تدريباتنا

الوظائف الحكومية: الرمد أفضل من العمى

بواسطة | نوفمبر 19, 2018

“كان راتبي قبل الحرب١٠ آلاف ليرة سورية، أي ما يعادل وقتها ٢٠٠ دولار، كنت أدفع منها ٣ آلاف أجاراً لغرفتي، وأعيش بالباقي على مستوىً جيد، اليوم راتبي ٤٠ ألف ليرة أي ٥٠ دولار تقريباً، وهو لا يكفي لدفع بدل الإيجار والمواصلات، حتى أنني مضطر للعمل بعد الدوام لأتمكن فقط من الأكل والشرب. لا أدري كيف تستطيع العائلات أن تتدبر أمورها في ظل هذه الظروف!” يقول محمد، وهو موظف في الثلاثينات من عمره يعمل كمراقبٍ فني في مؤسسة حكومية.

ورغم انخفاض رواتب القطاع العام وصعوبة الأوضاع الاقتصادية بالإضافة لتدني القدرة الشرائية لليرة السورية، مازال العديد من السوريين يقبلون على مسابقات التقدم للوظائف الحكومية، ومن يرى أعداد المتقدمين لإحدى مسابقات التوظيف لا يمكن أن يصدق أنّ الناس تتدافع من أجل راتبٍ زهيدٍ.

يتحدث رائد عن تجربته بعد دراسته الجامعية ويقول: “تخرجت من الجامعة كمهندس ميكانيك، وحاولت خلال عامٍ كاملٍ أن أجد عملاً لي ولكن دون جدوى، فالمصانع والمعامل التي كانت فيما مضى تشكل فرصة جيدة لنا أقفلت أبوابها ولم يبق منها إلا القليل، عدا عن أنّ دول الخليج التي كان تؤمن فرص عملٍ جيدة قبل سنوات الحرب قد منعت سفر السوريين إليها. لذا لم يبق أمامي من طريق سوى الوظيفة الحكومية والتي على الرغم من كل مساوئها تبقى أفضل من البقاء بلا عمل.”

ويتعامل السوريون مع الوظيفة الحكومية على نحوٍ لايخلو من التناقض والتباين، فبعضهم يرفضها لأسباب سياسية، أو لأخرى تتعلق غالباً بمقدار الراتب الشهري  والذي يعتبر متدنياً جداً، وخصوصاً في السنوات التي تلت اندلاع الصراع حيث انهارت العملة بشكلٍ كبيرٍ، مما جعل الرواتب مثار سخريةٍ لدى الكثير من الناس حيث يعلق البعض أنّ راتبهم لا يكفي حتى لشراء حذاء.

فيما يعتبر البعض الآخر الوظيفة الحكومية حلماً يسعى لتحقيقه بعد تفاقم حدّة الفقر وتقلص عدد فرص العمل مع خسارة العديد من المنشآت والمصانع والقوى العاملة والخبرات جراء سنوات الحرب الطويلة، جعل هذا من البطالة أزمةً متفشيةً، تدفع الشباب للإقبال على الوظائف الحكومية باعتبارها مصدر دخلٍ شهري ثابت. كذلك تقدم الوظائف الحكومية ميّزات لعل أهمها المعاش التقاعدي، الذي يراه الكثيرون “سلاحاً لمواجهة الشيخوخة وغدر الزمان” على حد وصف أبو أحمد.

ويروي أبو أحمد “تطوعت في الجيش أواخر ستينيات القرن الماضي برتبة ضابط، وكان معاشي وقتها ٤٠٠ ليرة (ما يعادل ألف دولار حينها)، وشكل تطوعي في الجيش نقلة نوعية في اقتصاد العائلة التي كانت تعمل بالزراعة طيلة العام دون أن تتمكن من ادخار أي شيء. تنازلت عن حصتي من الأرض لأخوتي ظناً مني أن الراتب سيكفيني لأعيش حياة كريمة جيدة، ولكن بعد كل تلك السنوات لا أملك شيئاً سوى راتبي التقاعدي لأعتاش منه.”

ولم تعد الوظائف الحكومية حلماً فقط عند البعض، بل أصبحت تتدخل بشروط الزواج، كإعلان طريف نشر رائد على صفحته على الفيس بوك منشوراً كتب فيه: “مطلوب عروس، لا يهم العمر والمواصفات، شرط أن تكون موظفة ولم تأخذ قرضاً من الدولة.” وفي الحقيقة تغيرت الأولويات عند العديد من الشباب السوريين وأصبحوا يفضلون الزواج من نساء موظفات تساعدهم في تحمل مصاريف الأسرة. يذكر شادي كيف تغير موقفه من عمل زوجته قبل وبعد الحرب فيقول “قبل الحرب كان عملي في ورشة النجارة جيداً، ويكفيني لأعيش حياة مستقرة، لم يكن هناك حاجة لعمل زوجتي خارج المنزل وخصوصاً بعد أن أنجبنا طفلين حيث أمضت وقتها في العناية بهما وبشؤون المنزل. ولكن في ظل الظروف المعيشية القاسية التي تمر بها البلاد، أصبح من الضروري أن تعمل زوجتي لنستطيع تأمين مصاريفنا المتزايدة وخصوصاً بعد أن أصبح أطفالنا في المدارس وزادت متطلباتهم وحاجياتهم”، ويضيف شادي “لم أكن متحمساً فيما مضى لعمل زوجتي، وبالذات في الوظائف الحكومية، لما فيها من صعوبة في التوفيق بينها وبين رعاية الأطفال عدا عن السمعة السيئة للدوائر الحكومية وما فيها من فساد ومحسوبيات ومشاكل بين الموظفين، لكننا اليوم نسعى لإيجاد وظيفة حكومية لها، فرغم تدني الراتب إلا أنه سيشكل دعماً جيداً لعائلتنا.”   

لم تغّير الحرب وجهة نظر شادي فحسب، وإنما غيّرت أيضاً النظرة الاجتماعية للوظيفة بشكل عام. فقبل الحرب كان الموظفون يُعتبرون ضمن الفئات الفقيرة بين شرائح المجتمع، ممن لا يمتلكون أعمالاً خاصة أو أملاكاً شخصية، في الوقت الذي كان فيه أصحاب المحلات البسيطة يربحون في اليوم ما يعادل راتب شهر كامل للموظف. وبعد أن كانت الوظيفة الحكومية تُصنف في أدنى السلم الاجتماعي والمهني قبل سنوات الحرب، اختلفت المعادلة بشكل كبير بعدها وبات الراتب المضمون في نهاية كل شهر ميزة ممتازة في ظل تفاقم الفقر والبطالة، مما عزز من مكانة الموظف اجتماعياً. فلم يعد يُنظر له بوصفه ذاك الساذج أو عديم الطموح بسبب اختياره الوظيفة الحكومية بدلاً من الأعمال الحرة، بل أصبح محظوظاً وحكيماً في خياراته.

اليوم ومع وجود أكثر من مليون موظف، لا تزال الوظيفة الحكومية بالنسبة للعديد من السوريين مجرّد بطالةً مقنعة، فما الجدوى من أن تهدر قدراتك ووقتك في عملٍ لا فائدة منه ولايُطور أو يستثمر خياراتك، ولا يمكن الاعتماد عليه لبناء حياة كريمة، ولكن مع الظروف الجديدة والوقائع التي فرضتها الحرب تغيرت المقاييس والقواعد، فصحيح أنّ الرواتب لا تُسمن، إلا أنها هذه المرة  تغني عن الجوع.

مواضيع ذات صلة

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

طيب تيزيني اسم أكبر وأهم من أن نُعرِّفه عبر سطور أو صفحات قليلة؛ لأنه جسَّد أفكاره تجسيداً عملياً، فكانت مؤلفاته تفيض من تفاصيل حياته ومواقفه الإنسانية والسياسية، وكانت حياته ومواقفه وبحق تعبيراً صادقاً عن أفكاره وفلسته، فكان فيلسوفاً بل حكيماً بكل ما تعنيه هذه...

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 خلال مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء، والتي استمرت لأكثر من نصف قرن، أبدَعَ مدرسة لحنية وغنائية متفردة وغنية ومتكاملة، تركت بصمتها المؤثرة في تاريخ الموسيقى العربية، وقد ساعدته موهبته في الغناء في فهم طبيعة الأصوات التي لَحَّن لها، فكان يُفصِّل اللحن على مساحة...

جُرح في الزوبعة

جُرح في الزوبعة

كانت حياة أنطون سعادة القصيرة (1904-1949 م) أشبه بدورة الإله بعل في الميثولوجيا الكنعانيّة القديمة، فبعل الذي يموت ويولد على نحوٍ أبديٍّ، وفقاً لـ"ألواح أوغاريت"، يرمز إلى "بلاد كنعان" أو "فينيقيا" تبعاً لتسميتها اليونانيّة القديمة، هذه البلاد التي مهما حاقَ بها من...

مواضيع أخرى

مثل الماء لا يُمكن كسرها

مثل الماء لا يُمكن كسرها

لم أستطع أن أخفي دهشتي حين قرأت المجموعة الشعرية "مثل الماء لا يُمكن كسرها" للشاعرة السورية فرات إسبر، فالنص مدهش وغني بالتجربة الإنسانية للمرأة في علاقتها بذاتها وبالعالم حولها، ويعبر عن صوت المرأة الحرة الشجاعة والمبدعة، صوت الأم والعانس والأرملة والعاشقة. أعتقد أن...

سوريا: كسوة العيد للأطفال محكومة بالأزمة الاقتصادية الحادة

سوريا: كسوة العيد للأطفال محكومة بالأزمة الاقتصادية الحادة

حرصت عائلات سورية -في أعوام خلت- على شراء الملابس الجديدة قبيل عيد الفطر، وبخاصة للأطفال كي يشعروا بالبهجة والسرور، غير أن التضخم وتراجع القدرة الشرائية، إلى جانب تدني دخل الأسرة بفعل الأزمة الاقتصادية الحادة أثر بشكل سلبي على هذه العادة. في جولة لنا على عدد من...

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

لشهر رمضان في سوريا عاداتٍ وطقوسِ اجتماعية وإنسانية، حرصت العائلات السورية على توارثها والتمسك بها عبر عشرات السنين، حتى تحولت إلى ما يشبه التراث الاجتماعي، ومن أشهرها "سِكبة رمضان" التي  تخلق حالة من الألفة والمحبة والتكافل الاجتماعي بين الناس، الذين يتبادلون...

تدريباتنا