربما توضح تلك الكلمات، وهي للفنان نذير نبعة، مدى تبنيه وإخلاصه للفن، الذي كان رفيق دربه لأكثر من ستين عاماً، فهو الفنان الذي...

مواضيع أخرى

خارطة سورية مقسمة بمجاري الأنهار: والسوريون ضحايا انعدام الأمن المائي

خارطة سورية مقسمة بمجاري الأنهار: والسوريون ضحايا انعدام الأمن المائي

كانت السباحة في نهر الخابور أو الفرات أحد النشاطات المحظورة علينا حينما كنا صغاراً إن لم يكن برفقتنا أحد من ذوينا، وذلك لأنهما كانا كغيرهما من الأنهار السورية في النصف الأول من التسعينيات خطرين بفعل استمرارية التدفق ومن الخطورة بمكان السباحة فيهما، وإن بقي الفرات...

“ماويّة” حكايات اليباب الشاسع ومتعة السرد المزدوج

“ماويّة” حكايات اليباب الشاسع ومتعة السرد المزدوج

"قصص في اتجاه واحد" عنوان فرعيّ أرفقه القاص أنس ناصيف بالعنوان الرئيس "ماويّة". وماويّة، بحسب الكاتب، قرية تقع شرق مدينة سلميّة في محافظة حماة. وبحسب معرفتي، فإنّ مفردة ماويّة باللهجة العاميّة، تطلق في مناطق من الريف السوريّ، لوصف كلّ ما هو نديّ ورطب، وكأنّ فيه ماء....

تراجع الغطاء النباتي في سوريا يُنذر بأخطار بيئية كارثية

تراجع الغطاء النباتي في سوريا يُنذر بأخطار بيئية كارثية

ظروف الحرب وتبعاتها، العمليات العسكرية التي أدت لإحراق واقتطاع وتجريف مساحاتٍ كبيرة من الأشجار في مختلف أنحاء البلاد، عمليات التحطيب الجائر، ازدياد أعداد المفاحم التي تعتمد على الأشجار، واندلاع الحرائق الكثيرة التي التهمت مساحاتٍ واسعة من الغابات والأحراج، كل ذلك أدى...

تدريباتنا