تدريباتنا

المستقبل خلف الظهر في قصص “فودكا مغشوشة، بانتظار أن يأكلنا الزومبي”

بواسطة | يونيو 1, 2021

خلال عقد المأساة السوريّة المستمرة منذ 2011 صدرت عدّة مجموعات قصصيّة تركز على الحرب الراهنة، من بينها مجموعة حديثة (2020) بعنوانفودكا مغشوشة.. بانتظار أن يأكلنا الزومبيعن دار دال في دمشق، وهي الإصدار البكر للقاصّ زياد حسّون.  

في هذه المجموعة القصصية، الزمان هو زمن الحرب، والمكان مدينة لا معارك طاحنة فيها، إنّما تقبع تحت لا رحمة القذائف. مدينة تنتشر فيها رائحة الموت والعبث، لدرجة أن: “أصبح الموت نمط حياة باعثاً للملل.” فلا أفراح أو أحزان حقيقيّة لقاطنيها، سواء الأصليّين أو الهاربين من جبهات الحرب. 

هنا، يستبدّ الزمانُ بالمكان، أو يتداخلان فيما يمكن تسميتهالزمكان المستبدّ“! وهو ما شخّصه القاصّ بفنّيّة لافتة، راصداً تأثيره البالغ بالشخصيّات حيث يقودها ويحدّد مصائرها ويعطّلها عن فعل الحياة، فلا يبقى لها غير الانتظار!  

إنّما انتظار زياد، لا يماثل أيّ انتظار عرفناه، فمثلاً، هو ليس انتظاراً خصباً بالأمل كانتظار بينلوب لأوليس، ولا هو شبيه بانتظار كفافيس المرير الساخر للبرابرة، رغم أنّ انتظار حسّون محقون بالسخرية السوداء، ومضمّخٌ بالعبثيّة، إنّما ليست كعبثية انتظار بيكيت، فهنا، لا غودو قد يأتي. و(قد) المستقبليّة تنتفي في السطور، لأنّ المستقبل توارى بعيداً في الخلف، واختفى كما يغيب البرابرة صنّاع الحرب وقوّادها، لسبب موضوعيّ، فانشغال القاصّ ينصبّ على تصوير إحداثاتهم المدمّرة. أو لسبب فنّيّ أيضاً، فقد جعل من الحرب مجرّد خلفيّة لحكاياته، فهو لا يوثّق لمجازرها وجنازاتها، ولا يوجّه اتهامات، أو يدبّج رسائل وخطابات ممجّة أو يختلق أملاً كاذباً إزاء واقع يسطع فيه اللا أمل! 

هنا، لا فكرة لدى الشخصيّات عمّا تنتظره، إنّما يترجّحُ احتمالٌ واحدٌ: “ربّما أن تجتاحنا قطعان الزومبي وتأكلنا حتّى آخر أبله فينا، أو ربّما نتمكّن نحن من أكلهم اللعنة!… كم هو ميئوس من أمرنا إذاً!” 

زمن الحرب هو الإطار الظاهر للقصص، لكنّ زمناً ثانياً موازياً يحضر بقوّة اليأس، وهو زمن اللحظة الراهنة، تفرّ إليه الشخصيّات من سطوة الزمن الأوّل. لم يعد من فسح للعيش سوى اللحظة الآنيّة، وقد نسيها المستقبل وتوارى خلفها بعيداً! ففي قصّةفنجان قهوة ساخنمثلاً، يقبع آدم في غرفته، تفصله عن الخارج نافذة وستارة لا يزيحها إلّا دويّ انفجار، فكما في قصّةبائع القهوة الميتالبديعة: “هناك ملايين الاحتمالات في الخارج. إنّه مكان خطير للغاية.” وأفضل ما يفعله آدم الاستلقاء والنوم أو ما تيسّر له من ممارسة للجنس في هذه الغرفة، ممارسة باتت تخلو من المشاعر والأحاسيس! أو أنّه يهرب إلى المقاهي كما في قصّةالنادلة، حيث سيكفيه الضجرُ بالتحديق في مؤخّرة النادلة، هذه التي يخمّن أنّها نازحة وتعمل بدافع العوز.

الشخصيّات خائفة، مأزومة مهزومة، مستسلمة، مستهترة، صامتة وهاربة. وأحياناً تبدو، كمصابة باكتئاب حادّ، في حالة دائمة من جلد الذاتّ، تتّهم نفسها بالحماقة والبلاهة وسوء الحظّ، يسيطر عليها شعورٌ خفيّ بالذنب، وكأنّما هي المسؤولة عن عدم موتها بعد.

تحضر شخصيّتان رئيستان، بالتناوب، بطلان لهذه القصّة أو تلك، هما الصديقان آدم وحازم، ويجتمعان في ثلاثيّة القصصيّة، مرقّمة بـ(1-2-3)، وردتْ تحت عنوان موحّد، ينضح بالسخرية: “فودكا مغشوشة من أجل حوار بنّاء، باعد القاص في مواقعها بين النصوص، ليعزّز بعض طروحاته، فالتباعد بين البشر بات سمة في حياة الشخصيّات، يعزلها الموات عن التواصل والتفاعل المجتمعيّ، فلم يعد للأحاديث جدوى، حتّى أنّ لقاء الصديقين، في قصّة: “فودكا مغشوشة من أجل حوار بنّاء (3)”، حدث بعد غياب امتدّ لتسعة أشهر! ويبدأ القاص هذه القصّة بهذه العبارة: “ثمّ اجتمع الرفيقان مجدّداً في ذات الحانة…” ليكون لـ (ثمَّ) هذه شأنها الموضوعيّ في عطف هذه القصة على القصتين السابقتين من هذه الثلاثيّة، وأيضاً شأنها الفنّي في إبراز الفكرة الأساسيّة مجدّداً؛ التباعد/العزلة، وتأكيدها بتكثيف بالغ التأثير، تأثير يحدثه بامتياز حرفُ عطفٍ بمفرده!

يلتقي آدم وحازم، في الحانة ذاتها لشرب الفودكا، وفي صباحي القصّتين السابقتين للأخيرة، وكلّ منهما نام في منزله، يكتشفان إثر صداع رهيب أصابهما، أنّ الفودكا كانت مغشوشة جدّاً! ويختم الكاتب هاتين القصّتين بهامش موحّد، بشرحٍ لماهيةالفودكا المغشوشةفهي: “كحول رديء معبّأ محلّيّاً في عبوات تقلّد ببراعة الماركات المعروفة عالميّاً. وتُعدّ هذه الظاهرة كإحدى النتائج البعيدة للحرب السوريّة.” كرّرها زياد لغايتين، فنّية وموضوعيّة، تاركاً للقارئ كشف المستور، والتقاط السخرية العميقة الكامنة خلفها بدهاءٍ فنّي! لكنّه لم يُلحق ذاك التعريف الماكر للفودكا المغشوشة بهامش القصّة الثالثة، لسبب مرصود للخاتمة. ففي سهرة الصديقين مع الفودكا، وحوارهما الذي لم يبتعد في عمقه العبثيّ عنه في القصّتين السابقتين، تتضح نتائج هذا الواقع العصيب الذي أبطل فعل الكلام، ووأدَ أيّ حوار بنّاء! فها هو آدم مستسلماً يقضي يوميّاته التافهة في زراعة نباتات الصبّار في أصص صغيرة، ترميزاً لتقزّم الصبر وضآلته! أو في مراقبة الفضاء والنجوم عبر منظار اشتراه خصّيصاً لذلك، ما قد يعني أنّ بشاعة مرعبة في الأسفل لا يطيقها النظرُ، ليعيد إلى ذهن القارئ ما ذكره الطفل متأفّفاً وهو يتسلّق الجدار العالي في قصّةعن الحرب الباردة وخزان الماء“: “لا تنظر إلى الأسفل وسيكون كلّ شيء على ما يرام.”  كما أنّ القاص يلمّح بذلك إلى دور الفلك والتنجيم الذي ينشط ويزدهر في واقع يسوده الوهن والإحباط والعجز، ليشكّل التنجيم المعادل الموضوعيّ لهذا الواقع!  

وعلى عكس ما شهدنا في القصّتين السابقتين، لم ينفصل الصديقان لينام كلٌّ في منزله! بل لزما الحانة، فقد حدث أنّهما بعد جدال صاخب، اتفقا على شرب نخب الانتظار، وما كاد كأساهما يلتقيان حتى دمّر انفجار هائل المكان!  

تتوارى سخرية حسّون السوداء وتظهر بفنيّة عذبة، تنبثق هنا وهناك، بصمت وهدوء، كانبثاق قطرات الماء من بين شقوق الصخر، وتسيل هنا وهناك بين الصفحات، وصولاً إلى آخرها. في وصف جثة حازم، كتب: “…كان عنقه ملويّاً بطريقة مضحكة، وعيناه المفتوحتان تنظران إلى آدم بمزيج من الذهول والبلاهة، وكأنّهما تحاولان قول شيء من قبيل: ألم أقل لك: هل نسيت أين نعيش؟ 

لا تعتمد القصص حبكة التشويق التقليديّة، أو الخواتيمّ/ بؤرة التنوير، بل تسير في مسار سرديّ أفقيّ يتصاعد بطيئاً هنا أو هناك زاخراً بالتشويق، وببراعة التصريح والتورية، بتوصيف دواخل الشخصيّات، العفويّة المفعمة بالصدق، واللغة المقتصدة البسيطة بأناقة، فلا تكاد تشغل القارئ، يسوقها أسلوب سرديّ سلس، رشيق، وتكثيف مدهش.

يدفع حسّون بقارئه لاستعادة مضامين القصص كلّها، ليكتشف الفنّيّة المخاتلة في اعتماد القاصّ خلفيّة مزدوجة لقصصه، فهو يصرّح بخلفيّة الحرب، ويواري خلفية اللحظة الراهنة جاعلاً منها أرضيّة مكينة بأغوار صادمة ثرّة تتشابك فوقها دلالات القصص برمّتها وتتداخل بحذاقة لصياغة مبنىً قصصيٍّ فنّيّ جميل.

تُباغت قصص زياد حسّون القارئَ وتغويه للمتابعة، ليكتشف متأخّراً أنّها لا تسلّم نفسَها له بسهولة، وأنّ مقولاتها إنّما هي رؤية ورؤيا، معاً، وقد انكتبت برمّتها لتوضيح ما قاله آدم، في آخر القصص: “حتى ونحن نعيش هنا، الأمر ليس أين نعيش، بل كيف نعيش.”

 وإذاً، لم ينج أيٌّ منّا، نحن السوريّين، من كوارث الحرب، أينما سكنّا في هذه البلاد اليباب! 

مواضيع ذات صلة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 خلال مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء، والتي استمرت لأكثر من نصف قرن، أبدَعَ مدرسة لحنية وغنائية متفردة وغنية ومتكاملة، تركت بصمتها المؤثرة في تاريخ الموسيقى العربية، وقد ساعدته موهبته في الغناء في فهم طبيعة الأصوات التي لَحَّن لها، فكان يُفصِّل اللحن على مساحة...

جُرح في الزوبعة

جُرح في الزوبعة

كانت حياة أنطون سعادة القصيرة (1904-1949 م) أشبه بدورة الإله بعل في الميثولوجيا الكنعانيّة القديمة، فبعل الذي يموت ويولد على نحوٍ أبديٍّ، وفقاً لـ"ألواح أوغاريت"، يرمز إلى "بلاد كنعان" أو "فينيقيا" تبعاً لتسميتها اليونانيّة القديمة، هذه البلاد التي مهما حاقَ بها من...

زكي الأرسوزي أو أمل ضائع بأُمّة تنبعث من عبقريّة لسانها

زكي الأرسوزي أو أمل ضائع بأُمّة تنبعث من عبقريّة لسانها

تعرّض زكي الأرسوزي (1899-1968 م) لإهمال كبير، ولم يُكَرَّس في الأدبيات الفلسفيّة العربيّة إلا على نحوٍ عَرَضيّ، بصفته أحد دعاة الفكر القوميّ، ومؤسِّس فكرة حزب البعث العربيّ، التي أخذها ميشيل عفلق منه وحوّلها إلى تنظيم سياسيّ فاعل في سوريا، وتلاشى ذكر الأرسوزي مع تلاشي...

مواضيع أخرى

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

طيب تيزيني اسم أكبر وأهم من أن نُعرِّفه عبر سطور أو صفحات قليلة؛ لأنه جسَّد أفكاره تجسيداً عملياً، فكانت مؤلفاته تفيض من تفاصيل حياته ومواقفه الإنسانية والسياسية، وكانت حياته ومواقفه وبحق تعبيراً صادقاً عن أفكاره وفلسته، فكان فيلسوفاً بل حكيماً بكل ما تعنيه هذه...

اصطياد المعنى وتقطيره في المجموعة القصصية “الفراشات البيضاء” لباسم سليمان

اصطياد المعنى وتقطيره في المجموعة القصصية “الفراشات البيضاء” لباسم سليمان

باعتبار أن القصة خيال محض فلا مجال للتمييز أو التدقيق بين ما هو حقيقي وما هو مزيف؛ بين ما هو واقعي وبين المغرق بالخيال، بين الأصيل والدخيل، ففي المجموعة القصصية "الفراشات البيضاء" لباسم سليمان الصادرة عن دار ميسلون لعام 2023 تتسع مساحة الخيال ويحتشد عالمه بكم متشابك...

الهروب من الموت إلى موت أقل قسوة

الهروب من الموت إلى موت أقل قسوة

أقيم "احتفالٌ" لمركز يهوديّ إسرائيليّ في مدينة لارنكا القبرصيّة، القديمة، مطلع شهر أكتوبر الفائت، وقد تزامن ذلك مع عمليات حركة المقاومة الإسلامية "حماس" في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة التي بدأت مؤخراً. كان محيط المركز معزّزاً بحراسةٍ للشرطة القبرصيّة، حراسة مهيبة، لا...

تدريباتنا