تدريباتنا

السوري ومعركة العيش

بواسطة | يناير 7, 2022

لا يذكر كامل المرة الأخيرة التي جالس فيها أطفاله الثلاثة خلال أيام الأسبوع. فهو بالكاد يلتقي بهم يوم الجمعة. كأنه مغترب داخل وطنه، يمضي كامل نهاره وجزءاً من ليله متنقلاً بين عمل وآخر، عله يتمكن من توفير المال لتأمين احتياجات عائلته.
يغادر منزله في منطقة معضمية الشام بريف دمشق السادسة والنصف صباحاً، ليتسنّى له الوصول إلى عمله بوزارة التربية في الثامنة وسط أزمة نقل خانقة.
ويعاني السويون في مناطق الحكومة السورية من تدهور الوضع الاقتصادي بشكل حاد، ما دفعهم إلى العمل في أكثر من مكان على فترات مختلفة من أجل تأمين الحاجات الأساسية للعيش.
يمضي كامل عدة ساعات في الوزارة ثم يتسلّل إلى سيارة الأجرة التي يجول فيها شوارع دمشق بحثاً عن الزبائن. يأكل السندويشة التي أعدّتها زوجته وأحياناً تفاحة إن توفرت في المنزل، قبل أن يصل إلى المطعم الذي يعمل فيه “جرسون” حتى الواحدة بعد منتصف الليل. يعود بعدها لمنزله ليجد زوجته في انتظاره بينما يكون أطفاله نائمين. يغط كامل بالنوم ويستيقظ صباحاً ليبدأ دورة حياته المرسومة بالقلم والمسطرة بعيداً عن أي راحة.
ارتفعت تكاليف المعيشة في مناطق الحكومة السورية إلى حدّ لا يطاق، حيث تحتاج أسرة من خمسة أشخاص لمليون و800 ألف ليرة سورية شهرياً كحدّ أدنى، لتأمين ثماني احتياجات أساسية: الغذاء والسكن والنقل والصحة، واللباس والتعليم والأثاث والاتصالات، يضاف إليها نسبة 8% لحالات الطوارئ الأخرى، حسب تقرير لصحيفة “قاسيون” المحلية.  وأكدت الصحيفة أن هذه التكاليف عن شهر أيلول الماضي، بعد أن كانت مليون و240 ألف ليرة في حزيران، مما يعني أن هذه التكاليف قد تغيرت حالياً ووصلت لرقم أكبر، في ظل ارتفاع الأسعار المستمر.
هذا ما دفع السوريين للعمل في أكثر من مكان في سبيل تأمين لقمة العيش. ويوضح كامل أنه برغم عمله في أكثر من مكان إلا أن ما يحصل عليه آخر كل شهر يصل إلى قرابة الـ 350 ألف ليرة سورية أي 100 دولار، وهو غير كافٍ لتأمين احتياجات أطفاله وزوجته من طعام وشراب، كما يضطر إلى الاستدانة من بعض أصدقائه ليتمكن من إكمال مصروفه الشهري، والذي يتجاوز ما يحصل عليه بضعف أو أكثر حسب كل شهر.
“ما عم نصرف إلا للشغلات الأساسية والأسعار كل يوم بترتفع، ومن 5 شهور ما أكلنا لحمة.. ما عاد أعرف شو اشتغل أكتر من هيك”. ويذكر كامل أن الجهات التي يعمل لديها استغلالية ولا تراعي أحوال الناس، مضيفاً: “السوري عم يستغل السوري بيربحوا كتير وبيعطونا الفتات وإذا تركنا نفس الحالة.. كل الناس عم تدور على شغل، بيعرفوا رح يجي غيرنا فوراً”.
وكان وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية مارتن غريفيث، قدر أعداد السوريين الذين يعيشون تحت خط الفقر بأكثر من 90%، وأن كثيراً منهم يضطر إلى اتخاذ خيارات صعبة للغاية لتغطية نفقاتهم.
كامل ليس حالة استثنائية بل حاله يشبه حال الكثير من السوريين في بلاد تعاني حرباً، ومنهم رغدة أستاذة المدرسة التي قررت ترك وظيفتها بمدرسة حكومية، والانتقال إلى أخرى خاصة كونها أفضل من ناحية الراتب.
تنهي رغدة دروسها في المدرسة وتصل إلى بيتها لتأكل على عجلة، ثم تتنقل بين منازل الطلاب لتعطي دروساً بالفيزياء والكيمياء، حيث يتراوح سعر الدرس في دمشق بين 15 و20 ألف ليرة.
وتبين رغدة أنها تحصل على مبلغ جيد، ولكنها تكاد تخسر صحتها نتيجة العمل المجهد، الذي يصل إلى أكثر من 15 ساعة يومياً حتى يوم العطلة. وتضيف “برجع على البيت بأقصى درجات التعب، ولازم اطبخ ونضف واعتني بأهلي لأنهن كبار بالعمر.. ما عاد طلعت مشوار أو زرت أي شخص.. حياتي شغل بشغل”.
أما سائق السرفيس أبو محمد فيخرج من بيته السابعة صباحاً ولا يرجع إليه حتى التاسعة والنصف، ويوضح أن لديه ولدان بالجامعة وثالث في المدرسة ويحتاجون إلى 150 ألف ليرة كمصروف شهري، إضافة إلى تأمين الأكل والحاجات الأخرى للمنزل. ويقول: “إذا ما عملت هيك منموت من الجوع.. عم اشتغل أكتر من 12 ساعة وعمري 50 سنة وصحتي على قدي”.  وذكر أبو محمد أن ولديه بدآ البحث عن عمل لمساعدته، وعرضا عليه ترك الجامعة لكنه رفض رغم إلحاح زوجته.
ووفقاً لتقديرات برنامج الأغذية العالمي يعاني حالياً نحو 12.4 مليون سوري من انعدام الأمن الغذائي، بزيادة قدرها 4.5 مليون شخص خلال العام الماضي وحده.
ويقول برنامج الأغذية العالمي “يكافح الآباء أكثر من أي وقت مضى لإطعام أطفالهم، بعدما أصبح سعر المواد الغذائية الأساسية الآن أعلى بـ 29 مرة من متوسط أسعارها قبل الأزمة”.
ولم ينجُ طلاب المدارس من حتمية العمل لتأمين لقمة العيش، فطالب المدرسة بالمرحلة الثانوية توفيق، ينهي دوامه ثم يعمل على بسطة بمنطقة قريبة من منزله، حيث ساعده أحد أصدقائه بالمدرسة على تأمين هذا العمل.
يعود توفيق إلى بيته في التاسعة والنصف مساء، ثم يبدأ بتحضير دروسه لليوم التالي، رافضاً ترك مدرسته مثل بعض أصدقائه رغم طلب والده منه ذلك بحجة أن “العلم ما بطعمي خبز ببلدنا”. ويقول: “لازم ساعد أهلي شايفين الحياة صارت صعبة.. وكتار من رفقاتي عم يشتغلوا لهيك تشجعت”.
وجميع الحالات التي تحدثنا إليها كان خوفها الوحيد هو ما يمكن أن تتعرّض له من مشاكل صحية، وهنا يؤكد الطبيب هيثم حنا أن خطر الإصابة بالمشاكل الصحية وخاصة أمراض القلب والجلطات الدماغية، يزداد بنسبة 10% لمن يعمل بحدود 40 ساعة أسبوعياً، و30 % في حال العمل لـ 54 ساعة، و60% في حال العمل 100 ساعة في الأسبوع.
وكانت منظمة الصحة العالمية قد أعلنت أن العمل لساعات طويلة يقتل مئات الألوف من الأشخاص سنوياً.
في الوقت الذي تسعى فيه دول العالم لتقليل ساعات العمل واستقطاع يوم راحة إضافي أسبوعياً، يجد السوري نفسه أمام خيار وحيد وهو العمل والعمل دون أن يعرف سبيلاً للراحة، ليس حباً بالحياة وبحثاً عن الطموح، وإنما لتأمين لقمة عيشه التي أصبحت عبئاً كبيراً في دوامة النزاع الحاصل بالبلاد منذ أكثر من عشر سنوات.

مواضيع ذات صلة

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

طيب تيزيني اسم أكبر وأهم من أن نُعرِّفه عبر سطور أو صفحات قليلة؛ لأنه جسَّد أفكاره تجسيداً عملياً، فكانت مؤلفاته تفيض من تفاصيل حياته ومواقفه الإنسانية والسياسية، وكانت حياته ومواقفه وبحق تعبيراً صادقاً عن أفكاره وفلسته، فكان فيلسوفاً بل حكيماً بكل ما تعنيه هذه...

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 خلال مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء، والتي استمرت لأكثر من نصف قرن، أبدَعَ مدرسة لحنية وغنائية متفردة وغنية ومتكاملة، تركت بصمتها المؤثرة في تاريخ الموسيقى العربية، وقد ساعدته موهبته في الغناء في فهم طبيعة الأصوات التي لَحَّن لها، فكان يُفصِّل اللحن على مساحة...

جُرح في الزوبعة

جُرح في الزوبعة

كانت حياة أنطون سعادة القصيرة (1904-1949 م) أشبه بدورة الإله بعل في الميثولوجيا الكنعانيّة القديمة، فبعل الذي يموت ويولد على نحوٍ أبديٍّ، وفقاً لـ"ألواح أوغاريت"، يرمز إلى "بلاد كنعان" أو "فينيقيا" تبعاً لتسميتها اليونانيّة القديمة، هذه البلاد التي مهما حاقَ بها من...

مواضيع أخرى

سوريا: كسوة العيد للأطفال محكومة بالأزمة الاقتصادية الحادة

سوريا: كسوة العيد للأطفال محكومة بالأزمة الاقتصادية الحادة

حرصت عائلات سورية -في أعوام خلت- على شراء الملابس الجديدة قبيل عيد الفطر، وبخاصة للأطفال كي يشعروا بالبهجة والسرور، غير أن التضخم وتراجع القدرة الشرائية، إلى جانب تدني دخل الأسرة بفعل الأزمة الاقتصادية الحادة أثر بشكل سلبي على هذه العادة. في جولة لنا على عدد من...

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

لشهر رمضان في سوريا عاداتٍ وطقوسِ اجتماعية وإنسانية، حرصت العائلات السورية على توارثها والتمسك بها عبر عشرات السنين، حتى تحولت إلى ما يشبه التراث الاجتماعي، ومن أشهرها "سِكبة رمضان" التي  تخلق حالة من الألفة والمحبة والتكافل الاجتماعي بين الناس، الذين يتبادلون...

“عيدٌ بأية حالٍ عدتَ؟”: غلاءٌ وعوائل حزينة

“عيدٌ بأية حالٍ عدتَ؟”: غلاءٌ وعوائل حزينة

لطالما يسخر السوريون من أنفسهم حين يكررون في كل عيدٍ الشطر الأول من قصيدة المتنبي "عيدٌ، بأية حالٍ عدتَ يا عيد؟"، ربما كان معظمهم يعلم شطره الثاني: "بما مضى أم بأمرٍ فيك تجديد"، وأنّ تشابه أيامهم بات فيه من السخرية الكثير، ولكنّ لا شك-أنّ معظمهم لم يكمل القصيدة، لا...

تدريباتنا