تدريباتنا

تعايشاً مع الحرب: هكذا تمضي الصداقة

بواسطة | يناير 10, 2018

قدّم خريجو هندسة الحواسيب في جامعة حلب عام 2010 مشاريع التخرج البحثية والتطبيقية التي أبهرت عدداً من الدكاترة المختصين حيث قال الدكتور المهندس محمد سعيد كريّم : (هذه دفعة قوية من المهندسين، يمتلكون الفرادة والتميّز)، لكن جاءت الحرب التي غيرت كل شيء لتنأى بطموح الشباب بعيداً. فأصبح هناك قوانين جديدة مفروضة على الجميع سواء رضوا بها أم رفضوها، وأصبح كل فرد يبحث عن نفسه من جديد. ومفاهيم العمل الجماعي والتعاون والصداقة وغيرها من الأطر التي أسست لها الحياة الدراسية لهؤلاء الشباب باتت ضرباً من الماضي.

كان أحد هذه المشاريع يتناول مسألة نظام الإدارة المتكامل، القادر على ربط جميع مؤسسات الدولة عبر مدخلات ومخرجات مترابطة تجعل الهيكلية موحّدة تخفض من التدخلات الشخصية وتشكّل الأرضية الأساس للحكومة الإلكترونية لتختصر الوقت والجهد وعدد الموظفين وعدد الأماكن مع وجود فرص عمل متنامية مع الزمن إلى آخره من الميزات. هذا المشروع جمع حوله عدداً من الأصدقاء الذين عرفوا بعضهم جيداً من خلال التعاون خلال سنوات الدراسة. سألقي الضوء هنا على عينة من هؤلاء المهندسين الذين عاشرتهم وكنت على صلة مباشرة معهم.

مهندسة الأمس، طبّاخة اليوم

سهاد مهندسة  وإحدى خريجي تلك الدفعة، صديقة الجميع والتي كان يعتمد على معلوماتها ودفاترها الجامعية من قبل كل أبناء الدفعة، ومن العناصر الفاعلة في مشروع نظام الإدارة المتكامل، وصاحبة المعدل 75% ( وهو معدّل من الصعب تحقيقه لخريجي الهندسات ) والتي كان طموحها المتابعة في مسيرة البحث الأكاديمي لنيل شهادة الدكتوراه، وهذا ما عبّرت عنه لأصدقائها دوماً، وحين وصلت الحرب إلى حلب عام 2012 انقطعت المعلومات عن رغداء وأهلها، وبعد مرور عدد من السنوات، عادت عام 2015 للتواصل مع أصدقائها الذين تساءلوا عنها كثيراً لتخبرهم أنها لاجئة في ألمانيا وأنها غيرت اختصاصها لتصبح طباخة معروفة في سلسلة مطاعم هناك، قال لي زملاؤها إنها لا تمتلك الوقت للتواصل معهم كما كانت أيام الدراسة وذلك لأنها رهن المرحلة الجديدة التي تعيش فيها، وقد عبّرت لهم عن ضيقها وتعبها.

أصدقاءٌ ذهبوا، وافتراضيون حضروا

لعبت وسائل التواصل الاجتماعي عبر مجموعاتها الافتراضية الدور الأبرز في مقدرة الأصدقاء على متابعة أخبار بعضهم البعض بعد أن فرقتهم الحرب، سليم الذي بقي في سوريا وأحد خريجي تلك الدفعة، ماكان ليعرف أياً من المعلومات عن أصدقائه لولا مجموعات الواتساب والفيسبوك. يقول سليم: (منعتني ظروف الحرب من متابعة عملي الهندسي، وتركت وقتاً فارغاً أمامي، فوجدت نفسي في حالة متابعة دائمة لوسائل التواصل الاجتماعي وبصورة طبيعية أتساءل عن الزملاء والأصدقاء ومن خلالها عرفت أخبار القسم الأكبر منهم، ولكن بعضهم لم أحصل على أي معلومة عنهم، سواء كانوا على قيد الحياة أم لا!) لكن هذا الفراغ أيضاً عرّف سليم على أشخاص جدد يشك ببعض منهم ويشعر بالتوجس على الرغم من حالة الصداقة الافتراضية التي يغرقونه بها، من خلال كثرة التواصل والاطمئنان.

لغة الطائفية ماذا تفعل؟

محمد أحد أصدقاء سليم وسهاد، الذي وصلني معه سليم، التحق بخدمته الإلزامية ضمن القوانين السورية للخدمة الإجبارية يقول: (آخر أصدقاء طفولتي ودعتهم في أيلول عام 2015 مهاجراً إلى أوربا كما فعل الكثيرون، وقد عزّ علي كثيراً أنه بعد إصابتي في إحدى المعارك لم أتلقَّ أي اتصال من هؤلاء الأصدقاء فهم لا يعرفون عني شيئاً، ربما لو وجدت صديقاً يطمئن عني لكان ذلك سباً أن تبرأ جراحي بشكل أسرع). يبدو أنّ محمد الذي تنقل بين عدة جبهات خلال سنوات الحرب قد تعرّض لكثير من التجارب التي جعلته قليل الكلام، لكنه يحمل في ذاكرته جراحاً كثيرة فهو يضيف لنا بعد عدة أسئلة أن أشكال الطائفية التي لمسها عبر تنقله على عدة جبهات كانت مفاجئة له، بعد أن قضى سنوات مع لغة المنطق الحاسوبي!

الريف يصنع أصدقاء جدد

بعثرت الحرب الأصدقاء وعملت على توزيعهم بطريقة مختلفة عن مبنى حياتهم السابقة، فقد أفقدتهم صداقاتهم القديمة وولّدت طبقات جديدة جعلت الاحتكاك فيما بينهم مصادر جديدة لولادة الأصدقاء.

مازن أحد خريجي الدفعة وابن مدينة حلب، اقتصرت حياته على البيت والجامعة والانتقال بينهما، وبعد نزوحه إلى إحدى قرى مصياف، اختلفت عاداته وتقاليده فيقول: (لم أكن قادراً أن أتصور  العيش في بيئة مختلفة جذرياً عن بيئة حلب، اليوم أذهب مع أحد سكان هذه القرية والذي أعده صديقاً إلى الحقل للقيام بأعمال الزراعة ونمضي ساعات النهار معاً، للعمل وكسب الرزق. يبدو أن هذه الحرب منحتني ثقافة جديدة وأصدقاء لن أنسى فضلهم علي).

هذه التجربة التي مر بها مازن تعرّض لها الكثيرون من أبناء سوريا بعد كثير من الكوارث التي ضربت مدناً رئيسة وبالتالي أصبحت قاعدة العودة للجذور والأرض والريف هي المنجاة بالنسبة لهم.

تغّيرت مجريات الأحداث في سوريا كثيراً ورؤوس الأصدقاء الحامية قلّ عددها حين اكتشف الجميع خسارتهم الكبرى. لن ينسى الأصدقاء أنهم خافوا في بداية الأحداث أن يسأل بعضهم البعض عن مواقفهم السياسية، ولكن الصدمة توسعت حين تصادموا بالسلاح، كانت الصداقات تنهار بسرعة انهمار الرصاص في البلد، وكان الفقد والغربة والعزلة والانكفاء تجاه الأقلية التي ينتمي إليها الفرد تبدو عاصماً له مما يحدث، لكن الأمور اليوم تنفتح على مستوى جديد، بعض الصداقات عادت، وبعضها اختفى كأنها لم تكن يوماً وبعضها تشكل من جديد بآراء مغايرة بعد أن نسفت الحرب رأي كل شخص قبل أن تنسف رأي خصمه السياسي.

مواضيع ذات صلة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 خلال مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء، والتي استمرت لأكثر من نصف قرن، أبدَعَ مدرسة لحنية وغنائية متفردة وغنية ومتكاملة، تركت بصمتها المؤثرة في تاريخ الموسيقى العربية، وقد ساعدته موهبته في الغناء في فهم طبيعة الأصوات التي لَحَّن لها، فكان يُفصِّل اللحن على مساحة...

جُرح في الزوبعة

جُرح في الزوبعة

كانت حياة أنطون سعادة القصيرة (1904-1949 م) أشبه بدورة الإله بعل في الميثولوجيا الكنعانيّة القديمة، فبعل الذي يموت ويولد على نحوٍ أبديٍّ، وفقاً لـ"ألواح أوغاريت"، يرمز إلى "بلاد كنعان" أو "فينيقيا" تبعاً لتسميتها اليونانيّة القديمة، هذه البلاد التي مهما حاقَ بها من...

زكي الأرسوزي أو أمل ضائع بأُمّة تنبعث من عبقريّة لسانها

زكي الأرسوزي أو أمل ضائع بأُمّة تنبعث من عبقريّة لسانها

تعرّض زكي الأرسوزي (1899-1968 م) لإهمال كبير، ولم يُكَرَّس في الأدبيات الفلسفيّة العربيّة إلا على نحوٍ عَرَضيّ، بصفته أحد دعاة الفكر القوميّ، ومؤسِّس فكرة حزب البعث العربيّ، التي أخذها ميشيل عفلق منه وحوّلها إلى تنظيم سياسيّ فاعل في سوريا، وتلاشى ذكر الأرسوزي مع تلاشي...

مواضيع أخرى

الدراما السورية في موسم 2024: مبالغات تخطت الحدود واستسهال واضح

الدراما السورية في موسم 2024: مبالغات تخطت الحدود واستسهال واضح

لا يختلف اثنان أنّ الدراما السورية أحدثت فارقاً وصنعت بريقاً أخاذاً في فترةٍ ذهبيةٍ امتدت ما بين عامي 2000 و2010. وتحديداً ما بين مسلسل الزير سالم الذي أخرجه الراحل حاتم علي ووضع فيه الراحل ممدوح عدوان عصارة ما يمكن لكاتب المجيء به نصاً وحواراً وأحداثاً ليجعل منه...

استنساخ المسلسلات السورية وغياب الحاضر

استنساخ المسلسلات السورية وغياب الحاضر

أهتم كثيراً بمتابعة الدراما العربية، خاصة السورية، وثمة مسلسلات سورية لامست أوجاع السوريين وما يتعرض له الشعب السوري مثل مسلسل غزلان في غابة من الذئاب للمخرجة المبدعة رشا شربتجي. هذا المسلسل أثلج قلوب السوريين كلهم لأنه حكى بصدق وشجاعة ونزاهة عن أحد كبار المسؤولين...

الأمهات في سورية: عيد ناقص

الأمهات في سورية: عيد ناقص

غدت الأمومة في سورية مهمة قاسية ومثقلة بالهموم واكتسبت أوجهاً كثيرة، إذ انتزعت الحرب دور "الأم" الأولي المناط بالعطاء والتربية والمساند المادي الثانوي، وبدأت كثير من الأمهات يلعبن دور المعيل الأساسي ومصدر الدخل الوحيد لتحمل نفقات الأسرة في ظل غياب قسري أو اختياري...

تدريباتنا