تدريباتنا

تراجع الغطاء النباتي في سوريا يُنذر بأخطار بيئية كارثية

بواسطة | سبتمبر 2, 2024

ظروف الحرب وتبعاتها، العمليات العسكرية التي أدت لإحراق واقتطاع وتجريف مساحاتٍ كبيرة من الأشجار في مختلف أنحاء البلاد، عمليات التحطيب الجائر، ازدياد أعداد المفاحم التي تعتمد على الأشجار، واندلاع الحرائق الكثيرة التي التهمت مساحاتٍ واسعة من الغابات والأحراج، كل ذلك أدى إلى تراجع حجم الغطاء النباتي، الذي مازال يتآكل يوماً بعد يوم، وبات يُنذر بأخطار بيئية كارثية على المدى القريب، قد تترك آثارها السلبية على الأجيال القادمة، مع ازدياد حجم التلوّث البيئي وتغير طبيعة المناخ وخسارة التنوع الحيوي وانتشار الأمراض التي يمكن أن يخلّفها غياب المساحات الخضراء، التي سيحتاج تعويضها إلى سنواتٍ طويلة.

في ظل تفاقم أزمتي الوقود والكهرباء اللتين تشهدهما البلاد منذ سنوات الحرب وحتى اليوم، لجأ كثير من الناس لاستخدام الحطب في التدفئة وطهو الطعام، فاضطروا لاقتطاع الأشجار وشراء الحطب من الأسواق التي انتعشت خلال السنوات الماضية، بعد تحول عمليات التحطيب الجائر إلى تجارة رائجة، ولجوء الكثيرين ممن جعلتهم ظروف الحرب فقراء وعاطلين عن العمل لمهنة بيع الحطب، كونها سهلة ومتاحة وتحقق أرباحاً جيدة. ولم يقتصر استخدام الحطب على البيوت فقط، وإنما انتشر استخدامه بشكلٍ كبير في كثير من المطاعم والأفران ومحلات الفطائر كبديل عن مادتي الغاز والمازوت اللتين بات من الصعب توفيرهما.

ولم تقتصر عمليات التحطيب الجائر، التي انتشرت في أغلب المحافظات السورية، على الأحراج والغابات ومختلف أنواع الأشجار البرية، بل طالت الكثير من أشجار الحدائق العامة والشوارع. ففي دمشق مثلاً، وبحسب وكالة الأنباء الرسمية سانا، نظمت مديرية الحدائق نحو 100 ضبط مخالفة لقطع أشجار مختلفة الأحجام خلال شتاء العام الماضي، هذا بالإضافة لضبط مستودعات أخشاب مُخالفة وغير نظامية،  فيما تحدَّث مدير الحدائق في محافظة دمشق سومر فرفور عن ضبط أكثر من 25  حالة قطع للأشجار ضمن المسطحات الخضراء، وعن تعرض نحو 40 شجرة صنوبر، عمرها أكثر من 20 سنة، للتحطيب في منطقة عقدة القابون، وعن توقيف 15 شخصاً كانوا يقومون بقطع الأشجار والأغصان في الشوارع والأماكن العامة. 

الغوطة التي كانت رئة العاصمة وسلة غذائها، وكغيرها من معظم مناطق ريف دمشق، تراجعت مساحات غطائها النباتي خلال سنوات الحرب وما بعدها، لتتحول إلى منطقةٍ شبه جرداء، فإلى جانب ما خسرته خلال العمليات العسكرية، التهمت عمليات التحطيب ما نجا من أشجارها، لتطال معظم بساتينها التي كانت تمدُّ أسواق دمشق بالفاكهة، وهو ما أدى لفقدان كثيرٍ من أنواع الأشجار التي كانت الغوطة تتميز بها، كالجوز البلدي والمشمش. وبعد أن كانت من أخصب الأراضي السورية، ساهم غياب الغطاء النباتي بتراجع خصوبة تربتها التي كانت تستمد المواد العضوية من مخلفات الأشجار، كبقايا الثمار والأوراق وغيرها، كما ساهم أيضاً في تغيير مناخ المنطقة، إذ كانت أشجارها تساهم في الحفاظ على الرطوبة الجوية وتنقية الهواء.  

وفي محافظة السويداء لم تعد عمليات التحطيب، المستمرة منذ سنوات، تقتصر على العمل الفردي بل أصبح هناك مجموعات وعصابات مسلحة تعمل ليل نهار، مستعينةً بالمناشير الآلية، لتلتهم  مساحات واسعة من الأحراج التي تضم أشجاراً معمِّرة، كأشجار السنديان، يصل عمر معظمها إلى مئات السنين، وخاصة في منطقة ظهر الجبل، التي لطالما كانت، بما تمتلكه من مناظر طبيعية ساحرة وهواء نقي، متنفساً لسكان المدينة ومقصداً للتنزه والاستجمام. وفي كثير من الحالات طالت عمليات التحطيب بعض البساتين والكروم لتفني أشجارها المثمرة التي يعتاش أصحابها من محاصيل ثمارها. ولم تعد عمليات التحطيب في المحافظة تقتصر على فصل الشتاء، بل باتت تنشط حتى خلال فصل الصيف، حيث تقوم بعض عصابات التحطيب بتخزين ما تقطعه من أشجارٍ في المستودعات، لتباع كأخشاب لبعض الورش الصناعية، أو كحطب خلال فصل الشتاء.  

وطوال السنوات الماضية لم تتوقف الاعتداءات المتواصلة على الغابات السورية، سواء من قبل تجار الحطب، الذين يبيعونه لبعض المحافظات، أو من قبل بعض الفقراء الذين وجدوا في مهنة التحطيب  مصدر رزقٍ أفضل من المهن الأخرى، التي تراجع حجم مردودها المادي بشكل كبير، وخاصة مهنة الزراعة التي تأثرت بارتفاع أسعار الأسمدة وأجور النقل وصعوبة توفير المياه والوقود. هذا بالإضافة للجوء كثير من أبناء المناطق الجبلية الباردة لتحطيب الأشجار المحيطة بهم، بما فيها أشجارهم، خلال فصل الشتاء لينعموا ببعض الدفء في ظل شح كميات المازوت المدعوم وارتفاع أسعاره في السوق السوداء، ووصول سعر طن الحطب لنحو ثلاثة ملايين ليرة.    

نشاط عمل المفاحم

خلال سنوات الحرب وما بعدها ازدادت أعداد المفاحم في الساحل السوري بشكل كبير، وارتفعت وتيرة نشاطها على نحوٍ غير مسبوق، بعد أن تحولت إلى مصدر رزقٍ للعديد من المُعدمين والعاطلين عن العمل، وإلى تجارة رابحة لكثير من المتنفذين، خاصةً بعد تراجع استيراد مختلف أنواع الفحم، واعتماد معظم المطاعم والمقاهي وأسواق بيع فحم الأراكيل والشواء على الإنتاج المحلي. 

وقد ساهم نشاط عمل المفاحم، التي تعتمد على تحويل الأشجار إلى فحم، في اقتطاع الكثير من أشجار الغابات والأحراج، وفي نشوب كثير من الحرائق، التي قد تندلع نتيجة تطاير شرر بعض الأخشاب والعيدان والقشور المشتعلة، لتلتهم مساحات واسعة من الأشجار، خاصة أن مواقع المفاحم تتواجد عادةً ضمن الغابات والأحراش وفي أماكن بعيدة يصعب الوصول إليها، وهو ما يشكل الكثير من المخاطر البيئية في ظل انعدام أبسط  الشروط الفنية ومقومات الأمان والسلامة.

ويرى كثيرون أن بعض أصحاب المفاحم قد يكون لهم دور مباشر في افتعال الحرائق، لكي يقوموا باستثمار المساحات التي تعرضت للحرائق وتحويل أشجارها المحروقة إلى فحم، فيما قد يلجؤون لافتعالها، في بعض الأحيان، لكي يغطوا على عمليات قطع الأشجار التي تستخدمها المفاحم.    

وإلى جانب التهامها لمساحاتٍ واسعة من الأشجار تَتسبَّب المفاحم في العديد من الأضرار البيئية، كونها تنتج كميات كبيرة من غاز أول وثاني أوكسيد الكربون وغيرها من الغازات والأبخرة التي تؤثِّر على الغطاء النباتي وحياة بعض الحيوانات، كما أنها تنتج كميات كبيرة من مركبات الهيدروكربونات، التي تساهم بشكل مباشر بالإصابة بأمراض السرطان.

سوريا تفقد أكثر من ثلث غاباتها

 تشير بعض التقارير إلى فقدان سوريا نحو ثلث غاباتها خلال سنوات الحرب وما بعدها، وذلك نتيجة الحرائق الكثيرة، التي باتت تتكرر كل عام، ونشاط عمل المفاحم وعمليات التحطيب الجائر التي ساهمت أيضاً في اندلاع كثير من الحرائق، نتيجة تساقط بقايا الأغصان والأوراق اليابسة  بين الأشجار الخضراء لتكون بمثابة وقود أولي لأي شرارة قد تتحول إلى حريقٍ كبير.

 وتشير إحصاءات وزارة الزراعة إلى أن أعداد الحرائق، التي اندلعت في سوريا بين عامي 2011 و2018، قد تجاوزت الـ 3400  حريق، وأن المساحات التي تم إخماد الحرائق فيها قد تجاوزت 220 ألف دونم. وبحسب بعض المصادر المحلية فقد تم تسجيل نحو 400 حريق في عام 2014، التهمت  نحو 1925 هكتاراً من الغابات والأحراج، وتسجيل ما يزيد عن 500 حريق في عام 2015، التهمت نحو 2867 هكتاراً، فيما سُجل نحو 819 حريقاً في عام 2016، التهمت نحو 2000 هكتار.

 وقد شهد العام 2020 سلسلة حرائق كبيرة ، لم تعرف البلاد لها مثيلاً من قبل، من حيث الضخامة والكثافة وحجم الأضرار، التهمت مئات الدونمات والهكتارات، وتوزعت بين محافظات اللاذقية وأريافها، وطرطوس وريفي حمص وحماه، هذا بالإضافة لأرياف جبلة وصافيتا ومنطقة حميميم وأحراش القرداحة ومحيط جبل الأربعين وغيرها، وقد اقتربت النيران في بعض المناطق من منازل المدنيين، ووصلت إلى مستودعات التبغ وأدت لانهيار جزء من المباني، كما أدت إلى مقتل عددٍ من الأشخاص وإصابة العشرات بجروح وحالات اختناق. وقد تدخل الطيران الروسي حينها لإخماد الحرائق التي استمرت لعدة أيام، وتصدر هاشتاغ “سوريا تحترق” مواقع التواصل الاجتماعي.  

أضرار بيئية كارثية

يلعب الغطاء النباتي دوراً بيئياً وحيوياً هاماً، إذ يقوم بتنقية الهواء، وتخزين الكربون والحفاظ على الرطوبة، لذا يؤدي فقدانه إلى حدوث تغيرات مناخية كبيرة وإلى تراجع كميات الأمطار وارتفاع درجات الحرارة وانعدام إمكانية امتصاص غازات الاحتباس الحراري، كما يؤدي فقدانه أيضاً إلى إبقاء التربة معرضة لأشعة الشمس بشكل دائم، وهو ما يفقدها رطوبتها وخصوبتها، ويؤثر على حياة بعض النباتات الصغيرة والأشنات والطحالب التي تعيش في ظلال الأشجار. وإلى جانب ذلك،  تلعب جذور الأشجار دوراً هاما في تماسك التربة وحمايتها من الانجراف، وخاصة في المناطق الجبلية، وتساهم في نشر الرطوبة تحت الأرض، وبالتالي في إحياء الكثير من الأعشاب والنباتات البرية المفيدة للطبيعة، لذا غالباً ما تصاب المناطق غير المُشجَّرة بالجفاف وانجراف التربة.

من جهة أخرى، أدى تراجع الغطاء النباتي في سوريا إلى إحداث خللٍ في التنوع الحيوي، وإلى تراجع  أعداد الحيوانات البرّية، التي تشكل جزءاً من الهوية البرية للغابات السورية،  فالحيوانات الكبيرة والمتوسطة الحجم  والتي تحتاج للاختباء بين الأشجار الكثيفة والمتقاربة، لم يبقَ لها مكان مناسب للعيش في كثير من الأحراج والغابات التي تآكلت بشكل كبير، فيما حُرم الكثير من الحيوانات الصغيرة من أي مصدر غذائي بعد غياب الأشجار التي كانت تتغذى على ثمارها، وقد ساهم هذا كله في تهجير بعض أنواع الحيوانات التي باتت مهددة  بالانقراض، ومنها غزال اليحمور والضبع السوري والذئب العربي والنيص، هذا بالإضافة لاختفاء الكثير من أنواع الطيور من أماكن عدة، كطائر الحسون والحجل وبعض طيور البوم، وهو ما سيشكل خسارة وطنية كبيرة في التنوّع الحيوي الذي لطالما اشتهرت به سوريا لسنوات طويلة.

مواضيع ذات صلة

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

 "كنت أحلم بلوحةٍ تستطيع أن تخاطب بجمالياتها شريحة أوسع من الناس، لوحة تستطيع تجاوز مجموعة الجمهور التي تتكرر في حفل الافتتاح لأي معرض". ربما توضح تلك الكلمات، وهي للفنان نذير نبعة، مدى تبنيه وإخلاصه للفن، الذي كان رفيق دربه لأكثر من ستين عاماً، فهو الفنان الذي...

مواضيع أخرى

خارطة سورية مقسمة بمجاري الأنهار: والسوريون ضحايا انعدام الأمن المائي

خارطة سورية مقسمة بمجاري الأنهار: والسوريون ضحايا انعدام الأمن المائي

كانت السباحة في نهر الخابور أو الفرات أحد النشاطات المحظورة علينا حينما كنا صغاراً إن لم يكن برفقتنا أحد من ذوينا، وذلك لأنهما كانا كغيرهما من الأنهار السورية في النصف الأول من التسعينيات خطرين بفعل استمرارية التدفق ومن الخطورة بمكان السباحة فيهما، وإن بقي الفرات...

“ماويّة” حكايات اليباب الشاسع ومتعة السرد المزدوج

“ماويّة” حكايات اليباب الشاسع ومتعة السرد المزدوج

"قصص في اتجاه واحد" عنوان فرعيّ أرفقه القاص أنس ناصيف بالعنوان الرئيس "ماويّة". وماويّة، بحسب الكاتب، قرية تقع شرق مدينة سلميّة في محافظة حماة. وبحسب معرفتي، فإنّ مفردة ماويّة باللهجة العاميّة، تطلق في مناطق من الريف السوريّ، لوصف كلّ ما هو نديّ ورطب، وكأنّ فيه ماء....

المعاناة اليومية للعمال من أجل لقمة العيش في فلسطين

المعاناة اليومية للعمال من أجل لقمة العيش في فلسطين

منذ عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر وإسرائيل تقوم بعمل همجي حقيقي لا يمكن تسميته إلا بالإبادة تجاه الفلسطينيين يفوق ما قامت به النازية من مجازر بحق يهود العالم، ولكن هل هذا يعني أن الفلسطينيين كانوا قبل طوفان الأقصى يعيشون في حال من الهدوء؟ ليس التاريخ بعيداً فلو عدنا...

تدريباتنا