تدريباتنا

حرب الصور في دمشق… هل تموت العصافير؟

بواسطة | نوفمبر 20, 2021

هل يمكن اختزال الحرب بصورة واحدة؟ تزدحم الحرب على رقع الشطرنج المعلقة على جدران صالة المعارض. تسلسل يبدو منطقيا من حيث العدد. عصفور واحد ميت على رقعة من الشطرنج، يتزايد عدد العصافير الميتة على الرقع المتتالية.
رقعة أخرى لكنها تزدحم بصور أخرى، صور لأحذية ميتة، هل تموت الأحذية؟ هل يموت الرصاص؟ هل تموت علب السجائر الورقية بعد نفاذ السجائر منها؟
يزدحم الموت، لا شيء سواه. هدأت المعارك في الخارج، والرصاص غادر السماء واستقر في الصور. الموتى تناسوا رائحة المكان واستنشقوا رائحة التراب الجديد، تراب أم رمل يتحرك تحت الأجساد فترتعش، وتصرخ من أحشاء الصور.
صارت الأحذية إشارات استفهام. من هم أصحابها؟ أين هم؟ هل ماتوا؟ متى وكيف ماتوا؟ والسؤال غير القابل للإجابة، لماذا ماتوا؟
في صالة جورج كامل في دمشق، تم افتتاح معرض الفنان التشكيلي نصوح زغلولة الفنان الدمشقي الحائز على شهادة دبلوم الدولة من “المدرسة الوطنية العليا للزخرفة”، قسم الاتصالات الضوئية من جامعة باريس، لكن الفنان زغلولة يعرف عن نفسه بصورة مختلفة وغاية في بساطتها: أنا هاو شبه محترف، مهووس بالتصوير لأحقق متعتي الخاصة ويصمت مستنكفا عن إعلان موقفه من بلاغة الصورة الفوتوغرافية ومهمتها وأهميتها.

سطح منزل
على سطح بيته في حي الدويلعة الشعبي، يمارس الفنان زغلولة هوسه بتربية العصافير. الحي الواقع بين آخر حدود مدينة دمشق وبداية غوطتها التي تحولت إلى كتل اسمنية. وما بين باب توما مرورا بالباب الشرقي لدمشق، بيوت كونت أحياء يسكنها ما يزيد عن مليون نسمة، كان اسمها ومازال على دفاتر المساحة العقارية: بساتين الشاغور.
وصل عدد العصافير على سطح الفنان زغلول إلى ثلاثمائة عصفور. لم يتبقَ منها ولا عصفور! لم يبعهم ولم يقدمهم هدية لأحد! ماتت العصافير كلها.
طالما اقتنص الفنان زغلولة صورا فاقعة في بؤسها وخصوصيتها من على ذات السطح الذي تحول مع الأيام إلى صالة عرض أولية، إلى مصدر لغالبية الصور الفريدة والموجعة في آن معا. أطفال يحولون سطح خزان المياه المعدني لسبورة يكتبون عليها المعادلات الرياضية. بنات يلعبن بـ “المطاطة” الموصولة ما بين خزانين مربوطة بالوصلات المعدنية لأنابيب المياه.
صور التلصص على الشارع وبيوت الجيران لأنها الفرجة الوحيدة في زحمة الإسمنت المبني عشوائيا وبطريقة منفرة. تتداخل الأسطح ببعضها. تتنافر الصور لشدة صعوبة الحصول على صورة منفصلة لجزء محدد، على حروف اسطح البيوت وسطوح الخزانات. تحتشد أواني مربى المشمش ومعجون البندورة، وكأنها خط الأمان للأسر التي اعتادت المونة خوفا من القلة والجوع. تصير المونة جزءا أليفا من الأسرة، وتقضي النسوة معظم أوقاتهن في تحريك المحتويات، في التعرف إلى الضيوف الجد في خزائن مطابخ مازالت تعاني شح المياه وانقطاع الكهرباء وازدحام المخزونات من عبوات بلاستيكية بدافع الحاجة الماسة.

صفعة الموت
في معرض الفنان زغلولة، ألف ومائة واثنان وخمسون صورة. لا يفاجئك العدد رغم الحجم المصغر للصور، لكن الموت، يصفعك منذ أولى الصور. صور العصافير الموتى غير مكررة. ثلاثمائة عصفور ماتوا من شدة الخوف بعد القصف. ماتوا بتوقف قلب من شدة الضغط الذي تولده القذائف، في حي اعتاد أهله سقوطها يوميا وبأعداد كبيرة وبضحايا أكثر عددا. وبعد هذا الموت، الحربي، في زمن أعلنوا فيه أن زمن الرصاص قد توقف، جاء موت آخر ليكمل مسيرة الموت، مرض غامض قضى على كل ما تبقى من العصافير.
وفي رده على سؤال كيف جمع هذه العصافير في حالاتها المتعددة، صورة لعصفور كامل، صورة لريشة طائر، صورة لرأس عصفور، لساق وحيدة؟ يقول: “كنت اجمع جثامين العصافير بعد موتها، حسب حالتها الراهنة على سطح بيته أو في أقفاصها”. يضيف: “أنا لا أتدخل، لكني قمت بحفظهم في علب كرتونية لمدة ثلاثة سنين”.
يطرح سؤال العاطفة نفسه هنا، يكرر والأسى الذي يحاول إخفاؤه ينتقل إلينا، “نعم: لقد تحولوا إلى مجرد هياكل عظمية”. وماذا عن قلبك؟ كيف حاله وأنت تجمع طيورك موتى؟ يجيب الفنان: “الموت حالة عامة، المهم كشف الصورة الحقيقية للحرب”.
الموت مؤلم، والفن عمل شاق في زحمة الموت، والفنان يقرر تحضير معرض عن الموت؟ أي قسوة؟ وأية مشاعر تعرش على قلبك وانت تواصل التعرف إلى الموت الذي لا يموت، يتشخص حيا أمامك.

رقعة شطرنج
على قاعدة رقعة الشطرنج، رمل يغطي المربعات. رمل ينتمي للبحر الذي ابتلع آلاف السوريين، بحر كان ومازال أحد الجناة المشاركين في مقتلة السوريين. ابتلع بعضهم ولفظهم نحو الرمال، وهنا أيضا وعلى جدران المعرض عصافير ميتة على رمل بحري نهم ومتوحش، يبتلع العصافير وأحذية الأطفال وأجسادهم، وعلب السجائر التي تكاد أن تكون الأنفاس الحرة الوحيدة التي ينفخها السوريون باختيارهم، علب مرمية وملوثة بالدم، مسحوقة، مجعلكة، تبقّى في أحدها سيجارة لسوري لم يسعفه وقته لينجو ويدخنها، تخيلوا عقب سيجارة ملتصق بإصبع رجل مات وهو يدخن!
يقول: “بدأت بجمع أحذية الأطفال من سوق الحرامية، اشتريت أو ل دفعة بمائتي ليرة للحذاء الواحد، بعدها رفع الباعة سعر الأحذية، باتت سلعة رائجة، أحذية لأطفال مجهولين، هل ماتوا؟ هل هاجروا؟ هل سرق أحد أحذيتهم؟ كل الإجابات غير مهمة، لأن كل الخطوات تشد سيرها على أرضية من رمل وسماء ملوثة بالدم. ولتأكيد الموت نثر الفنان لون الدم على لوحاته بطريقة غرافيكية اختصاصية”.
أحضر الفنان رملا بحريا حقيقيا ليستكمل تصميم صوره، واستخدم ورق القطن النقي والموصوف بالنبيل. مصدر الورق من اليابان، يبقى مكتملا ومحافظا على قوامه ولونه وجماله لمئة عام, الطباعة مكلفة جدا لأنها ذات مستوى حرفي وفني عال ومكتمل، الإطارات صنعها الفنان بنفسه ودهنها بتقنية عالية، يقول: “أنا أحب النجارة، ويعتبر أن إنجاز العمل المتكامل يخلق متعة خاصة ويمنح شعورا بالرضا”.

قساوة الصور
عبر غالبية زوار المعرض عن قساوة الصور. بعضهم زار المعرض أكثر من مرة، وأحد الفنانين الكبار عانق الفنان صاحب المعرض وبكى بشدة. موضوع الصور قاس وعنيف، وتصميمها أنيق وملفت وجميل. “كيف يترافق كل هذا الجمال بكل هذا الموت؟”، إنه ليس سؤالا. الجواب: “هل ثمة مانع فني من تقديم صور الموت بفنية عالية؟ إنه سؤال جدلي مشبع بالرهبة ومدعوم بالإحساس والتقنية”.
توقفت إحدى الزائرات أما صورة عصفور بدا وكأنه عصفورة فتية ترتدي ريشها كفستان أصفر زاه ومنعش. بدا الفستان قصيرا ووجهة قدمي العصفورة تبدوان وكأنهما تتجهان لموعد حب. برزت الصورة الموجعة في قلب الزائرة. العصفورة تشبه الموتى من الشباب والشابات حين نلبسهم بدلات الزفاف في توابيتهم. سألت الفنان عن توافقه مع رؤيتها، ارتعش وقال: “لم أفكر بذلك، لكن ما يحضر على الصورة الآن هو الحالة الفعلية والجسدية للعصفور الميت”. هنا المشكلة إذن، من يعيش الموت كتجربة يومية ومجانية يشغل خياله في تجميل الراحلين ليقول “كم أن الموت غاشم ومتوحش”. يبالغ في تضخيم عبثية الموت، وكأنما يعاتبه قائلا: “ألم تجد غير حياة العرسان لتقصفها أيها الموت الوغد”.

رضا بعد تردد
عبر الفنان زغلولة عن رضاه عن المعرض مع أنه كان مترددا في البدلية, يرى أن التصوير ليس مجرد لوحة، بل تكوين، ويضيف: “بأننا نعيش في العصر الرقمي والتقنيات هي المستقبل، لذلك من الطبيعي استخدام أحدث التقنيات وبنفس الوقت التركيز على تفاعل المتلقي والمتابع، وانتزاع إعجاب أو دمعة، أو شهقة”.
يسعى زغلولة لتشكيل موسوعة فوتوغرافية تؤسس لبصيرة فوتوغرافية حسب قوله، ويعتبر أن كل معرض هو “مسؤولية كبيرة وعمل شاق وصعب”، ويختم قائلا: “لا مزح مع العين، بمعنى أننا لا نستطيع خداع العيون أو الاستخفاف بها”.
في مواجهتنا المباشرة مع صور الموت، تدور حرب جديدة، طازجة وحية، تحترب الصور وينفعل المتفرج. يخاف من علامة طلقة على جسد، يبتعد وكأنما الطلقة موجهة نحوه. تشتعل حرب الصور، رغم أنها ثابتة في أمكنتها على الجدران. يهتز الرمل وينحسر البحر وتشخر قذيفة، تفوح رائحة نسيس سيجارة أطفئت لتوها ورغما عنها، يتعثر طفل مصاب أو تائه بحذاء مشترى من سوق الحرامية لضيق ذات اليد، لكننا نعجز عن وصف صورة مليئة بالموت بالجميلة، الحرب حاضرة وحرب الصور لغتنا البليغة.

دمشق
18 تشرين الثاني 2021

مواضيع ذات صلة

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

طيب تيزيني اسم أكبر وأهم من أن نُعرِّفه عبر سطور أو صفحات قليلة؛ لأنه جسَّد أفكاره تجسيداً عملياً، فكانت مؤلفاته تفيض من تفاصيل حياته ومواقفه الإنسانية والسياسية، وكانت حياته ومواقفه وبحق تعبيراً صادقاً عن أفكاره وفلسته، فكان فيلسوفاً بل حكيماً بكل ما تعنيه هذه...

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 خلال مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء، والتي استمرت لأكثر من نصف قرن، أبدَعَ مدرسة لحنية وغنائية متفردة وغنية ومتكاملة، تركت بصمتها المؤثرة في تاريخ الموسيقى العربية، وقد ساعدته موهبته في الغناء في فهم طبيعة الأصوات التي لَحَّن لها، فكان يُفصِّل اللحن على مساحة...

جُرح في الزوبعة

جُرح في الزوبعة

كانت حياة أنطون سعادة القصيرة (1904-1949 م) أشبه بدورة الإله بعل في الميثولوجيا الكنعانيّة القديمة، فبعل الذي يموت ويولد على نحوٍ أبديٍّ، وفقاً لـ"ألواح أوغاريت"، يرمز إلى "بلاد كنعان" أو "فينيقيا" تبعاً لتسميتها اليونانيّة القديمة، هذه البلاد التي مهما حاقَ بها من...

مواضيع أخرى

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

لشهر رمضان في سوريا عاداتٍ وطقوسِ اجتماعية وإنسانية، حرصت العائلات السورية على توارثها والتمسك بها عبر عشرات السنين، حتى تحولت إلى ما يشبه التراث الاجتماعي، ومن أشهرها "سِكبة رمضان" التي  تخلق حالة من الألفة والمحبة والتكافل الاجتماعي بين الناس، الذين يتبادلون...

“عيدٌ بأية حالٍ عدتَ؟”: غلاءٌ وعوائل حزينة

“عيدٌ بأية حالٍ عدتَ؟”: غلاءٌ وعوائل حزينة

لطالما يسخر السوريون من أنفسهم حين يكررون في كل عيدٍ الشطر الأول من قصيدة المتنبي "عيدٌ، بأية حالٍ عدتَ يا عيد؟"، ربما كان معظمهم يعلم شطره الثاني: "بما مضى أم بأمرٍ فيك تجديد"، وأنّ تشابه أيامهم بات فيه من السخرية الكثير، ولكنّ لا شك-أنّ معظمهم لم يكمل القصيدة، لا...

الجمعيات الخيرية: المنقذ الرمضاني في غياب الدعم الحكومي

الجمعيات الخيرية: المنقذ الرمضاني في غياب الدعم الحكومي

مع بدء الحرب السورية تمكنت المؤسسات والمنظمات غير الربحية المندرجة تحت مظلة المجتمع المدني من إثبات وجودها وترك بصمتها على أرض الميدان، فكانت الجمعيات الخيرية والمبادرات الفردية الإنسانية أولى الجهات غير الرسمية التي استطاعت توسيع دورها على خارطة العمل وإنقاذ الفئات...

تدريباتنا