[تنشر هذه المادة ضمن ملف خاص حول التناول السردي للحرب والعنف في سوريا. للإطلاع على جميع مواد الملف اضغط/ي هنا]

الروائي السوري ممدوح عزام

لا عمل للكاتب غير أن يكتب، ليس لأن الكتابة تفيض عن الحبر الذي في قلمه، بل لأنها طريق المواجهة الوحيد لديه في هذا العالم الذي يندفع بلا ضابط ولا رادع نحو تدمير نفسه ومن حوله. وبهذا المعنى فإن الكتابة لا تنجي الكاتب، بل تورطه (بالمعنى الإيجابي والتفاعلي). ويمكن أن تكون ورطة الكاتب الروائي السوري، أكبر منها في أي وقت آخر.

أول ورطات الكاتب هي أنه يقف في مواجهة ساحة يصل الدم فيها إلى الركب. وأخذ البشر فيها، أو قسم منهم، ممن كان يعرفهم بالأمس، ويعيش معهم، ويبيع أو يشتري منهم. منهم من هو قريبه، ومنهم من كان حتى الأمس صديقه الحميم، ومنهم من كان جاره الذي يأتي للسهر في بيته، أو يستضيفه، ويحكي له عن إبنه الذي نجح في الصف التاسع. أخذ هؤلاء يمجدون الحرب، أو يرقصون في ظلال الجدران المهدمة، أو يطلقون سعار التصفيات، أو يعملون في تهريب السلاح والوقود والطحين، في لحظة نكوص أخلاقي وفكري ووجداني مريعة.

وعلى الكاتب أن يكتب عن هؤلاء جميعًا، في الوقت الذي قد يكون ثمن الكتابة كلها رصاصة رخيصة يلوح بها أي قاتل مأجور يمكن أن يفلت من العقاب، إذا ما شعر أن الجرائم التي يرتكبها تتحول إلى كتابة روائية تعري أفعاله وأقواله ونهجه كله. وسوف تضاف إلى هذه الورطة الجديدة التي يأخذ فيها المجتمع مهام الرقابة، والملاحقة البوليسية، ميل السلطة إلى إفلات الغرائز، وتجاهل التجاوزات، وتقديم صور لا تنتهي من احتمالات القمع والتصفية، في وقت تتحول فيه أقسام من “معارضة” مسلحة إلى قرين مواز لهذا، يقلد ما يعترض عليه.

وثاني ورطات الكاتب هي في مواجهة القراء. فالجميع ينتظرون كلمة الروائي في مواجهة الحرب والثورة والطائفية والقتل والتهجير والتدمير. والمرجح أن الانتظار يضع الروائي أمام مسؤوليته الأخلاقية والفكرية والسياسية، والأهم من ذلك مسؤوليته الفنية. وقد يحدث التناقض والإفتراق هنا. فالمطلوب من الكاتب، هو أمر مختلف عن المأمول من الكتابة. تختلف هموم الكاتب عن هموم القارئ، حيث يكون عليه، أي على الكاتب، أن ينجز عملًا فنيًا، لا نسخة مرجعية، أو وثائقية، أو تسجيلية. ويكون عليه أن يسخر أدوات الكتابة الروائية، وعلى رأسها المخيلة كي ينجز نصًا لا يعيد إنتاج الواقع، كما هو، ولا يخون التضحيات العظيمة لبني البشر.

وثالث ورطة هي أن يكون قادرًا على اجتياز اللحظة التاريخية الراهنة. وهذا في واقع الأمر سؤال عصي. فتاريخ الأدب يشير إلى المصاعب التي تواجه الكتاب الروائية تجاه الراهن واليومي. أو يشير إلى زمن الحرب، والتبدلات الكبرى، واللحظات التي تقطع مع التطور الخطي في التاريخ. ولكن هذا يفترض شكلًا محددًا لهذا الاستجابات. وهو شكل غامض على أي حال، وغير معروف. والجهة الوحيدة التي تؤيد القول أن الرواية تحتاج لوقت آخر، يعقب صمت المدافع، ترسل الأسئلة أكثر مما تقدم الوقائع. دون أن يكون لدى الروائي، الأدلة الكافية التي يثبت بها خطأ، أو صحة السؤال. ومع ذلك فإن بوسعي القول إن هذا الكلام يمكن أن تقبله الرواية التي تحكي عن التاريخ، ولكن الرواية اعتادت أن تكون قرينًا للواقع الذي تحيا في جدران زمنه.. ومع ذلك فإن “صمت البحر” لفيركور، التي لم تتضمن أي طلقة، أو معركة، أو وثائق للوقائع. قد كتبت في خضم الحرب العالمية الثانية، وطبعت في زمن الحرب، ووزعت، وقرئت في الزمن ذاته. ومع ذلك فإن الجواب غير نهائي. وطاقات الفن والإبداع شاسعة. وثمة احتمالات لا حصر لها، وأشكال رواية لا تعد، قادرة على أن تكون تمثيلًا روائيًا، أي فنيًا، للراهن الذي تشهده سورية. سواء تعلق الأمر بالحروب التي تتوالى، أو مفهوم الثورة، أو الهجرات المليونية، أو التهجير المدمر، أو التدخلات الخارجية، ومواقف الدول، أو مصائر الأفراد والجماعات التي تعرضت للاقتلاع.

وبوجه عام فإن الإقرار بنهائية نتائج هذا الميل الذي يزعم عجز الرواية عن تمثيل الراهن، قد يعرض الروائي لدفعة من الإحباط، أو يضعه في مسائل إشكالية مع الأسئلة التي تتناول قضايا الرواية والواقع الاجتماعي. أو هو يعلن أن الرواية إما أن تكون عن الماضي أو لا تكون. ولهذا فإن من الصعب أن يتمكن أحد من التكهن، أو من وضع الشروط المسبقة لما ستكون عليه الرواية الجيدة التي تتناول الحاضر. وفي كل الأحوال فإن عدد الروايات السورية المنشورة حتى الآن عن موضوع الثورة، ما يزال محدودًا، ولا علم لنا بما يخبئه الروائيون في أدراجهم، من المنجز، أو ما يسعون إلى إنجازه. لهذا تبدو بعض الأسئلة وكأنها تحاول استباق الكتابة، أو تحديها، أو قوننة الموضوعات. وذلك حين تتحدث عما لم يكتب بعد، أو عن السري، الخاص، الذي لم يعلن الكتاب الروائيون عنه. ومن الصعب على الروائي أن يصرح بهواجسه. يعرف هذا كل من كتب الرواية، وعلم أن جودتها، وكمالها، يكمنان في الصمت، أو المكتوب المخبأ الذي لا يعلن عنه الكاتب أثناء العمل. لهذا أميل إلى القول أن من غير المجدي استنطاق الروائي حول النص القادم. إذ يخيل لي أن شهادته سوف تكون نوعًا من المراوغة، ومحاولة إبعاد الشبهات عن نفسه، أو قول كلمات نظرية، تأتي روايته فيما بعد كي لا تتطابق معها.

*************

ممدوح عزام في سطور:

ولد القاص والروائي السوري ممدوح عزام في السويداء (جنوب سوريا) عام 1950.

عاش طفولته متنقلًا بين العديد من المناطق والبلدات السورية، بسبب طبيعة عمل والده بالدرك الخيالة آنذاك. اشتغل في التعليم مدرسًا في مدينته السويداء.

كتب/ ويكتب مقالات أدبية في عدد من الصحف العربية.

بدأ بالكتابة مبكرًا أي منذ مرحلة الشباب، وفي العام 1985 صدرت أول مجموعة قصصية له بعنوان” نحو الماء”، عن وزارة الثقافة السورية. وقي عام 2000 صدرت المجموعة الثانية بعنوان “الشراع”، عن وزارة الثقافة أيضًا.

امتاز “عزام” بسلاسة كتاباته وتشويقها وبأسلوبه الروائي الساحر، وهو يعد من الروائيين المؤرخين للعصر الحديث في سورية بكتاباته الأدبية، وقد رافقت رواياته الكثير من الجدل و النقاش، وكان أن تعرض في العام 2000 لمحنة كبيرة، حيث أصدرت الطائفة الدرزية التي ينتمي إليها في شهر حزيران/ يونيو من ذلك العام، بيانًا طالبت فيه بـ”إهدار دمه بحجة أن روايته (قصر المطر) أساءت إلى المجتمع الدرزي وأخلاقه، وشوهت عاداته وتقاليده ومقدساته وأبطاله الأسطوريين”. وطالب البيان الذي وقعه –حينها- مشايخ طائفة عقل الدرزية الحكومة السورية بمنع تداول روايته وسحبها من الأسواق”، علمًا بأن الرواية كانت قد صدرت عن وزارة الثقافة بدمشق عام 1998.

وقد تجاهل الإعلام السوري ذلك البيان وردود الأفعال الأخرى، مثل “بيان المثقفين للتضامن مع الكاتب”. كما تجاهل اتحاد الكتاب العرب بدمشق الحدث، ولم يتضامن مع الكاتب بل دعاه إلى طلب الغفران والتراجع عما فعل ومصالحة شيوخ طائفته !.

في العام 2016، وقد دخلت الثورة السورية عامها السادس، يقول “عزام”: “كيف سأكتب روايتي حول ما يجري وقد فاضت الأرض السورية بالحكايات؟ الحكايات هنا يومية، تداهم الكاتب وتسحب منه القدرة على المتابعة، ولكن لا مفر من أن يسمع ويرى. فالعالم هنا يعاد تشكيله ورسمه وابتكاره وتدميره وإحراقه أمام عيني الروائي. الأرض تتغير، والقوى تبدل مواقعها، والناس الذين نعرفهم ما عادوا هم الناس الذين نعرفهم. تهدمت الصداقات وعلاقات القرابة والمواقف السياسية. نحن الآن أمام مشهد قيامي بامتياز، ولن تكون سوريا في الغد ما كانت عليه بالأمس، ولا على ما هي عليه اليوم، فأين يجد الروائي مشروعه إذن؟ هذا هو السؤال الذي أحاول الإجابة عنه فنيًا”.

كتب “عزام” حتى يومنا هذا خمس روايات، وبحسب النقاد، فإن قارئه يعرف أن فكرة الثورة، أو أحلام التغيير، حاضرة بقوة في كل أعماله. فنحن نراها في الثورة السورية الكبرى داخل “قصر المطر” روايته الأبرز، ونراها في انكسار أحلام كريم الزهر وعموم أهالي “السماقيات” و”السويداء” داخل “أرض الكلام”، وفي تمرد “عصابة الكف الأسود” داخل “نساء الخيال” آخر رواياته الصادرة في العام 2011.
ويؤكد “عزام” في حوار معه، أنه “إذا كان فكر الثورة حاضرًا في أعمالي، فإن الحقيقة الأكيدة هي أنني لم أتنبأ بها، لم أتوقع حدوث ما حدث. ولهذا فإنه لما يُشرّف المرء، وهو الروائي هنا، أن يكون قد استطاع تسجيل تلك اللحظات المضيئة في الجسد العربي، في حين كانت قيم اليأس واللامبالاة تسبغ حضورها على الحياة اليومية العربية”.

صدر له من الروايات:
1- “معراج الموت”، دار الأهالي، طبعة أولى: دمشق 1989. وقد طبع من هذه الرواية خمس طبعات في السنوات التالية في دور نشر مختلفة داخل سورية وخارجها، كان آخرها في العام 2013. كما ترجمت إلى اللغة الألمانية، وصدرت عن دار لينوس “lenos” في سويسرا، وترجمت كذلك إلى الأنكليزية وصدرت عن دار “hauspublishin” في لندن.
2- “قصر المطر”، وزارة الثقافة السورية، طبعة أولى: دمشق 1998. ط 2: المركز الثقافي العربي، بيروت/ الدار البيضاء، ودار البلد، دمشق 2003. ط 3 دار أطلس، بيروت/ دمشق 2012.
3- “جهات الجنوب”، دار ورد، دمشق2000.
4- “أرض الكلام”، دار المدى، دمشق/ بيروت 2005.
5- “نساء الخيال”، دار أطلس، بيروت/ دمشق 2011.

كما كتب ممدوح عزام سيناريو فيلم “اللجاة” بالإشتراك مع مخرج الفيلم الراحل رياض شياـ وهو مأخوذ عن روايته “معراج الموت”، وهو من إنتاج المؤسسة العامة للسينما (القطاع العام)، دمشق 1996.

[تُنشر هذه المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع جدلية]
[.This article is published jointly in partnership with Jadaliyya]