تدريباتنا

جابرني، الله يجبرك… صرخة في دمشق

بواسطة | ديسمبر 2, 2021

على استحياء، تمد امرأة ثلاثينية يدها وفيها قطعتان من البسكويت من نوافذ السيارات المتوقفة في ساعة متأخرة من الليل على أحد شاخصات المرور وسط دمشق، وتقول لكل سائق بلهجة مسكورة القلب والخاطر: “جابرني الله يجبرك. جابرني الله يجبر خاطرك. جابرني الله يخلي أولادك”.
المرأة التي تظهر عليها معالم الفقر الذي تعشيه من جسدها النحيل، وشحوب وجهها، وثيابها البالية. وبعد ترديدها لعباراتها السابقة لكل سائق، تمعن النظر بوجهه وملامحه وكلماته، ترقبا لردة فعله. فبعض السائقين ومن دون نبسهم ببنت شفة، يأخذون قطعة من البسكويت ويدفعون ثمنها المحدد من قبل المرأة بـ500 ليرة سورية، وآخرون يأخذوا قطعتين أو ثلاث ويدفعوا ثمنها مع ابتسامة خفيفة، بينما يدفع سائقون ثمن القطعة ضعف، وبعضهم يشتري عدد أكبر من القطع، وهو ما يدخل السرور على قلب المرأة وتظهر علاماته على وجهها، مع ترديدها عبارات الدعاء لهم من قبيل: “الله يجبرك. الله يوفقك. الله يخلي ولادك. الله يحفظك من كل شر”.
بالمقابل، يحجم سائقون عن الشراء، ويوحون بذلك إما برفع الحاجبين، أو رفع كف اليد، أو الرأس، في حين يعبر البعض عن رفضه بترديد عبارة: “الله يبعتلك”. مرة أو أكثر. اخرون يردون بإغلاق نوافذ السيارة والامتناع عن النظر إلى المرأة التي تقابل ذلك بصدر رحب وعدم الإلحاح عليهم والانصراف من أمام سيارتهم.

عزة نفس
وفي دلالة على عزة نفس كبيرة لدى المرأة، رصد “صالون سوريا” امتناعها عن أخذ مبلغ مالي من أحد أصحاب السيارات الفارهة من دون أن يأخذ مقابله البسكويت، ودخولها في جدل معه بسبب إصراره عليها لكي تأخذ المبلغ على حين تشترط هي عليه أخذ البسكويت لكي تأخذ المبلغ، وقولها له مع سيطرة حالة من التوتر عليها “أنا لست شحّاده. أنا قوية. أنا اعمل لأعيش. بتحب تشتري أهلا وسهلا، ما بتحب براحتك”، الأمر الذي رد عليه السائق بشراء علبة بسكويت كاملة منها تحتوي نحو 40 قطعة ودفعه ثمنها رزمة من الأوراق المالية تقدر ما بين 20 – 50 ألفا، والقول لها “الله يقويك اكتر، روحي نامي”.
خلال دردشة قصيرة مع “صالون سوريا” أثناء توقفها على نافذة السيارة وشراء عدد من قطع البسكويت منها، أوضحت المرأة أن الحرب أفقدتها “عمود بيت العيلة” (زوجها)، ودمرت “بيتنا يلي كان ساترنا” بريف دمشق، فوجدت نفسها “مجبرة على العمل لنقضّي بقية هالعيشة المرة أنا والأولاد”. وبعدما توضح أنها تسكن في بيت إيجار في محيط العاصمة، تشير إلى أن عملها في كل يوم يمتد من الساعة السادسة مساء وحتى 12 ليلا، وأنها تختار هذه الفترة كون “الناس بتكون رايقة شوي، على حين في فترة النهار بصير عجقة كتير وكلو بيكون معصّب، وما حدا فاضي لحدا، وما حدا برد على حدا”.
وتذكر المرأة أنها أرباحها في الأيام العادية، تصل “ما بين 5 – 7 آلاف” ليرة في اليوم “عم نستر حالنا فيهون”، في حين يؤكد خبراء اقتصاديين أن الأسرة المؤلفة من ثلاثة أشخاص تحتاج حاليا نحو مليون ليرة سورية في الشهر لتعيش في مستوى متوسط، والمؤلفة من خمسة أشخاص تحتاج نحو مليون ونصف المليون، بينما لا يتجاوز المرتب الشهري للموظف الحكومي 80 ألف ليرة، ووسط استمرار فقدان مداخيل العائلات الشهرية جزءاً كبيراً من قيمتها بسبب الانهيار القياسي لسعر صرف الليرة السورية أمام الدولار الأميركي الذي يساوي نحو 3500 ليرة، بعدما كان قبل سنوات الحرب ما بين 45 – 50 ليرة.

ازمة خانقة
ورغم أن ظاهرة التسول موجودة في سوريا منذ القديم، فإنها ازدادت منذ اندلاع الحرب فيها قبل أكثر من 10 أعوام وما خلفته من أزمة معيشية خانقة يعاني منها أغلبية السوريين وغلاء فاحش وفقر مدقع وجوع ومآس ودمار ونزوح، وتكاثرت الظاهرة جداً مؤخراً وبنسبة أكبر حالياً مع تواصل تردي الأوضاع المعيشية للأغلبية العظمى من الأسر إلى مستويات تفوق قدرتهم على التحمّل (منظمات دولية وتقارير أعلنت أن نسبة من يعيشون تحت خط الفقر في سورية وصلت الى 94 في المئة)، إذ تعج أي سوق من أسواق دمشق وحدائقها وشوارعها بعشرات المتسولين (أطفال، ونساء، ورجال).
وبخلاف عزة النفس الموجودة لدى المرأة بائعة البسكويت، يقوم كثير من المتسولين بالإلحاح بشدة على الناس لكي يعطوهم مالا، ويبادر البعض منهم إلى البكاء من أجل الحصول عليه، بينما بات آخرون يدقون أبواب المنازل ويطلبون “شوية أكل على حب الله” أو “كم رغيف خبر مشان الله” لـ”سد جوعهم”.
ومع تزايد تفاقم مسألة الجوع في دمشق، شهد “صالون سوريا” أكثر من مرة، قيام متسولين في ساعات الصباح الأولى قبل أن تدب الحركة في الطرقات، بالبحث عن بقايا طعام في أكياس القمامة الموضوعة إلى جانب أبواب المنازل، في حين لا يجد بعضهم حرجا بالبحث في ساعات وضح النهار في حاويات القمامة المنتشرة على جوانب الطرق الرئيسية عن بقايا طعام.
وبات مألوفا مشهد افتراش كثير من المتسولين وبعضهم مع أطفالهم لأرصفة شوارع رئيسية في دمشق وأرصفة ساحاتها، ويسألون المارة بصوت عال وبعبارات تثير العواطف، إعطاءهم من «مال الله»، أو مما يوجد في أكياس يحملون (خضار، فاكهة، خبز، مواد غذائية).
والبعض لا يكتفي بافتراش الأرصفة للتسول، وإنما يتخذ منها أيضا مكانا للنوم كما هو الحال على رصيف ساحة تبعد عشرات الأمتار عن الشاخصة المرورية التي تقف عندها بائعة البسكويت، إذ يشاهد بشكل يومي في ساعات المساء والليل منذ فترة طويلة رجل طاعن في السن يرتدي ثيابا ممزقة ومتسخة، إما جالسا أو ممددا على رصيف الساحة وتحت قطعة من حرام قديم جدا، بينما أمامه عدد من أطباق الطعام بعضها مغلق وأخرى مفتوحة وفيها بقايا مأكولات، قد يكون بعض مرتادي محال المأكولات المحيطة بالساحة أو المارة تصدقوا بها عليه.
وعلى حين يبادر بعض المارة، كل حسب إمكانياته، إلى إعطاء متسولين ما تيسر من مال أو مما يحملونه، بعد التدقيق بهم وتولد شعور لديهم بأنهم لا يمتهنون التسول للإثراء وأنهم فعلا محتاجين، يحجم آخرون عن إعطائهم، في حين لا يكتفي مارة بالإحجام عن إعطائهم، بل يتلفظون بعبارات تحمل في طياتها “الشَّمَاتَة” بهم من قبيل “بتستاهلوا.. الله لا يقيمكون” و”بدكون ثورة وحرية.. هي الثورة وهي الحرية انبسطوا وكيفوا”.
ونشرت صحيفة “تشرين” الرسمية في بداية العام الجاري إحصائية من الدراسات الاجتماعية وتقدر عدد المتسولين في سوريا بشكل تقريبي بحوالي 250 ألف متسول في مختلف المحافظات 51،1 منهن إناث و48،9 ذكور، 64،4 منهم يمارسون التسول بشكل احترافي، ويشكل الأطفال 10في المئة أي حوالي25الف طفل، لكن خبراء يقدرون أن الأرقام أكثر من ذلك بكثير مع استمرار تردي الأوضاع المعيشية للأغلبية العظمى من الأسر.

مواضيع ذات صلة

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

مواضيع أخرى

النساء ومعاركهن المتجددة

النساء ومعاركهن المتجددة

 يتم تسويف قضايا النساء بذرائع متعددة على الدوام، مرة بذريعة الحرص على الأخلاق العامة، ومرة أخرى بذريعة عدم المواجهة مع قوى الأمر الواقع، ومرات بذرائع تنبع فجأة من خبايا السنين وتصير حاضرة بقوة مثل طبيعة المرأة البيولوجية، أو التشريح الوظيفي لدماغ المرأة، وصولاً...

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

تمر سوريا اليوم بمرحلة فارقة في تاريخها، حيث يقف الجميع أمام اختبار صعب: هل يمكن تجاوز إرث القهر والاستبداد لبناء دولة جديدة قائمة على الحرية والكرامة؟ أم أننا سنتعثر مجددًا في أخطاء الماضي، التي صنعها الخوف، الصمت، وصناعة الأصنام؟ اليوم، نحن في حالة فراغ سياسي...

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

شهدت سوريا خلال أربعة عشر عامًا من الصراع تحولًا جذريًا في موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية. بدأ الحراك شعبيًا وسلميًا، لكنه انتهى بصراع مسلح معقد ومدعوم خارجيًا، في ظل غياب قوة سياسية مؤثرة ميدانيًا. وبينما ساندت روسيا وإيران النظام السوري، مما أطال أمد...

تدريباتنا