تدريباتنا

حسان عباس في ذاته المغايرة

بواسطة | مارس 7, 2021

نعتَ شاعرُنا العربي الكبير المتنبي الموتَ بالغدر، واعتبره أيضاً ضرباً من القتل، في بيته الشهير الذي يقول فيه:
إذا ما تأمَّلْتَ الزمانَ وصرفَه
تَيقَّنْتَ أن الموتَ ضربٌ من القتل
وهو فعلاً نوع من القتل حين يستهدفُ شخصيات فكرية وإبداعية لم تتوقف يوماً عن العمل من أجل تغيير المجتمع نحو الأفضل باذلة من أجل ذلك الغالي والرخيص، ومفضلة حياة المنفى على حياة الذل والخضوع. وإذا لم يمتلك المرء إيماناً دينياً من نوع ما سيبدو له الوجود لعبة ومسرحاً عبثياً لموت متواصل، فيما الحياة الحرة الكريمة، حياة الحقوق والمواطنة والاختيار، حياة التغيير والتجدد شبه منعدمة، والسبب في ذلك طبيعة النظام الاستبدادي السائد، وطبيعة جزء كبير من الفكر السياسي المعارض السائد والاثنان لا يكفان في منطقتنا عن الصدور عن بنية واحدة، أو بحسب الفكرة الألتوسيرية، عن البنية الإيديولوجية والتي يحدث فيها تواطؤ مريب: أي تتواطأ العائلة والمدرسة والإعلام والمسجد والنقابات والأحزاب التوفيقية والقوانين والمنظومات والعادات والتقاليد والأجهزة القمعية بمختلف أنواعها في تشكيلها، وبالتالي تسهم في ولادة الإنسان الممتثل والخاضع والخائف من التغيير والقابل للواقع السائد بكل إكراهاته، وهكذا يخرج الحاكم وكثير من معارضيه من المنظومة نفسها. إلا أن هذا يجب ألا يكون مدعاة للتشاؤم والسوداوية وموت الأمل، بل يجب أن نكون كما قال المسرحي السوري العظيم سعد الله ونوس محكومين بالأمل، وإذا كانت البنية تتحكم وتُنتج وتفرض نظرة الإنسان إلى الوجود والثقافة التي تحد من خياراته، وتدعوه للامتثال إلا أن وعيه لذاته وتمرده عليها، وبالتالي تمرده على البنية – الرحم يؤدي إلى ولادة ذاته المغايرة كإنسان حر رافض لذاته كنتاج للبنية، وبالتالي ولادته وانبعاثه من ذاته القديمة الموروثة في ذات جديدة، ذات الإنسان الرافض للواقع السائد والمنادي بتغييره. هذه الولادة الجديدة للذات السورية المغايرة حقّقها وجسّدها حسان عباس، الذي توفي أمس إثر صراع مع مرض عضال، مات لكنه وُلد في الفكر المتحول والذي لا يموت والذي هو وحده القادر على إنقاذ سوريا من الموت. فقد رفض أن يكون نتاج البنية التقليدية التي تصنع الإنسان الممتثل المهادن والقابل للأمر الواقع، وقرر أن يكون ذاتاً جديدة تنادي بالتغيير، وبالتالي كان صوت ذاته الجديدة والتي وضعتْهُ على المسار الفكري الصحيح، مسار نقد الأوضاع السائدة وتأصّلها في الثقافة الموروثة، وحين حدثت الانتفاضة السورية أعلن على الفور وقوفه مع خطها المدني لكنه لم يهادن الخطوط الأخرى التي التهمتها وحافظ على موقفه النقدي مشدداً على دور الكتاب والتربية والتعليم والإبداع الفكري والأدبي والفني الموسيقي والسينمائي والعمل الثقافي الدؤوب القائم على البحث المعرفي في خلق ثقافة تنويرية بديلة هي التي ستنقذ المنطقة من التهاوي المتواصل في ظلام الاستبداد والفكر الأصولي.

كانت معرفتي بحسان عباس جيدة جداً، وحين كان في المعهد الفرنسي، وجه لي دعوة مع بعض الشعراء الشباب الآخرين لإحياء أمسية شعرية ونقاش مفتوح مع الحضور، كانت هذه أول أمسية شعرية لي في دمشق، وبالتالي أن تكون الدعوة موجهة من حسان عباس فهذا يعني أن هناك سبباً وراءها والسبب هو أنه كان يؤمن بالعمل الثقافي والإبداعي وبضرورة دعم المواهب الشابة ووضعها في سياق ثقافي مختلف في وقت كانت فيه المراكز الثقافية الرسمية (باستثناء بعض المراكز التي لعبتْ فيها المبادرات الشخصية دوراً لافتاً) لا تعبر عن نبض الإبداع السوري، لا يعني هذا أن المعهد الفرنسي يجب أن يكون بديلاً، بل أنه قد يكون بديلاً مهماً حين تكون فيه قامة مهمة كقامة حسان عباس، تفهم ألاعيب القوة وتعرف كيف تفتح منافذ الاستقلالية والخصوصية. ولم يتوقف الأمر هنا، فقد كان حسان عباس شعلة ثقافية حية استطاعت أن تؤسس لجو ثقافي بديل في وقت كانت فيه روح الشباب تبحث عن منافذ لها خارج التدجين الثقافي العام الذي سُلط عليه سيف الرقابة.
لم يكن حسان عباس في أيامه الأخيرة متفائلاً كما كان في ٢٠١١، لكنه حين رأى أن الحل الأمني سلك طرقاً شرسة وعنيفة أدت إلى وأد النزعة المدنية وتحويلها إلى تيار ديني متطرف، وبعد أن تحولت الصرخة المدنية إلى خطبة دينية، وانفتح باب العسكرة على مصراعيه، ووُلد التطرف الديني ودخل مالُ النفط الخليجي على الخط واشتُريت الذمم واستُلبت الإرادات، وأُفْسدت النفوس وتفككت الدولة وفقدت أراضيها وتجسدت في ميلشيات وتجسدت المعارضة في جماعات أصولية يقودها أشخاص على صلة بالقاعدة، وصار الحلفاء أصحاب القرار في البلد، لم ير حسان عباس المستقبل مشرقاً ومضيئاً، وتحدث في حوار أجراه معه منذ مدة قصيرة ”معهد حرمون للدراسات المعاصرة” عن ”مشهد عبثي“، ولم ير أية صورة مشرقة وردية لمستقبل سوريا القريب، وكان الشيء الوحيد الذي تخيله صورة كارثية تعكس بلداً ممزقاً دولته فاشلة وسيادته مُنتهكة ومجتمعه متصدّع طائفياً واقتصاده منهار ويواصل انهياره. غير أن حسان عباس لم يكن من النوع المتشائم وهذه ميزة المثقف العضوي التغييري المحب لشعبه، لهذا نوه في الحوار نفسه أن الصورة العبثية التي يتحدث عنها هي صورة سورية في المستقبل القريب، وليست سورية المستقبل، التي يجب أن يعمل السوريون الحقيقيون على أن تُعمَّر من جديد، وبإرادة سورية مستقلة، بعيداً عن الإملاءات الخارجية. ولهذا كان حسان عباس يرى منذ البداية، أي منذ بداية كتاباته حول الشأن السوري أن العمل الثقافي التنويري هو الجوهر الأساس في كل شيء، إذ لا يمكنك أن تغيّر مجتمعاً إذا لم تُغير رؤيته للعالم والحياة، إذا لم تُفْهمهُ أنه ما يزال تحت المجتمع، وأن عليه أن يكون مجتمعاً بالمعنى الحقيقي والمدني للكلمة. وكي تغير هذه الرؤية عليك أن تكون مخلصاً للمبدأ الفلسفي اليوناني: اعرفْ نفسك، و أن تفكر بكيفية ولادة ذوات جديدة، ذوات قادرة على أن تتمرد على نفسها كنتاج للبنية اللاشعورية، ذوات لا يمكن أن تعاود المنظومات القديمة إنتاج نفسها من خلالها وبالتالي هي ذوات تنويرية تمتلك رؤية جديدة للتغيير، تتمرد على نفسها وتتحرر وتُجسِّد أخلاق الحقيقة ومقاومة الاستبداد السياسي والتطرف الديني، ولا مستقبل لسوريا إلا بتحطيم هذه البنية والتي صارت في منطقتنا، نبع الاستبداد والتطرف سواء أكان يرتدي بدلة العلمانية أم عباءة دينية.
قضى حسان عباس لكن آراءه  لن تموت وهي التي أبدعتها ذات حقيقية مغايرة أنجبت نفسها في سياق البحث عن الحقيقة وفي تجسيدها للصوت المقاوم لكل أشكال الاستبداد والتخلف، وهي دوماً ستشكل زوادة لكل مُنْجبٍ لنفسهِ وصاقلٍ لها، ولكل رحالة على دروب التغيير السياسي، ولكل باحث عن الحقيقة خارج المسرح الإيديولوجي المليء بالأكاذيب والتشويهات، مسرح العبث السوري حيث الخريطة نفسها تبدو كما لو أن خطوطها تتحرك بشكل سريالي أو تدور كدواليب اليانصيب فلا نعرف على ماذا سيتوقف الرقم أو إذا كان سيتوقف في المستقبل القريب.
قضى حسان عباس من ورم خبيث غير أنه لم يكن رقماً عابراً، كان صوتاً منقذاً ومداوياً، هذا الصوت الحر الذي، في سيمفونية إبداعية وحرة مع أصوات سورية أخرى حرة مُنقذة، سيظل يعمل على مداواة الجسد السوري من ورم الاستبداد والتطرف.

مواضيع ذات صلة

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

مواضيع أخرى

النساء ومعاركهن المتجددة

النساء ومعاركهن المتجددة

 يتم تسويف قضايا النساء بذرائع متعددة على الدوام، مرة بذريعة الحرص على الأخلاق العامة، ومرة أخرى بذريعة عدم المواجهة مع قوى الأمر الواقع، ومرات بذرائع تنبع فجأة من خبايا السنين وتصير حاضرة بقوة مثل طبيعة المرأة البيولوجية، أو التشريح الوظيفي لدماغ المرأة، وصولاً...

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

تمر سوريا اليوم بمرحلة فارقة في تاريخها، حيث يقف الجميع أمام اختبار صعب: هل يمكن تجاوز إرث القهر والاستبداد لبناء دولة جديدة قائمة على الحرية والكرامة؟ أم أننا سنتعثر مجددًا في أخطاء الماضي، التي صنعها الخوف، الصمت، وصناعة الأصنام؟ اليوم، نحن في حالة فراغ سياسي...

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

شهدت سوريا خلال أربعة عشر عامًا من الصراع تحولًا جذريًا في موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية. بدأ الحراك شعبيًا وسلميًا، لكنه انتهى بصراع مسلح معقد ومدعوم خارجيًا، في ظل غياب قوة سياسية مؤثرة ميدانيًا. وبينما ساندت روسيا وإيران النظام السوري، مما أطال أمد...

تدريباتنا