تدريباتنا

الواقعية النقدية لدى ياسين الحافظ

بواسطة | نوفمبر 12, 2024

ياسين الحافظ كاتبٌ ومفكر سياسي سوري من الطراز الرفيع، يعدُّ من المؤسسين والمنظرين للتجربة الحزبية العربية. اشترك في العديد من الأحزاب القومية واليسارية، ويعدُّ الحافظ في طليعة المفكرين التقدميين في العالم العربي، اتسم فكره بالواقعية النقدية، تحت تأثير منشأه الجغرافي والاجتماعي. حيث ولد ياسين الحافظ في عام 1930 بدير الزور السورية كما يروي هو في سيرته الذاتية، بل الأيديولوجية والسياسية، التي سطرها في كتابه: الهزيمة والايديولوجيا المهزومة.

عاش الحافظ في بيئة صحراوية عشائرية تقليدية، بقي تأثيرها عليه مدى الحياة، لكن اتصاله عبر والده بالشيخ محمد سعيد العرفي(1896- 1956)، مكَّنه من تجاوز تلك العشائرية، وكان ذلك أيضاً مناسبة للتعرف على إسلام سني نُزعت منه قشرته الصوفية – على حد تعبيره – وطُرِدت منه الخرافات، إسلام متزن، متوازن، بسيط إلى حد البداوة، وعلى استعداد للتصالح مع بعض منجزات العلم، وقد ساعده ذلك على الانعتاق الكلي المبكّر من التقليد العشائري، والانتقال إلى ممارسة سياسية حديثة، تتجاوز الممارسات السياسة القبائلية. وقد كان النضال ضد الاستعمار الفرنسي المدخل الأولي الذي قاده إلى ميدان السياسة، وبالتالي كان شغله وانشغاله منذ صغره يتعدى المصلحة الشخصية أو العائلية أو العشائرية، فكان الحافظ ممن أسهموا في بلورة التجربة الحزبية في دير الزور، بل في سورية والعالم العربي، في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. (الحافظ، 1978، الهزيمة والايديولوجية المهزومة، ص6).

يُذكر على هذا الصعيد أن الحافظ انتسب إلى الحزب الشيوعي السوري عام 1955، ثم تم فصله منه بعد عام تقريباً بسبب انتقادات الحافظ للحزب، ثم شارك في صياغة المنطلقات النظرية لحرب البعث في مؤتمره السادس عام 1963، لكنه سرعان ما انشق عن الحزب وشكَّل ما عرف باسم حزب البعث اليساري، وقد انبثق عنه حزب العمال الثوري العربي 1965، وقد كان الحافظ أميناً للحزب حتى وافته المنية عام 1978.
لم تكن التجربة الفكري لدى الحافظ وليدة تأمل فكري بحت، فقد تشكلت بنية الوعي لديه ارتكازاً على تجربة شخصية كانت بمثابة الحاضنة التي عملت على تفتق روائز الوعي التقدمي لديه، فموقفه من المرأة ومن مسألة تحررها التي تعدُّ – حسبما يرى – رائزاً ومحكاً لتحرر المجتمع وتقدمه ككل. هذا الموقف قد ساهم في إبرازه وتأصيله، ما عاناه الحافظ من التمييز بسبب العرق والدين، فوالدته، كانت أرمنية مسيحية، وسط بيئة تقليدية محافظة، فعانت ما عانت من تمييز ورفض مجتمعي، مما انعكس بشكل غير مباشر على الحافظ، فكانت مواقفه الفكرية مبنية على خبرة حياتية مريرة، لاسيما أنه تم سجنه لمدة عام تقريباً غادر على إثر ذلك سورية إلى لبنان ليمضي فيه بقية حياته.
قضية والدته جعلت قضية تحرر المرأة في طليعة الأفكار التقدمية التي تبناها الحافظ، كذلك ساعدته في تجاوز الحدود الفاصلة بين البشر سواء أكانت عرقية أم دينية، الأمر الذي جعله منفتحاً على الآخر الغريب، وبالتالي كانت تجربته الفكرية والسياسية محكومة بهاجسين عميقين، وهما الديمقراطية الغربية والاشتراكية الشرقية.

فالتجربة السياسية للحافظ، كانت ذات طابع قومي فرضته وقائع الاستعمار الأوربي من جهة، وقضية فلسطين من جهة أخرى، ويتحدث هو نفسه عن هذه التجربة التي بدا بها راديكالياً ورومانسياً، وقد تمثلت راديكاليته بموقفه العدائي ممن تسبب في نكبة فلسطين، وهم الحكَّام العرب المتواطئون مع الاستعمار الذي مكن لإسرائيل احتلال فلسطين، أما مثاليته فكانت تتجلى بإيمانه بأن الحل يكمن في الإطاحة بالنخب الحاكمة واستبدالها بحكام أشبه بأنبياء صغار، فكان موقفه وأحكامه السياسية بادئ ذي بدء سطحية أو مسطحة، وقد استغرق هذا التسطيح قرابة عقد ونيف، حتى أدرك الحافظ أن الأزمة الحقيقة تكمن في العمق أو ما قبل أو ما تحت السطح، ويقصد بذاك الشعب؛ القاعدة العريضة لأي نخبة سياسية أو ثقافية. وبالتالي فالعيب ليس محصوراً بالنخب، بل يتسع لشمل المجتمع الذي أفرز هذه النخب، والمجتمع العربي بالذات هو المهزوم الحقيقي، وقد فاته اللحاق بموكب التقدم والحضارة، والفوات التاريخي مصطلح خاص بالحافظ، ويعني عدم اللحاق بالنهضة العصرية.

وقد ترافق هذا الانتقال الفكري السياسي من السطح إلى العمق –عند الحافظ – بانتقال اعتقادي من معتقد لآخر، فمن إسلام صوفي سطحي إلى إسلام عقلاني علماني متزن، ثم انتقال إلى معتقد جديد قوامه القومية العربية التي فرضتها القضية الفلسطينية، مع تلاوين يوتوبية، ما لبث أن انتقل إلى معتقد جديد وهو العقيدة الماركسية، دونما تجاوز كامل للقومية، فقد كانت ماركسيته متصالحة مع قوميته، كما يصرح هو: لم أعد قوماوياً بل قومياً (أو أموياً) وبالتالي لم تعد الأممية دعوة إلى تخل عن القومية، بل دعوة إلى فهم المصلحة القومية في سياق عالمي رحب وأكثر توازناً وواقعية، وأخيراً دعوة إلى تجاوز النرجسية القومية، وإلى تواضع في فهم الذات القومية… من هنا كنت على الدوام، وعلى درجة متفاوتة من الوعي، أضع الثورة القومية الديمقراطية في المكان الأول والأولي في سيرورة المجتمع العربي وتقدمه.” (الحافظ، 1978، الهزيمة والايديولوجية المهزومة، ص11-12).

ومن هنا كان الحافظ يدعو إلى تعريب الماركسية، أو تكييف الماركسية للأوضاع العربية الملموسة، ولم يكن يرى من تناقض بين القومية والماركسية، وأن كل ما يبدو من تناقض بينهما إنما مردَّه إلى الوهم، وما إن تجاوز الحافظ هذا التناقض حتى تفوقت ماركسيته على قوميته، وبدا المنطق الماركسي مُحكماً متسقاً، بينما بدا المنطق القومي العربي مفككاً ساذجاً. والحديث هنا عن الماركسية غير المؤسساتية وغير السوفيتية، التي انتقدها الحافظ على مدار سنوات، لكنه سرعان ما وجد نفسه ضمنها متجاوزاً نقده لها، في تناقض يبدو غريباً إلى حد ما.

وينتقد الحافظ منهج السياسات العربية، ويرى أنها إما سياسيات ثورية رومانسية أو واقعية محافظة. والنتيجة في كلتا الحالتين تكمن في النزوع المحافظ الذي يحكم الرؤية السياسية العربية. فالواقعية المحافظة تتنكر بالنتيجة للقوى الكامنة أو الممكنة لدى الأمة، ولذا تتجه تلقائياً إلى الخنوع والمصالحة، وبالمقابل فإن الثورية الرومانسية تجد نفسها بالنهاية عاجزة عن الفعل السياسي، فتقع إثر سلسلة من الإخفاقات، في نزوع يائس واستسلامي ومحافظ سياسياً. (الحافظ، 1997، التجربة التاريخية الفيتنامية، ص145)
وينتقد الحافظ أيضاً الفكر العربي التقدمي بفرعيه القومي والماركسي، ويرى أنه ” فكر مستريح، بلا إشكاليات ولا هموم، لذا فهو متفائل، وهو متفائل لأنه فكر أيديولوجي، فكراني، يعيش مع نفسه لا مع الحقيقة الواقعية… الفكر القومي العربي الذي ما زال فكراً تقليدوياً في جوهره ( وبالتالي هو قوماوي وليس بالقومي) … وقد اختزل ( وبالتالي سطح) المسألة القومية إلى مسألة الوحدة العربية واستراح، في حين أن مسألة الوحدة العربية رغم أنها التتويج والمآل، تشكل جانباً من جوانب المسألة القومية، وتظاهرة من تظاهراتها.( (الحافظ، 1997، التجربة التاريخية الفيتنامية، ص132-133).

ويرى الحافظ أن ثمة عوامل عدة ساهمت في إفشال كل التجارب النهضوية، في بلادنا العربية، بما فيها التقدمية الماركسية، ومن بين تلك العوامل مثلاً عدم بزوغ ثقافة ليبرالية عربية حديثة، وعدم ولادة أنتلجنتسيا عربية حديثة ثورية، أضف إلى ذك أن الماركسية العربية قَدَّمت نفسها للشارع العربي كطبقة متعالية؛ وهي طبقة خواجات أو متخوِّجة، وهذا ما جعلها معزولة ومنبوذة، خلافاً للماركسية الفيتنامية التي شكلت حركة شعبية واسعة؛ لأن نشوؤها بالأساس كان قومياً لا محلياً. (الحافظ، 1997، التجربة التاريخية الفيتنامية، ص91-92). وليس كما الماركسية العربية، تحمل نفس الشعارات القومية والأممية، لكنها تمثِّل على الأرض نخبة معزولة من الأنتلجنتسيا.
أدرك الحافظ الدور الذي يلعبه العامل الأيديولوجي في نجاح أو فشل أي تجربة ثورية، ومن هنا رأى أن الناصرية قد أخفقت؛ ليس لأنها برجوازية صغيرة، بل لأن أيديولوجيتها متأخرة ومحافظة، وتفتقر إلى وعي كوني تاريخي. لقد كان عبد الناصر فرصة تاريخية ضاعت على الأمة العربية، لأن الأنتلجنتسيا العربية والمصرية خصوصاً لم تكن تملك وعياً مطابقاً لحاجات التقدم العربي، لهذا فشلت التجربة القومية الناصرية.

وفي لبنان حيث كانت محطته النهائية، تعرَّف خلال تواجده هناك على أعمال المفكر المغربي عبد الله العروي (1933-1971)، وقد ساعدته تلك الأعمال على تجاوز الأيديولوجيا بمعناها التقليدي، كما ساعده العروي على وعي البعد التاريخي للواقع العربي، حيث كان العروي ينشد التاريخانية كأساس وحيد للتقدم العربي، وهذا التقدم لا بد أن يتم على خطى أوربية ليبرالية، فحاضر أوربا هو مستقبل الأمة العربية، ومن هنا ندرك كيف أن الحافظ جمع بين القومية والماركسية والليبرالية، برغم كل الواقعية والنقدية التي اتسم بها فكره. وهذا مصير كثير من الكبار الذين انتهوا إلى توليفة تجمع المتناقضات في أطروحة واحدة.

     *تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ

مواضيع ذات صلة

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

 "كنت أحلم بلوحةٍ تستطيع أن تخاطب بجمالياتها شريحة أوسع من الناس، لوحة تستطيع تجاوز مجموعة الجمهور التي تتكرر في حفل الافتتاح لأي معرض". ربما توضح تلك الكلمات، وهي للفنان نذير نبعة، مدى تبنيه وإخلاصه للفن، الذي كان رفيق دربه لأكثر من ستين عاماً، فهو الفنان الذي...

مواضيع أخرى

النساء ومعاركهن المتجددة

النساء ومعاركهن المتجددة

 يتم تسويف قضايا النساء بذرائع متعددة على الدوام، مرة بذريعة الحرص على الأخلاق العامة، ومرة أخرى بذريعة عدم المواجهة مع قوى الأمر الواقع، ومرات بذرائع تنبع فجأة من خبايا السنين وتصير حاضرة بقوة مثل طبيعة المرأة البيولوجية، أو التشريح الوظيفي لدماغ المرأة، وصولاً...

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

تمر سوريا اليوم بمرحلة فارقة في تاريخها، حيث يقف الجميع أمام اختبار صعب: هل يمكن تجاوز إرث القهر والاستبداد لبناء دولة جديدة قائمة على الحرية والكرامة؟ أم أننا سنتعثر مجددًا في أخطاء الماضي، التي صنعها الخوف، الصمت، وصناعة الأصنام؟ اليوم، نحن في حالة فراغ سياسي...

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

شهدت سوريا خلال أربعة عشر عامًا من الصراع تحولًا جذريًا في موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية. بدأ الحراك شعبيًا وسلميًا، لكنه انتهى بصراع مسلح معقد ومدعوم خارجيًا، في ظل غياب قوة سياسية مؤثرة ميدانيًا. وبينما ساندت روسيا وإيران النظام السوري، مما أطال أمد...

تدريباتنا