تدريباتنا

خمسون ليرة تكشف جنون الحكومة السورية

بواسطة | نوفمبر 12, 2018

“مدينة اللصوص الصغار، الذين يقبض عليهم اللصوص الكبار ويتم ذبحهم في طقوس احتفالية تضج بتصفيقنا ونحن نبكي ونقذف بدموعنا إلى الداخل”، بهذه الكلمات وصفت الكاتبة غادة السمان حال بيروت إبان الحرب الأهلية.

تصلح كلمات الأديبة السورية لوصف حال دمشق اليوم، بعد تداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي لفيديو يظهر فيه وزير الداخلية محمد الشعار، وهو يقوم بجولة مفاجئة في إحدى الدوائر الحكومية، آمراً بإحالة موظف إلى القضاء المختص بعد اكتشاف أنه يرتشي بمبلغ ٥٠ ل.س، أي ما يعادل ١٠ سنتات أمريكية.

يسأل الوزير إحدى المراجعات عن المبلغ الذي تقاضاه الموظف، فتجيبه الفتاة أنه طلب ٦٠٠ ل.س بدلاً من الـ ٥٥٠ ليرة المقررة للتقرير الطبي، لكنها تسامحه بهذه الـ٥٠ الزائدة، إلا أن الوزير يرد قائلا: “إذا أنت سامحتيه فنحن لن نسامحه.”

وأطلق الرئيس السوري بشار الأسد في شهر حزيران – يونيو ٢٠١٧ المشروع الوطني للإصلاح الإداري خلال ترؤسه لإحدى جلسات مجلس الوزراء بمقر الحكومة في دمشق، لكن هل كان يُقصد بهذا المشروع “أصحاب الخمسين ليرة؟”

لا تعتقد الخبيرة الاقتصادية د. نسرين زريق بذلك، وتقول إن “الأحكام والمعايير القانونية وُضعت لضبط الحيتان الكبيرة من الفاسدين، لا لتجريم من يأخذ خمسين أو مئة ليرة”، مؤكدة أن كلامها ليس دفاعا عن المرتشين “فلا شيء يبرر السرقة أو الرشوة لكن إذا أردنا تطبيق القانون، فحبذا لو يطبق على الجميع لنخرج بمظهر الشخص العادل لا المستقوي على الفقير.”

وتعليقاً على التعاطف الكبير الذي ناله الموظف من قبل الجمهور السوري، قال المحامي كمال سليمان إن “تعاطي السوريين مع موضوع الفساد والعلاقة بين الفاعل والضحية يذكرني بمتلازمة ستوكهولم، وهي ظاهرة نفسية تصيب الفرد عندما يتعاطف أو يتعاون مع عدوه أو من أساء إليه، و يظهر بعض علامات الولاء له” مشيرا إلى أن “إحدى الفرضيات التي تفسر هذا السلوك، هو أن هذا الارتباط بمثابة استجابة الفرد للصدمة وتحوله لضحية.”

وعن تفسير التعاطف الجماهيري مع الموظف، اعتبر الصحفي طارق ميري أن “الجمهور السوري لم يتمكن من المشاركة في مسرحية بطلها مسؤول كبير، والشخص السيء فيها مواطن يشبههم، لذلك امتلأ الفيسبوك بعبارات التضامن مع الموظف المسكين حتى لو كان مرتشيا فهو ضحية للحرب والفقر، وهو أيضا بحاجة إلى دفع أقساط وفواتير وخبز ودواء لعائلته.”

بدوره كتب الصحفي صدام حسين في صفحته على فيسبوك أن على المسؤولين القيام بواجباتهم قبل يحاسبوا الناس، موضحا أن “راتب الموظف بأحسن الأحوال يصل إلى ٤٠ ألف ل.س، وفي حال كان لديه ثلاثة أولاد وبيته بالأجار سيحتاج إلى ٣٠٠ ألف ليرة شهريا ليعيش كإنسان طبيعي، وإذا أخد رشوة ٥٠ ليرة من كل مراجع سيحتاج إلى إنجاز ٥٠٠٠ معاملة بالشهر ليعوّض النقص في راتبه وهذا من حقه.”

المثال الذي طرحه حسين يكاد ينطبق على الموظف الذي ظهر في فيديو “الخمسين ليرة” حيث كشف موقع “هاشتاغ سورية” أن الشخص الذي أمر وزير الداخلية بتحرير ضبط بحقه هو “محمد رياض بطل” – ٥٩ عاما – مندوب نقابة الأطباء في فرع مرور حلب، وهو يتقاضى راتباً شهرياً قدره ٣٨ ألف ل.س، ولديه أربعة أولاد، ويقطن مع عائلته في منزل بالأجار.

ولم يتوقف الحظ السيء لوزير الداخلية عند التعاطف الكبير الذي تلقاه الموظف من قبل السوريين، إذ تبين لاحقاً وجود قانون يسمح لمندوبي النقابة بتقاضي نسبة لا تزيد عن ١٥% أي ٦٣٢ ل.س من التسعيرة الرسمية، وبالتالي فإن ما تقاضاه معتمد النقابة هو ضمن الحد المسموح به من قبل نقابة الأطباء المركزية، فالسؤال هنا هل يعتذر الوزير الشعار من المواطن الـ “بطل” أمام الكاميرات أيضا كما أهانه أمامها سابقا؟

والجولات التفقدية للمسؤولين عادة قديمة، فثاني الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب كان يخرج إلى شعبه ليرى كيف يعيش، لكن دون حاشية حيث كان يتجول بينهم “متخفيا”، وفي عام الرمادة “المجاعة” جمّد الفاروق عقوبة قطع يد السارق من مبدأ “إذا جاءني سارق قطعت يده، وإن جاءني جائع قطعت يد ولي الأمر أو رفعت الحد عنه لتغير الظرف.”

وحال السوريين اليوم ليس بأفضل من حال المسلمين عام “المجاعة”، حيث كشف تقرير أعدته كل من اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا التابعة للأمم المتحدة (الأسكوا) وجامعة سانت أندروز عام ٢٠١٦ إلى أن نحو ٨٣،٤ بالمئة من السوريين يعيشون تحت خط الفقر مقارنة بـ ٢٨ بالمئة عام ٢٠١٠.

في النهاية نُذكّر بالقصة الشعبية التي تقول: “عندما تبدأ زوجة الناطور بتنظيف المبنى من الطابق الأرضي صعودا نحو الأعلى كانت توصف بالمجنونة لأن الأصح أن تبدأ عملها من الطابق الأخير نزولا”، فهل الحكومة السورية مجنونة؟

مواضيع ذات صلة

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

طيب تيزيني اسم أكبر وأهم من أن نُعرِّفه عبر سطور أو صفحات قليلة؛ لأنه جسَّد أفكاره تجسيداً عملياً، فكانت مؤلفاته تفيض من تفاصيل حياته ومواقفه الإنسانية والسياسية، وكانت حياته ومواقفه وبحق تعبيراً صادقاً عن أفكاره وفلسته، فكان فيلسوفاً بل حكيماً بكل ما تعنيه هذه...

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 خلال مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء، والتي استمرت لأكثر من نصف قرن، أبدَعَ مدرسة لحنية وغنائية متفردة وغنية ومتكاملة، تركت بصمتها المؤثرة في تاريخ الموسيقى العربية، وقد ساعدته موهبته في الغناء في فهم طبيعة الأصوات التي لَحَّن لها، فكان يُفصِّل اللحن على مساحة...

جُرح في الزوبعة

جُرح في الزوبعة

كانت حياة أنطون سعادة القصيرة (1904-1949 م) أشبه بدورة الإله بعل في الميثولوجيا الكنعانيّة القديمة، فبعل الذي يموت ويولد على نحوٍ أبديٍّ، وفقاً لـ"ألواح أوغاريت"، يرمز إلى "بلاد كنعان" أو "فينيقيا" تبعاً لتسميتها اليونانيّة القديمة، هذه البلاد التي مهما حاقَ بها من...

مواضيع أخرى

سوريا: كسوة العيد للأطفال محكومة بالأزمة الاقتصادية الحادة

سوريا: كسوة العيد للأطفال محكومة بالأزمة الاقتصادية الحادة

حرصت عائلات سورية -في أعوام خلت- على شراء الملابس الجديدة قبيل عيد الفطر، وبخاصة للأطفال كي يشعروا بالبهجة والسرور، غير أن التضخم وتراجع القدرة الشرائية، إلى جانب تدني دخل الأسرة بفعل الأزمة الاقتصادية الحادة أثر بشكل سلبي على هذه العادة. في جولة لنا على عدد من...

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

لشهر رمضان في سوريا عاداتٍ وطقوسِ اجتماعية وإنسانية، حرصت العائلات السورية على توارثها والتمسك بها عبر عشرات السنين، حتى تحولت إلى ما يشبه التراث الاجتماعي، ومن أشهرها "سِكبة رمضان" التي  تخلق حالة من الألفة والمحبة والتكافل الاجتماعي بين الناس، الذين يتبادلون...

“عيدٌ بأية حالٍ عدتَ؟”: غلاءٌ وعوائل حزينة

“عيدٌ بأية حالٍ عدتَ؟”: غلاءٌ وعوائل حزينة

لطالما يسخر السوريون من أنفسهم حين يكررون في كل عيدٍ الشطر الأول من قصيدة المتنبي "عيدٌ، بأية حالٍ عدتَ يا عيد؟"، ربما كان معظمهم يعلم شطره الثاني: "بما مضى أم بأمرٍ فيك تجديد"، وأنّ تشابه أيامهم بات فيه من السخرية الكثير، ولكنّ لا شك-أنّ معظمهم لم يكمل القصيدة، لا...

تدريباتنا