تدريباتنا

دمشق…الرسم في الظلام

بواسطة | فبراير 1, 2022

بتحدٍ وإصرار يحاول الرسام عمار (34 عاما) متابعة مشروعه الفني “مجموعة لوحات عن ذاكرة الحرب”، الذي بدأه قبل نحو عام، لكن ظروف الحياة اليومية التي يعيشها تمنعه من تحقيق حجم الإنجاز المطلوب. يقول: “البرد ينخر عظامي ويكاد يُجمِّد أصابعي حتى أعجز عن تحريك ريشة الألوان. الإنارة الخافتة تُشعرني بالكآبة وتمنعني من رؤية ألوان وخطوط اللوحة بوضوح. هل تصدق أن فناناً في هذا العصر يستعين بضوء الشموع أو الهاتف المحمول لكي يرى ما يرسم؟. أنتظر قدوم الكهرباء لأحظى ببعض الدفء وأعد فنجان قهوة. لا غاز في منزلي منذ أسابيع. وما زلت أنتظر صعود المياه إلى بيتي منذ عشرة أيام”.
هكذا يلخص الفنان عمار بعضاً من معاناته اليومية، التي تشبه معاناة كثير من الفنانين في سوريا، وهو الذي لم يغادر البلاد وبقي فيها لكي ينجز بعض مشاريعه الفنية المتعلقة بدمشق وتفاصيلها المليئة بالحكايات والصور، بالإضافة لمرحلة الحرب التي يحاول توثيق بعض مشاهدها وذاكرتها فنياً. ولكن ذلك كله “يحتاج إلى بيئة مناسبة تتوفر فيها، على الأقل، أبسط مقومات الحياة وشيئاً من الراحة الجسدية والنفسية”، بحسب عمار الذي يضيف: “كيف سنبدع وخيالنا محاصر بصور الوجع والحرمان والمنغصات؟. كل شيء حولي يؤذيني ويشوّش على أفكاري ليمنع ذهني من التركيز، فيما يحرمني واقعي الاقتصادي المزري من تحقيق أبسط رغباتي بما فيها زيارة البحر والطبيعة التي يحتاجها أي فنان”.

غياب مقومات الفن
“لدي كثير من الأحلام الفنية التي أتمنى تحقيقها، أريد تنمية موهبتي ومهاراتي عبر استخدام طرق وتقنيات بعض المدارس الفنية (تجريدية، سريالية، انطباعية) التي يمكنني التعبير من خلالها عن أفكاري وتصوراتي، لكن ذلك كله يحتاج لكثيرٍ من المواد والمستلزمات كبعض أنواع الألوان (زيتي، إكريليك، غواش) والقماش والأخشاب وغير ذلك، ونتيجة ارتفاع أسعارها بشكل جنوني أقف عاجزاً عن شراء أردأ أنواعها، حيث ستكلفني أبسط مجموعة ألوان نحو 300 ألف ليرة فيما ستحتاج أصغر لوحة لأكثر من مئة ألف ليرة، وأنا بالكاد أتدبر لقمة عيشي وثمن سجائري”. هكذا يصف الرسام تمام (26عام) واقعه المؤلم الذي حرمه من تنفيذ مشاريعه الفنية وأغلق الآفاق بوجهه ليكتفي باستخدام تقنية الرسم على ورق الكانسون بواسطة قلم الرصاص أو الفحم وذلك لكي يبقى على تواصل مع الفن.
ونتيجة عجزها عن استئجار مرسم، حوَّلَت الفنانة التشكيلية رغد (29 عاما)غرفتها إلى مكانٍ للرسم، حيث تقول: “رغم ضيق غرفتي، التي بالكاد تتسع للسرير والخزانة والمكتبة، أضطر للرسم فيها، حيث تحاصرني اللوحات والأخشاب ومواد الرسم الأخرى الموزعة في كل مكان حولي لتحد من نشاطي وحركتي وتؤثِّر على مزاجي النفسي والإبداعي. وحين أنام تكاد تخنقني، في كثير من الأحيان، رائحة الغراء والألوان الزيتية والمواد النفطية فأضطر لفتح النافذة ليداهمني المزيد من البرد”. وتوضح: “عملي الفني يحتاج إلى مرسمٍ واسعٍ أستطيع أن أتحرك فيه بحرية، وأُعاين ما أرسمه بدقة، وأُعلِّق لوحاتي على الجدران لكي أراها كمشهدٍ واحد، فيما يمكنني دعوة أصدقائي ليطلعوا على تجربتي، لكن ذلك بات شبه مستحيل في هذه الظروف إذ يصل إيجار أي قبوٍ عادي وصغير لنحو 200 ألف ليرة شهرياً، فيما سيحتاج أيضاً لكثير من التجهيزات والمعدات، كالإنارات البديلة وبطاريات الشحن وغير ذلك”.
من جهته، يتحدث النحات عدنان (31 عاما) عن بعض العقبات التي تواجه عمله الفني. ويقول: “انقطاع الكهرباء قتل الكثير من مشاريعي الفنية، التي تحتاج لتشغيل المنشار الكهربائي وأدوات القص والحفر والجلخ وغيرها، فبات عملي يحتاج لاقتناء مولدة كهرباء سيكلفني شراءها أكثر من مليون ليرة وهو مبلغ أعجز عن تدبيره”. ويضيف عدنان: “لكي أنجز بعض الأعمال الضرورية أضطر أحياناً لاستئجار مولدة بتكلفة 20 ألف ليرة في اليوم، فيما تحتاج لأكثر من ثلاثة ليترات مازوت (12ألف ليرة)، وهذا يكلفني نصف ما أجنيه من عملي”.
وإلى جانب ذلك يعاني الفنان عدنان كثيراً، كغيره من الفنانين، في توفير بعض أنواع الأخشاب التي يستخدمها في النحت، حيث غاب معظمها عن الأسواق نتيجة ظروف الحرب وتبعاتها، وتحويل كثير من الأشجار إلى حطب، هذا بالإضافة لتوقف استيراد الكثير من الأخشاب في الفترة الأخيرة، وارتفاع أسعار معظم الأنواع المتوفرة بشكلٍ جنوني.

خيارات بديلة
“يعتاش معظم الفنانون التشكيليون في العالم من مبيعات لوحاتهم وأعمالهم الفنية، لكن هذا الأمر بات من الصعب تحقيقه في بلد كسوريا، حيث تباع الأعمال – هذا إن وجدت سوقاً لها- بأسعار زهيدة تستغل معاناة الفنان الذي بات مهدداً بلقمة عيشه، وذلك في ظل انحسار أعداد المعارض الفنية وتراجع نسبة من يقتنون اللوحات والأعمال الفنية، حيث خسرت البلاد الكثير ممن كانوا يقدرون الفن ويدعمونه”.
هكذا تصف الرسامة عبير (32عاما) واقع الفن الذي أجبرها على التوجه نحو الفن التجاري الذي لا يُعبّر عن هويتها الفنية ولا تشعر نحوه بأي شغف. تقول: “أعمل أحياناً في رسم بعض اللوحات التجارية البسيطة والرائجة كالأعمال الدمشقية والمشاهد الطبيعية وبورتريهات بعض المشاهير، وذلك لكي أتمكن من جمع بعض المال لإنجاز مشروعي الفني الخاص”. ورغم ذلك “لم تعد تلك الأعمال تحقق مبيعات جيدة، بعد تردي الواقع المعيشي عند أغلب الناس، ليصبح شراءها نوعاً من الكماليات” بحسب عبير.
لواقع ذاته أجبر النحات يزن (29 عاما) على العمل في نحت بعض التحف والصحون الخشبية متنوعة الأشكال والتي يوزعها على بعض المحلات التجارية والمطاعم والمقاهي، وعن سبب لجوءه لذلك العمل يقول: “أصبح الفن في هذه الظروف لا يُطعم خبزاً فيما تحتاج الأعمال الفنية الكبيرة والاحترافية لكثير من الوقت والمال وبالمقابل لا تحقق مبيعات جيدة، لذا أنا بحاجة لعمل آخر أتدبر من خلاله لقمة عيشي وأدخر منه بعض التكاليف التي تحتاجها أعمالي الفنية التي أحاول إنجازها بشق النفس”.

الرأحلام تتحطم
“ما نفع الفن إذا كنت محروماً من أبسط متطلبات الحياة العادية والبسيطة”، يقول النحات طارق (33 عاما) الذي انسحب من المشاركة بإحدى المعارض الجماعية التي أقيمت في دمشق، مضيفاً: “لم أتمكن من تحضير العمل النحتي الذي كنت سأشارك به، فهو من مادة البرونز غالية الثمن، ورغم صغر حجمه سيكلف نحو 700 ألف ليرة، لذا كان علي الإختيار بينه وبين شراء بعض المستلزمات الضرورية والملحة التي يحتاجها أي إنسان عادي”.
أنفق الفنان طارق نحو ثلثي المبلغ، الذي كان سيحتاجه عمله الفني، في شراء اسطوانة غاز منزلي (100 ألف ليرة)، خمسين ليتر مازوت للتدفئة (175 ألف)، بطارية للكومبيوتر المحمول (70 ألف) الذي شُلَّ عمله في غياب الكهرباء، بطارية صغيرة للإنارة البديلة (65 ألف ليرة)، وأُخرى للراوتر (80 ألف ليرة) لإتاحة استخدام الإنترنت عند الحاجة إليه.
من رسام يسعى لشق طريقه في عالم الفن إلى دَهَّان يطلي جدران الشقق، هذا هو حال الفنان أحمد (26عاما) الذي يوضح سبب ابتعاده عن الرسم، قائلا:” كنت بحاجة لعمل أعتاش منه فبدأت في رسم بعض الزخارف والمشاهد الطبيعية على جدران بعض المقاهي والمنتزهات، وخلال ذلك العمل تعرفت على بعض الدهانين فبدأت العمل معهم، حيث استفادوا من معرفتي في مزج الألوان واستخراج ما هو جديد ومميز منها، ثم استمر عملي هذا حتى تحول إلى ما يشبه المهنة التي أنستني مزاولتها الطويلة أنني رسام “.
يعمل أحمد لنحو ثمانية ساعاتٍ يومياً ليعود إلى البيت منهكاً وخائر القوة، لا قدرة له على التفكير في الفن، لا مزاج يحرِّضه على أي إبداع، ولا رغبة تدفعه لمسك ريشة الألوان أو حتى قلم الرصاص.
ما ذكر أعلاه قد يترك آثاراً سلبية كبيرة على مستقبل الفن التشكيلي في البلاد، فالفنانون الشباب هم من تقع على عاتقهم مسؤولية تشكيل الهوية والبصمة الفنية لهذه المرحلة من تاريخ البلاد، والتي بدورها ستكون بوصلة ومرجعاً فنياً للأجيال القادمة.

مواضيع ذات صلة

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

 "كنت أحلم بلوحةٍ تستطيع أن تخاطب بجمالياتها شريحة أوسع من الناس، لوحة تستطيع تجاوز مجموعة الجمهور التي تتكرر في حفل الافتتاح لأي معرض". ربما توضح تلك الكلمات، وهي للفنان نذير نبعة، مدى تبنيه وإخلاصه للفن، الذي كان رفيق دربه لأكثر من ستين عاماً، فهو الفنان الذي...

مواضيع أخرى

فصلٌ من القهر والعذاب: كيف مضى فصل الصيف على سوريا؟

فصلٌ من القهر والعذاب: كيف مضى فصل الصيف على سوريا؟

لم يكتفِ الناس في سوريا من معاناتهم وأوجاعهم اليومية، التي فرضتها ظروف الحرب وما تبعها من أزماتٍ متلاحقة وتردٍ في الواقع الاقتصادي والمعيشي، حتى أتى فصل الصيف، الذي سجل هذا العام ارتفاعاً كبيراً وغير مسبوق في معدلات درجات الحرارة، وكان الأقسى على البلاد منذ عقود،...

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

رغم انتشار ثقافة المطالعة واستقاء المعلومات عن طريق الشبكة العنكبوتية إلا أن ملمس الورق ورائحة الحبر بقيا جذابين للقارئ السوري. ولم تستطع التكنولوجيا الاستحواذ على مكان الكتاب الورقي، أو منافسته. وبقي الكتاب المرجع الأساسي والحقيقي لأي بحث علمي وأكاديمي، ولم يستطع...

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

بقي الريف السوري محروماً من المسرح إلى أن أنشأت مديرية المسارح والموسيقى في وزارة الثقافة ما أسمته "المسرح الجوال" عام ١٩٦٩، والذي بدأ عروضه بنشر الوعي المسرحي في الريف والمناطق الشعبية والنائية. صارت الصالة في كل مكان  والجمهور ضمنها، وكان كسر الحواجز بين...

تدريباتنا