تدريباتنا

ذاكرة الأمكنة

بواسطة | مارس 15, 2021

*تتناول هذه المادة مشاهدات وذكريات الكاتبة عن مقهى الحجاز قبل البدء بهدم هذا الصرح التاريخي  في دمشق بداية الشهر الحالي.

يشغل مقهى الحجاز مكاناً مميزاً وكأنه عقدة الربط ما بين سوريا كلها، لدرجة تدعونا للاقتناع بأن كل ما حوله من أماكن عامة، رسمية وخاصة، قد صممت من أجله، من أجل شحنه بأعداد متجددة من البشر، بقصص لا تخفض صوتك حين تتلوها،عقدة الربط ليست مجرد بقعة محددة من الجغرافيا تتوسط المسافات، بل هي إيحاء عارم بأنك في مكانك، لا بل إن المكان ملك لك وأنت سيده وصاحبه.

 يتحول مقهى الحجاز إلى ما يتفق على تسميته بالطاحون، التي تخلط قمح الجميع بماء الحياة اليومية أملاً بالحصول على غلال مجزية، كل الدروب تؤدي إليه. وكل الأجساد تدب السير نحو هذه الملاذ الآمن بصخب وأنفاس الأعداد الكبيرة والمتنافرة من البشر، حين يكتظ المكان بالغرباء عن المدينة، تصير الغربة تفصيلاً طبيعياً. تقول لنفسك: كلنا غرباء هنا، وكأنك تقول كلنا متشابهون هنا، الغربة تجمعنا.

مقابل المقهى وزارتا الزراعة والإسكان ومؤسسة الاتصالات، وعلى امتداده القصر العدلي، ساحة المرجة، شارع خالد بن الوليد، زقاق أو شارع رامي، الإطفائية وسوق البالة وسوق الحميدية. إذن كل الدروب تؤدي الى مقهى الحجاز، وكل الدروب تبدأ منه.

يتفق المراجعون مع محاميهم على مواعيد في مقهى الحجاز، يرتبون تفاصيل الدعاوى المطلوبة، يقابلون وسطاء لإتمام معاملة الحصول على عقد آجار لأرض مستملكة أو من أملاك الدولة، ينتظرون وصول طرد بريدي أو اتصال قد تأخر.

 فقط هنا يمكنك المغادرة بعد أن منحت قدميك حصة من الراحة وبعد أن تقبلت راضياً مذعناً تأخر صاحب الموعد المزعوم دون أن تدفع ليرة واحدة.

يقابل الأصدقاء المفلسون بعضهم فيه، هنا فقط يمكنك أن تنتظر ساعة كاملة دون أن تطلب مشروباً، بذريعة أنك تنتظر صديقاً أو قريباً.

يتحول النادل في مقهى الحجاز إلى مرشد سياحي وقد يدلك على محام بارع أو معقب معاملات حاذق، وقد يدلك على عنوان فندق رخيص للإيجار.

في رحاب المكان، وأنت تمضي إلى عنوان ما في مدينتك التي تدعي أن تعرفها جيداً، تسمع صوتا يناديك مباشرة باسمك! هنا في مقهى الحجاز تتحول وأنت سائر إلى وجهتك إلى نقطة مكشوفة، لمن يجلس في عليائه على إحدى مناضد المقهى، ولو أنك لا تولي أي اهتمام برواد المقهى، تتحول مناضد المقهى إلى منصة عالية، شرفة مرتفعة تسمح للجالسين هناك بالإشراف على المشهد العام للمدينة. كل رواد المقهى منشغلون في متابعة حركة السائرين، من يجلس يراك ويناديك وكأنه في بيته، وكأنك مدعو الى بيته، لا تملك ترف الاعتذار. مقهى الحجاز هو المواعيد الدافئة غير المرتبة مسبقاً، المواعيد المقررة على عجل وبكامل اللهفة، لن يضيرك التلاعب بنصف ساعة من الوقت تقضيها مع صديق كان ينتظر عبورك، لتجددا تصاريف الصداقة المؤجلة.

 مقهى الحجاز هوالمكان الأول الذي تعرفت فيه إلى سيدة بلباس فولكلوري مميز تجلس إلى أحد كراسي المقهى بثقة عارمة. هي المرة الأولى التي أتعرف إلى آثار الحبر الأزرق موشوماً على ذقون النساء وأيديهن. المرة الأولى التي أتعرف فيها على امرأة تدخن وباكيت الدخان والقداحة مركونة في عبّها المنفلت على راحته دونما حمالة صدر. على كراسيه تعرفنا إلى لهجات دافئة، حزينة ومليئة بالأسئلة.

على كراسي المقهى تسمح لنفسك ببناء قصة لا تعرفها أصلاً، لكنك ترى شابة تبكي أو امرأة تشتم وتسعل وهي تنفث التنباك الأصلي من فمها، على مناضده تشتم القهوة الرخيصة وضيق ذات اليد والأحلام المطعونة، ترجع ظهرك إلى المسند الخشبي لكراسي الخيزران التراثية وقد تفوز بشرف كتابة سطرين أو أكثر، سترميهما لاحقاً لأنك تأكدت من سذاجة موهبتك الروائية، قد تعجب بمقطع خططته من قصة لم ولن تكتمل، قد تدقق مادتك الصحفية الأولى والأخيرة، وقد لا تفعل شيئاً إلا تمزيق الورق.

على جدرانه الخارجية يقف باعة متجولون، ملابس عتيقة، ديارة أطفال رخيصة، وكأنما ينبغي على كل خارج أو داخل إلى المقهى أن يشتري غرضاً يحتاجه، المفاصلة سهلة، والباعة كرماء، لكن على الجميع أن يشتروا ليثبتوا حضورهم في المكان، فأنت في مركز العالم، أنت في الشام الموعودة، وكل غرض منها مكسب وهدية ثمينة، ذرة مفرطة، حفارات كوسا وسكاكين هندسية لتقطيع الجزر والخيار والبطاطا.

باعة المحابس المعدنية الرخيصة، وتذكارات الحب الخشبية سيئة التنفيذ، وباعة حافظات الهوية الشخصية العادية والكريستال وحافظات شهادة السواقة وجواز السفر.

أنا في مقهى الحجاز! العنوان الأكثر إيجازاً والعصي عن أن تضيعه، الجميع سيدلك عليه، وعندما يسأل المتصل على الجهة الثانية من الخط السيدة المتصلة: (وين المقهى)؟ فتجيب بزهو وثقة:(بالشام يا ول)! وتردف: (معقول ما تعرف الشام)؟

اعتاد السوريون والسوريات على التفريط بذاكرة الأمكنة، ليس طواعية ولكن بحكم قوة الأمر الواقع، تحولوا منذ أيام الحرب الأولى ليسكنوا الحدائق العامة، في حديقة شارع الثورة أعداد غفيرة من النساء تفترش المقاعد الحجرية، حضّرن أنفسهن جيداً لمواجهة العراء بحرامات صوفية كبيرة، ذات يوم ستظن أن المكان معرض للأغطية الصوفية، إنهن مرافقات لأحفادهن المرضى أو أبناء أو أزواج يراجعون العاصمة من أجل فرصة للعلاج. هنا في نفس الحديقة وعلى أنقاض قذرة صنع أحدهم كافتيريا لبيع الشاي والقهوة، لا حوض لغسل الكؤوس مجرد وعاء بلاستيكي أو بدونه، حيث تغسل الكؤوس على عجل وبماء بلا صابون.

أرى المشهد بكل وضوح الآن، سيتحول رواد مقهى الحجاز إلى هذه المساحة الخربة، القذرة، يستبدلون الوطن المؤقت، الشام التي يعرفونها أو التي ظنوا أنهم ينتمون إليها بأماكن تتنكر للعابرين وتخنقهم في مجاهل الإهمال والغربة المتجددة.

لن يناديني أحد بإسمي وأنا أعبر من قرب ما كان اسمه مقهى الحجاز، نغرق في خنق الذاكرة ولن أستمتع بلعبة التخفي التي تمارسها القداحة في عب السيدة صاحبة اللهجة المحببة وعبارة كيفك يمه.

يفقد السوريون والسوريات فضاءهم، سيتم بناء فندق خمس نجوم هنا، قد لا نجد ممراً بعد اليوم، وستصبح التفاصيل شبحاً باهتاً للذاكرة التي تجف وتجف حتى تبلغ اليباس، وأتساءل عن سر هذا التنافر الذي سيملأ المكان، من سيسكن أو يشغل هذا الفندق سيكون غريباً أيضاً عنه وعنا.

لن نألف الوجوه الغريبة الجديدة، ولن نكون معاً في ذات المكان، تغرق الأمكنة في حالة القسوة العامة، حالة التنافر العاطفي والامتلاء بالإهمال والغربة.

 كل المراكز والأماكن التي تناغمت مع مقهى الحجاز ستفتقد معنى وجودها هنا، سيقول مراجعو القصر العدلي: لم يعد لنا مكان نجلس فيه وننتظر، تضيق مساحة الشراكة، الشام بات غريبة وموحشة، نعم! لم نعد نعرف الشام ولا تعرفنا، هي حقيقة تفرض نفسها كل يوم والشام تتنكر لنا وبقوة الأمر الواقع أيضاً.

مواضيع ذات صلة

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

طيب تيزيني اسم أكبر وأهم من أن نُعرِّفه عبر سطور أو صفحات قليلة؛ لأنه جسَّد أفكاره تجسيداً عملياً، فكانت مؤلفاته تفيض من تفاصيل حياته ومواقفه الإنسانية والسياسية، وكانت حياته ومواقفه وبحق تعبيراً صادقاً عن أفكاره وفلسته، فكان فيلسوفاً بل حكيماً بكل ما تعنيه هذه...

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 خلال مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء، والتي استمرت لأكثر من نصف قرن، أبدَعَ مدرسة لحنية وغنائية متفردة وغنية ومتكاملة، تركت بصمتها المؤثرة في تاريخ الموسيقى العربية، وقد ساعدته موهبته في الغناء في فهم طبيعة الأصوات التي لَحَّن لها، فكان يُفصِّل اللحن على مساحة...

جُرح في الزوبعة

جُرح في الزوبعة

كانت حياة أنطون سعادة القصيرة (1904-1949 م) أشبه بدورة الإله بعل في الميثولوجيا الكنعانيّة القديمة، فبعل الذي يموت ويولد على نحوٍ أبديٍّ، وفقاً لـ"ألواح أوغاريت"، يرمز إلى "بلاد كنعان" أو "فينيقيا" تبعاً لتسميتها اليونانيّة القديمة، هذه البلاد التي مهما حاقَ بها من...

مواضيع أخرى

سوريا: كسوة العيد للأطفال محكومة بالأزمة الاقتصادية الحادة

سوريا: كسوة العيد للأطفال محكومة بالأزمة الاقتصادية الحادة

حرصت عائلات سورية -في أعوام خلت- على شراء الملابس الجديدة قبيل عيد الفطر، وبخاصة للأطفال كي يشعروا بالبهجة والسرور، غير أن التضخم وتراجع القدرة الشرائية، إلى جانب تدني دخل الأسرة بفعل الأزمة الاقتصادية الحادة أثر بشكل سلبي على هذه العادة. في جولة لنا على عدد من...

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

لشهر رمضان في سوريا عاداتٍ وطقوسِ اجتماعية وإنسانية، حرصت العائلات السورية على توارثها والتمسك بها عبر عشرات السنين، حتى تحولت إلى ما يشبه التراث الاجتماعي، ومن أشهرها "سِكبة رمضان" التي  تخلق حالة من الألفة والمحبة والتكافل الاجتماعي بين الناس، الذين يتبادلون...

“عيدٌ بأية حالٍ عدتَ؟”: غلاءٌ وعوائل حزينة

“عيدٌ بأية حالٍ عدتَ؟”: غلاءٌ وعوائل حزينة

لطالما يسخر السوريون من أنفسهم حين يكررون في كل عيدٍ الشطر الأول من قصيدة المتنبي "عيدٌ، بأية حالٍ عدتَ يا عيد؟"، ربما كان معظمهم يعلم شطره الثاني: "بما مضى أم بأمرٍ فيك تجديد"، وأنّ تشابه أيامهم بات فيه من السخرية الكثير، ولكنّ لا شك-أنّ معظمهم لم يكمل القصيدة، لا...

تدريباتنا