تدريباتنا

الوجود منبثقاً من أعماق العدم: تأويل أنثروبولوجي للبقاء حيّاً مدّةَ يوم في سوريا

بواسطة | فبراير 1, 2023

أستيقظُ في الساعة السادسة صباحاً حسب التوقيت السوريّ، وأنا أكاد أتجمّد من البرد، والشمس لم تشرق بعد، فعن أي صباح يتحدّثون؟ أبحث في العتم عن صنبور المياه لأغسل وجهي المتحجّب بطبقاتٍ من الظلمة لا نهاية لها، فأصل إليه متعرّفاً على موقعه بصعوبة، فالتيار الكهربائيّ مقطوع دائماً، وبطارية السيارة التي اشتريتها لأعتمد عليها في إضاءة محل سكني بعد تركيب وصلات ومصابيح عليها فارغة تماماً، وذابت آخر الشموع التي كانت عندي. وها أنا الآن أصبحتُ البصير –الضرير، إذ رغم امتلاكي لعينين حادتين أو لآلة باصرة –على حدّ تعبير الفلاسفة-إلا أني بدأت أتعلّم كيف أسلك سلوك الأعمى، وكان الأفضل منذ طفولتي أنَّ أسلك سلوك إنسان مثل أبي العلاء المعرّي، فهو لم يكن ليعلّمني فقط البقاء حيّاً على المستوى الفيزيولوجي في مثل هذه الظروف اللعينة؛ بل كان ليعلّمني أيضاً ألا أتحطّم على المستوى النفسيّ؛ لأنه يعرف كيف يدرّب العقل على مواجهةِ شناعة الحياة.

أصلُ إلى صنبور المياه، أتحسّسه ثم أفتحه، فأجد أنَّ حظي كان جيداً، لأنَّ المياه غير مقطوعة، تتدفق المياه، أضعُ يدي فيها، فيقشعرُ جسمي من شدّة برودتها، أقرّر التراجع، ثم أتردّد، فأقول في نفسي: لا بدّ من إزاحة غبار الظلمات عن وجهي فأخاطر بغسل رأسي ووجهي…أرتدي ملابسي، راقصاً، من هولِ البرد…أفتحُ باب منزلي وأخرج، في سِفْرِ خروجٍ لا خروج فيه… أقف على الرصيف منتظراً مرور أيّ وسيلة نقل…لا شيء …وفجأةً تمرّ سيارة أجرة…ألوِّح له بيدي …يقف سائقها…أسأله: كم تريد أجرة للوصول بي إلى مكان عملي…إنّه يبعد 16 كيلو متراً؟ أجاب: أريد خمسين ألف ليرة سورية…قلت له: إنَّ راتبي 150 ألفاً…فهل من المعقول أن تأخذ مني هذا المبلغ….شَخَرَ بسيارته وابتعد عني دون أن يتكلم كلمة…فَقَفلتُ راجعاً إلى منزلي، وجلست على الكرسي الخشبي واضعاً كفي الحائرة على ذقني وقارعاً سنّ نادمٍ على هذه الحياة المريرة التي اخترتُ أن أعيشها.
هذا ما قاله لي “محمد” الشاعر وأستاذ الأدب العربي حينما سألته عن أحواله؛ ولكن ربما كان “محمد” أقلّ صلابةً من غيره، نظراً إلى أنَّ مشاعره مرهفة بصفته شاعراً ولغويّاً.

غير أنّي حينما التقيتُ مع “عبد الله” الخرِّيج الجامعيّ وسألته عن أيامه، فقال لي: أنا أعمل الآن في سوق الهال في بيع الخضار…وهذا أفضل عمل استطعت أن أحصل عليه…وعندما سألته عن سبب عدم رغبته في الاستفادة من شهادته الجامعيّة. قال بسخرية مريرة: إنّ ما أُحصّله من مال في يوم واحد هنا يعادل الراتب الحكوميّ بناء على تعييني في وظيفة حسب شهادتي… الشهادة الجامعيّة أمر تافه وسخيف من الناحية الماديّة. وتابع قائلاً: لولا عملي في سوق الهال لتحطّمت حياتي كلّها، فقد استأجرت غرفة في إحدى العشوائيات بمبلغ قدره 200 ألف ليرة سورية، وأسكن فيها أنا وزوجتي وابني، فعملي في سوق الهال يسهّل عليّ الحصول على الطعام، فالخضار يعطيني إياها ربّ العمل كجزء من أجرتي عن عملي معه، وهنا أتعرّف على أناس جَيِّدين من جيراني في المحلات المجاورة، فيمكن أن أشتري اللحم والحبوب والمنظِّفات وإلى ما هنالك بأسعار مقبولة مقارنةً مع غيري، لأنه بسبب العمل في مكان واحد توجد مراعاة لي من قِبَلِ التُّجار. وبعد أن سألته عن مشكلة انقطاع التيار الكهربائي. قال: لقد اعتدنا أن تكون لنا عيون خفافيش، ولكن من أجل زوجتي وابني اشتريت بطارية درّاجة نارية، ومددت لها أسلاكاً ومصابيحَ مناسبة، مع شاحِنٍ كهربائيٍّ لها، والأمور تسير على ما يرام…وحاولت أن أفهم منه كيف يؤمّن التدفئة في منزله….ضحك بأعلى صوته وقال: هذا أمر نسيه الناس كلّهم، لقد بلغ سعر ليتر المازوت عشرة آلاف ليرة سورية في السوق السوداء، ولا يمكن لنا أن نشتريه إطلاقاً!! نحن نضع علينا فوق اللباس السميك أغطيةً تحمينا من البرد، ونبقى أياماً طويلة غير قادرين على الطبخ أو شرب أي مشروب ساخن، لأنَّ أسطوانات الغاز مفقودة، وننتظر دورنا أحياناً للحصول على أسطوانة غاز شهرين أو ثلاثة أشهر…وليس أمامنا أي حلّ، إلا أنه كنت قد اقتنيتُ أسطوانة غاز من الحجم الصغير يمكن تركيب قاعدة لشعلة اللهب عليها وأحياناً عندما يتوافر معي مال زائد أقوم بتعبئتها من أجل الطبخ؛ أما إذا لم يتوافر معي المال، فلا حول ولا قوة إلا بالله…ثم سألته: ماذا بالنسبة إلى الثياب والأحذية كيف تؤمّن لعائلتك هذا النوع من المتطلبات؟ فقال: عليك بـ”البالةِ” يا صديقي ففيها ألبسة أوروبية من أجود الأنواع، ولا يهم إن كان أصحابها الأصليون موتى أو أحياء، مرضى أو أصحّاء، فنحن نغسلها ونلبسها..

أما محمود وهو مزارع قويّ شديد البأس، فجاء كلامه غريباً عندما سألته عن طريقة تدبيره لأحواله المعاشية. قال: أنا أعيش في قرية جبلية عالية جداً، والبرد هناك شديد جداً يكاد يفتك بالمرء، ولذلك أذهب قبل حلول الشتاء إلى الأحراش المجاورة لقريتي وأحفر في الأرض بحثاً عن جذور الأشجار، لأنه لم تبق جذوع وأغصان أشجار على الإطلاق، إذ بسبب حاجة الناس إلى التدفئة تم القضاء على غابات بأكملها. المهم أني أحفر بحثاً عن الجذور العميقة للأشجار مدة طويلة حتى أجمع ما أستطيع جمعه وأقوم بتخزينه من أجل برد الشتاء. كما أقوم بزراعة قطعة الأرض الصغيرة قرب منزلي في الصيف بأنواع مختلفة من الخضار، وتقوم زوجتي بتخزين ما يمكن تخزينه منها بعد تعريضه لأشعة الشمس. وقد قمتُ بتربية الدجاج في “قُنٍّ” قربَ منزلي، فيمكن أن أحصل على اللحم والبيض في بعض الأحيان وليس دائماً. ويهمني أن أخبرك عن أمرٍ هو أنني أذهب في موسم صيد الأسماك إلى بعض سدود المياه القريبة من قريتي، واصطاد ما أقدر عليه من أسماك وأقوم ببيعها للناس في قريتي، لأنهم غير قادرين على شراء لحم الدجاج والضأن والأبقار، وهكذا أحصل على بعض الدَّخل الماديِّ. كما أنني أذهب في موسم قطاف الزيتون إلى بعض القرى لأعمل عند بعض مالكي أشجار الزيتون، فأحصل على ما يكفيني من ثمار الزيتون والزيت كأجرة لي على عملي في قطاف الزيتون…وإذا توقفت عن العمل بهذه الطريقة سأعجز تماماً عن الاستمرار في الحياة…

أما “شادي” وهو طالب جامعيّ، فقد أخبرني أنه متزوج وعنده ثلاثة أبناء، وهو يعيل أمه، بسبب موت والده…أشار إلى ثيابه وقال لي: انظرْ هل هذا لباس يليق بإنسان؟ إني أعمل، ليلاً ونهاراً، من أجل الصمود في الحياة، فأنا الآن ملتزم بالعمل في “كشك” على الشارع وأبقى موجوداً فيه طوال الليل، أبيع للعابرين التبغ والكحول وإلى ما هنالك. وأعمل في النهار في “العتالة”. نعم أذهب إلى أي مكان فيه هذا النوع من الأعمال، وأحمل على ظهري الأشياء الثقيلة من مختلف الأنواع من أفران وبرادات وغسالات…وما إن أنتهي من العمل في “العتالة” وألبث قليلاً في المنزل حتى يأتي موعد ذهابي إلى الكشك؛ غير أني أكون سعيداً لأنَّ زوجتي قادرة على طبخ وجبات مقبولة وهي تعطي لأمي حصتها منها كلّ يوم…وتابع قائلاً: ماذا في مقدوري أن أفعل أكثر من ذلك؟ إني أفعل كلّ ما في وسعي من أجل البقاء حيّاً مع أمي وزوجتي وأبنائي…ولكن كلّ ما أجنيه من مال لا يسد الرمق، فالأسعار مرتفعة جداً ولا يمكن الاستمرار على هذا النحو…إنَّ الفقر ينخر في عظامي وروحي…وهناك أناس يقبعون في شققهم الفاخرة مثل الرخويات في قواقعها دون أن يكترثوا بمعاناة الناس.

ودّعت شادي ودخلت في صمت عميق، متفكِّراً في هول المعاناة التي يمرّ فيها السوريون، ولكن يمكن هنا أن نكتشفَ بنيةً عميقةً ومباطنةً موجودةً في الإنسان بصفته إنساناً، وليس في الإنسان السوريّ وحدَه، وهي أنَّ الرجوع إلى “البدائيّة” بالمعنى الأنثروبولوجيّ قد يصبحُ حلّاً لمشكلة الإنسان في أزماتٍ معيّنة، أي أنَّ الإنسان السوريّ هنا في أزمته عاد إلى مواجهة الطبيعة بأساليب بدائية ولكن مبتكرة، عوضاً عمّا خسره من تقنيات حضارية حديثة، ولذلك تحوّل الإنسان السوريّ من تحديد هربرت ماركيوز للإنسان، بصفته ذا بُعدٍ واحد، ويقصد منه البُعد الاستهلاكيّ في المجتمعات الصناعية الأوروبيّة التي تمَّ تصديرها في نسخ مشوّهة إلى عالمنا العربيّ، إلى الإنسان الذي يمتلك “فكراً بريّاً” على حدّ تعبير كلود ليفي ستراوس؛ ولكن الفكر البريّ هنا هو فكر أعمق مما حدّده ستراوس نفسه، فهو ليس فكر القبائل البدائية القائم على الأسطورة والسحر والوثنية وطقوس الصيد في المجتمعات الأوليّةِ على نحو يكوِّن بنيةً ثقافيّة مخصوصة تضاهي، إنسانيّاً، في رأي ستراوس بنيات المجتمعات الأوروبية المعاصرة؛ بل أصبح الفكر البريّ هنا في سوريا محاولة لإعادة تجديد الذات في ظروف أشدّ صعوبة من الظروف التي يمرّ فيها البشر البدائيون، فما تزال، مثلاً في الأمازون، الأراضي والمياه والهواء تعجّ بأنواع متعددة من الحيوانات والأسماك والطيور، وبكلمة بالنسبة لقبائل الأمازون البدائيّة توجد عندهم المصادر الأساسية للحياة، لأنهم لم يعتادوا على أنماط الحياة الحديثة، لذلك هم متكيّفون تماماً مع واقعهم.
أما الإنسان السوريّ، فإنّه فَقَدَ وسائل الاستمرار الحديثة من أجل البقاء، ولا توجد حوله طبيعة غنيّة بأسباب الحياة. من هنا أصبح الإنسان السوريّ نوعاً جديداً غير الإنسان الأوروبي المعاصر وغير الإنسان البدائي. إنّه مزيج من كليهما، ولذلك لا بدّ من أن ينبثق من أعماقه ما يسمّيه نيتشه “الإنسان الأعلى” من أجل تغيير هذا الواقع الشائن، هذا الواقع الذي يتجه بكلّ قواه إلى تحويل شعب ابتكر للعالم أول أبجدية في التاريخ إلى شعب بدائي يعيش في “مجتمعات غير كتابية”، على حدّ تعبير ستراوس نفسه.

مواضيع ذات صلة

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

 "كنت أحلم بلوحةٍ تستطيع أن تخاطب بجمالياتها شريحة أوسع من الناس، لوحة تستطيع تجاوز مجموعة الجمهور التي تتكرر في حفل الافتتاح لأي معرض". ربما توضح تلك الكلمات، وهي للفنان نذير نبعة، مدى تبنيه وإخلاصه للفن، الذي كان رفيق دربه لأكثر من ستين عاماً، فهو الفنان الذي...

مواضيع أخرى

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

رغم انتشار ثقافة المطالعة واستقاء المعلومات عن طريق الشبكة العنكبوتية إلا أن ملمس الورق ورائحة الحبر بقيا جذابين للقارئ السوري. ولم تستطع التكنولوجيا الاستحواذ على مكان الكتاب الورقي، أو منافسته. وبقي الكتاب المرجع الأساسي والحقيقي لأي بحث علمي وأكاديمي، ولم يستطع...

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

بقي الريف السوري محروماً من المسرح إلى أن أنشأت مديرية المسارح والموسيقى في وزارة الثقافة ما أسمته "المسرح الجوال" عام ١٩٦٩، والذي بدأ عروضه بنشر الوعي المسرحي في الريف والمناطق الشعبية والنائية. صارت الصالة في كل مكان  والجمهور ضمنها، وكان كسر الحواجز بين...

“وفا تيليكوم”: اتصالات إيرانية على أراضٍ سورية

“وفا تيليكوم”: اتصالات إيرانية على أراضٍ سورية

ينتظر السوريون في الأسابيع المقبلة بفارغ الصبر وفق تصريحات حكومية انطلاق المشغل الخلوي الثالث "وفا تيليكوم" المرتبط بإيران التي ستدخل على خط الاستحواذ في قطاع الاتصالات الحساس والذي ظلّ حكراً على متنفذي السلطة لعقود. من خلال التواصل المباشر مع مصادر متعددة من داخل...

تدريباتنا