تدريباتنا

حيلٌ ومحاولاتٌ لمقاومة الفقر والجوع

بواسطة | أبريل 8, 2023

بحسب بعض التقديرات الحالية تحتاج العائلة السورية، المكونة من خمسة أفراد، إلى نحو مليوني ليرة شهرياً لتتمكن من تأمين حاجاتها المعيشية الأساسية، فيما لا يزال متوسط دخل الموظف الحكومي 150 ألف ليرة، ومتوسط دخل موظف القطاع الخاص بين 250 و400 ألف ليرة، وهو ما أدى لانعدام القدرة الشرائية، في ظل ازدياد معدلات التضخم التي تفاقمت خلال العام الماضي، الذي كان أقسى الأعوام على السوريين منذ اندلاع الحرب، إذ بات نحو 90% منهم يعيشون تحت خط الفقر، وقد احتلت سورية المراكز الأخيرة في سلم الرواتب وتصدرت قائمة الدول الأكثر فقراً في العالم. وفي ظل ذلك الواقع والظروف المعيشية القاهرة لجأ الناس لابتكار العديد من الحيل وحلول التأقلم والبدائل المعيشية المرتجلة، في محاولة لمقاومة الفقر والجوع وتوفير بعض متطلبات حياتهم. 

نماذج من التكافل الاجتماعي 

في سبيل دعم ومساندة بعضهم البعض، يقدم الكثير من الناس اليوم نماذج عديدة من التكافل الاجتماعي التي تبرز، على سبيل المثال، في بعض البقاليات ومحلات الخضار والفاكهة، فعند دخولك إلى محل أبو ماهر (51 عاماً) ستجد على يمينك صندوقاً كبيراً مغلقاً، له فتحة عُلوية بقُطر 15 سم، يقوم معظم الزبائن من خلالها بوضع قطعة أو أكثر من الخضار والفاكهة، التي يشترونها، داخل الصندوق الذي يتم توزيع محتوياته على عددٍ من العائلات الفقيرة. وإلى جانب ذلك يوزِّع أبو ماهر بشكلٍ يومي نحو عشرة كيلو من الخضار والفاكهة مجاناً على بعض الفقراء، فيما يبيع بعضها بنصف السعر أو برأس المال.

 وفي حالة مشابهة يحدثنا أبو حسن (59 عاماً) عن بعض حالات التكافل التي يُعاينها بشكل يومي داخل بقاليته: “بعض الزبائن يشترون، إلى جانب حاجياتهم، كميات إضافية من الخضار والفاكهة، ثم يتركونها لكي أقوم بتوزيعها على بعض من يعجزون عن الشراء، فيما يتبرع زبائن آخرون ببعض المال لأوزع بقيمته بعض الحاجات المعيشية الضرورية. وفي الليل أضع على الرصيف بقايا الخضار الصالحة للأكل داخل بضعة كراتين حيث يَمُر بعض الفقراء ليأخذوا منها ما يريدون”. ويضيف: “كل حين يأتيني أحد فاعلي الخير بعددٍ من ربطات الخبز ليتم  توزيعها على المحتاجين، كما يتبرع بعض الناس، رغم فقرهم،  ببعض المواد الغذائية والمؤن التي يأتون بها من بيوتهم لكي يقدموا من خلالها العون لبعض العائلات الفقيرة التي أرى العشرات منها كل يوم”. 

وفي محل بيع الحقائب والإكسسوارات التي تعمل به، تقوم ريم (39 عاماً) بمبادرة إنسانية، تحدثنا عنها: “كثير من الأصدقاء والأقارب والمعارف يأتون إلي ببعض الثياب والأحذية، التي يمكنهم الاستغناء عنها، أو التي يجمعونها بدورهم من أماكن مختلفة، حيث أقوم بفرزها وترتيبها داخل المحل قبل توزيعها على بعض المتسولين والمحتاجين الذين يأتون إلى المحل كل حين ليأخذوا ما يحتاجون منها، كما أقوم بتوزيع جزء منها عن طريق بعض الأشخاص الموثوقين الذين يقدمون الدعم لبعض العائلات”.

ولا تكتفي ياسمين بتلك المبادرة بل تقوم، أسوة بغيرها من أصحاب الأيادي البيضاء، بتأمين الدعم المالي لبعض العائلات، حيث تقول: “بشكلٍ شهري يرسل لي أحد الأصدقاء المغتربين 800 ألف ليرة فأدفعها إيجاراً لثلاثة منازل تقطنها عائلات نازحة ومعدمة، فيما يتكفل صديقٌ آخر بإرسال 700 ألف ليرة أُغَطي بها بعض نفقات المعيشة لعائلتين ليس لديهما أي معيل”.

التعاون بين الجيران 

بات كثيرٌ من الجيران اليوم يساندون بعضهم ويتعاونون على تحمل أعباء المعيشة القاسية، فيتقاسمون ويتبادلون بعض الأطعمة والمواد الغذائية والمؤن والحاجات الضرورية فيما بينهم. وتحدثنا أم عدنان (44عاماً/ زوجة وأم لثلاثة أبناء) عن التجربة التي تعيشها مع جارتيها: “أصبحنا أشبه بعائلةٍ واحدة، نجتمع على تحضير معظم الطبخات المُكلفة والتي تحتاج لمواد كثيرة، فنتقاسم تكاليفها نحن الثلاثة (كلٌّ حسب إمكانياتها وحسب المواد المتوفرة لديها) ونقوم بطهوها في بيت إحدانا، ثم نوزعها فيما بيننا، وبذلك نوفِّر مصاريف كبيرة ونتمكن من تحضير بعض الأطعمة التي غادرت مطابخ معظم الناس. كما نقوم أيضاً، بشكل أسبوعي، بإعداد طبقٍ من الحلويات المنزلية البسيطة، حيث نتقاسم مقاديره ونشترك معاً في تحضيره”. وتضيف: “في كثيرٍ من الأحيان نلجأ نحن الثلاث وجارات أُخريات لمقايضة بعض المواد الغذائية والحاجات المعيشية فيما بيننا، كأن نقايض كمية من الأرز بكمية من السكر، أو بعض المنظفات بكيس معكرونة، أو مرطبان مكدوس بعبوة زيت زيتون.. الخ”.   

وعندما أرسل إليها أحد أقربائها الذي ذبح خروفاً احتفالاً بقدوم مولوده-  كمية من اللحم رفضت أم عدنان تناوله مع عائلتها بمفردهم، بل قامت بمشاركته مع جاراتيها وعائلتيهما، بعد أن قمن بطهوه مع بعض الخضار والأرز، حيث كانت العائلات الثلاث لم تتذوق طعم لحم الخروف منذ عدة أشهر. 

وفي ظل ظروف البرد القارس وصعوبة توفير المازوت أو الحطب، قامت عائلة  أبو مصطفى (49عاماً/ يعمل في مهنة العتالة والأعمال الحرة) بالتعاون مع عائلتين من الجيران بإيجاد حلٍ تشاركي للحصول على بعض الدفء. يحدثنا أبو مصطفى عنه :” نعيش نحن وجيراننا وجميعنا نازحون- في شققٍ غير مكسية (على العظم). في الطابق الذي نسكنه يوجد شقة فارغة سمح لنا صاحبها باستخدامها، فقمنا بإغلاق جميع النوافذ والأبواب والثقوب في صالون الشقة، بعد تنظيفه من مخلفات البناء، ووضعنا فيه مدفأة حطبٍ كبيرة نستخدمها جميعنا، ونتناوب فيما بيننا على تأمين الحطب أو أية مواد يمكن إشعالها. نوقد المدفأة بضع ساعاتٍ في النهار ونجلس خلال فترة المساء والليل بالقرب منها، نحضِّر الشاي على نارها ونتسامر ونتبادل أطراف الحديث حتى يأتي موعد النوم فيعود كلٌّ منا إلى شقته”. 

 وإلى جانب ذلك قام أبو مصطفى بالاشتراك مع بعض سكان البناية بشراء مولدة كهرباء صغيرة مستعملة، تقاسموا جميعهم ثمنها، حيث يستخدمونها، بالتناوب فيما بينهم، في تشغيل مضخات المياه وفي شحن هواتفهم وبطاريات الإنارة البديلة. 

البحث عن الاكتفاء الذاتي

ليس غريباً أن نجد بعض سكان الأرياف يلجؤون، في محاولةٍ لتحقيق بعض الاكتفاء الذاتي، إلى تربية الدواجن وزراعة بعض الخضروات، لكن الغريب أن نجد بعض سكان المدن يقومون بذلك الأمر، كحال عامل التمديدات الصحية خلدون (45 عاماً/ زوج وأب لأربعة أبناء) الذي يُطلعنا على تجربته: “في السابق كانت شرفة منزلي، رغم صغر مساحتها، تزدان بالكثير من أصص الورود والأزهار ونباتات الزينة، ونتيجة تردي الواقع المعيشي وانعدام قدرتي الشرائية لجأت لزراعة بعض أنواع الخضار الضرورية (بندورة، خيار،بطاطا، كوسا، وغيرها) في أحواض النباتات   -التي تم اقتلاعها بعد دعم التربة ببعض الأسمدة العضوية والمعادن، كما قمت بزراعة البصل والبقدونس والنعناع والجرجير في بعض الأصص والطناجر القديمة وصناديق الفلين التي قمت بتثبيتها على درابزين الشرفة وعلى جدرانها بشكل عمودي، وهكذا تمكنت من استثمار المكان بشكل جيد وحققت إنتاجاً لابأس به”. 

وفي مكان آخر قام الموظف أبو يوسف (52 عاماً/ زوج وأب لستة أبناء) بابتكار مشروعٍ مثيرٍ للإهتمام على سطح منزله، يحدثنا عنه: ” قمت بنقل عشرات أكياس التراب، من إحدى المساحات الترابية القريبة إلى سطح المنزل، وأفرغتها داخل الأحواض، التي صنعتها من قطع الطوب ومن التنكات والصناديق وبعض الأواني القديمة، وقد زرعت تلك الأحواض بأنواع مختلفة من الخضار والحشائش. ورغم الجهد والتعب الذي عانيته خلال تلك العملية إلا أن النتيجة كانت مُرضية بشكل كبير”.

وفي مساحة صغيرة، ملاصقة للأحواض المتوزعة على سطح المنزل، بَنى أبو يوسف قناً صغيراً للدجاج، وضع حوله سياجاً، يربي بداخله نحو عشر دجاجات تؤمن له البيض بشكل يومي، يُطعمها بقايا الأطعمة والخضار والخبز اليابس.  

اللجوء إلى المقايضة  

في ساعات الصباح تَمرُ أم حسام (46 عاماً) القادمة من الغوطة، على عددٍ من البقاليات لتوزع ما تحمله من منتجاتها الزراعية (السبانخ والبصل الأخضر والبقدونس وغيرها) التي تزرعها في أرضٍ صغيرةٍ ملاصقة لبيتها، حيث تقوم بمقايضة تلك المنتجات ببعض السلع  المعيشية الضرورية التي تحتاجها عائلتها (سكر، أرز، شاي، زيت، سمنة.. الخ) فيما تقوم أختها التي ترافقها بمقايضة بعض منتجات الألبان والأجبان (التي تصنعها في بيتها) والبيض البلدي الذي تنتجه دجاجاتها. وبعد الانتهاء من عمليتي التوزيع والمقايضة، تجلس الأختان على أحد الأرصفة وتفترشان ما تبقى من منتجاتهما لتقوما ببيعها للعابرين. وعلى الرغم من  الانتشار الكبير لبسطات الفلاحين في الشوراع لجأ الكثير منهم في الآونة الأخيرة (نتيجة تراجع كميات البيع وصعوبة البقاء في الشوراع لساعات طويلة) لطريقة المقايضة، التي فرضتها صعوبات الواقع المعيشي،  فيما بات كثيرٌ من  الفقراء يتعاملون مع بعض البقاليات والبسطات عبر توفير أنواعٍ مختلفة من المنتجات المصنعة منزلياً (المخللات، الزيتون، المربيات، المكدوس ودبس الفليلفة وغيرها) بغرض عرضها للبيع أو مقايضتها ببعض السلع والخضار والفاكهة.

بعض المظاهر الغريبة في الشوارع 

في الآونة الأخيرة وفي ظل ارتفاع أجور المواصلات بات بعض الناس يذهبون إلى أعمالهم وزياراتهم سيراً على الأقدام، فيما نجد من يشتركون في ركوب سيارة الأجرة لكي يتقاسموا تعرفتها فيما بينهم، على الرغم من هدر وقتهم في انتظار تجَمُّع عدد الركاب المطلوب. وفي ظل أزمة المحروقات واضطرار معظم سائقي التكاسي إلى شراء البنزين من السوق السوداء (سعر الليتر بين 15 و20 ألف ليرة) تحول بعضهم للعمل في خدمة “تاكسي سرفيس” حيث يقفون في مواقف الباصات والساحات، بدلاً من التجول في الشوارع، ليجمعوا عدداً من الركاب، وهو ما أثَّر بشكل كبير على حجم عملهم. ونتيجةً للأزمة ذاتها وفي ظاهرةٍ غريبة لجأ بعض أصحاب السيارات الخاصة (الذين تدهورت أوضاعهم المعيشية) لتحويلها إلى سيارات أجرة، فأصبحوا ينافسون التكاسي والسرافيس ويقفون في مواقفهم لينقلوا بعض الركاب، وأحيانا يستوقفونهم  في الطريق ليعرضوا عليهم خدمات النقل. ولا يقتصر الأمر على أصحاب السيارات الخاصة فبعض أصحاب الدراجات النارية حَوَّلوا دراجاتهم إلى وسائط للنقل، إذ يقومون بنقل بعض الباحثين عن وسيلة مواصلات في الساحات والشوارع.

رغم الأزمات المتعاقبة خلال سنوات الحرب وما بعدها، ورغم مرارة عيشهم المليء بشتى أشكال القهر والعذاب، يُثبت السوريون يوماً بعد يوم أنهم  قادرون على فتح آفاقٍ جديدة للحياة، التي تضيق في وجههم، وأنهم يمتلكون مهاراتٍ خارقة واستثنائية في التعامل مع الأزمات، وفي تجميل بشاعة واقعهم المؤلم.   

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “إرادة المقاومة اليومية في سوريا لدى المواطنين العاديين

مواضيع ذات صلة

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

 "كنت أحلم بلوحةٍ تستطيع أن تخاطب بجمالياتها شريحة أوسع من الناس، لوحة تستطيع تجاوز مجموعة الجمهور التي تتكرر في حفل الافتتاح لأي معرض". ربما توضح تلك الكلمات، وهي للفنان نذير نبعة، مدى تبنيه وإخلاصه للفن، الذي كان رفيق دربه لأكثر من ستين عاماً، فهو الفنان الذي...

مواضيع أخرى

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

رغم انتشار ثقافة المطالعة واستقاء المعلومات عن طريق الشبكة العنكبوتية إلا أن ملمس الورق ورائحة الحبر بقيا جذابين للقارئ السوري. ولم تستطع التكنولوجيا الاستحواذ على مكان الكتاب الورقي، أو منافسته. وبقي الكتاب المرجع الأساسي والحقيقي لأي بحث علمي وأكاديمي، ولم يستطع...

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

بقي الريف السوري محروماً من المسرح إلى أن أنشأت مديرية المسارح والموسيقى في وزارة الثقافة ما أسمته "المسرح الجوال" عام ١٩٦٩، والذي بدأ عروضه بنشر الوعي المسرحي في الريف والمناطق الشعبية والنائية. صارت الصالة في كل مكان  والجمهور ضمنها، وكان كسر الحواجز بين...

“وفا تيليكوم”: اتصالات إيرانية على أراضٍ سورية

“وفا تيليكوم”: اتصالات إيرانية على أراضٍ سورية

ينتظر السوريون في الأسابيع المقبلة بفارغ الصبر وفق تصريحات حكومية انطلاق المشغل الخلوي الثالث "وفا تيليكوم" المرتبط بإيران التي ستدخل على خط الاستحواذ في قطاع الاتصالات الحساس والذي ظلّ حكراً على متنفذي السلطة لعقود. من خلال التواصل المباشر مع مصادر متعددة من داخل...

تدريباتنا