تدريباتنا

رمضان جديد أم قيم جديدة

بواسطة | مايو 14, 2019

يلقي أحمد (اسم مستعار) بحمولته من أكياس المحارم الورقية على الرصيف، ويختبئ بين سيارتين ليدخن سيجارته، هرباً من أعين المارة ومديره، فـ”الدنيا رمضان ، وإذا دخّنت علناً قد يتراجع بعض المتسوقين عن الشراء منك تحت ذريعة تدخينك” بحسب قول صاحب المحل.

يقترب شريك أحمد منه ويقول له: “لا داعي للاختباء، لقد رأيت فتاة تشرب الماء علناً، وسيدة تضع حبة سكاكر في فمها، ورجل غيرك يدخن أيضا!”.

ويظهر تبدل جلي في السلوك اليومي للمقيمين في دمشق تجاه الصيام في شهر رمضان، لا يقتصر على إشهار المفطرين لأنفسهم فقط، فحتى غالبية محال بيع الطعام الجاهز والعصائر لم تغلق أبوابها في شهر الصيام.

على عكس أحمد، لدى أم منار ثلاثة أبناء يشهرون إفطارهم علناً، لكنها ومن منطلقها الإيماني، تصر على دفع دية إفطارهم طيلة شهر الصوم، في السابق كانت أم منار تدفع كفّارة إفطارهم نقداً للعائلات الفقيرة عبر الجمعيات الخيرية أو أحد الشيوخ.

ويحدد المرجع الشرعي في وزارة الأوقاف هذا البدل سنوياً، وهذا العام قدّره بمبلغ مقداره ما بين ثمانمائة وألف ليرة، وهو قيمة وجبة لجائع على من أفطر دفعها. لذلك قررت أم منار هذا العام بمشاركة صديقتها لشراء كرسي متحرك لطفل فقد ساقه في الحرب، وبصورة مباشرة دون اللجوء إلى أية وساطة. ويعكس قرار أم منار هذا التغيير الذي يختلط فيه الإنساني مع الإيماني والتفاعل مع الحاجات الجديدة الأكثر إلحاحاً في زمن الأزمات.

وليس أولاد منار حالة فريدة في دمشق، فأغلب الموظفين في الدوائر الرسمية والخاصة يواظبون على تناول إفطارهم اليومي في أماكن العمل. تقول سامية إن زميلتها في العمل لا تصوم، لكنها تراعي مشاعر الصائمين بالتوقف عن إعداد القهوة في مكان العمل وخاصة لما لها من رائحة نفاذة تبعث الشهوة القوية لها، وتضيف سامية “حتى أن بقية الزملاء لا يأكلون الخيار أو البيض أو الفلافل في وجباتهم الصباحية خلال شهر رمضان، لرائحتهم الشهيّة والقويّة أيضاً”، أي أن المراعاة لا تتجاوز فعل التوقف عن أكل ما تطغى رائحته لتجنّب إيقاظ جوع أو شهوة الصائمين.

وحول هذا الموضوع، ينص القانون السوري في المادة 517 من قانون العقوبات، على معاقبة كل من يشهر إفطاره علنا في شهر رمضان بالحبس لمدة شهر كامل! مع الإشارة إلى أن نص الحكم لا يتضمن عبارة إشهار الإفطار أو عدم الصيام، وإنما التعرض للآداب العامة وعدم مراعاتها في شهر رمضان، وهي مادة شبه معطلة حاليا، ولم يصدر أي حكم بموجبها طيلة فترة السنوات الثماني الماضية.

وفي حال غياب أية مواد قانونية صريحة وواضحة تعاقب على فعل الإفطار أو إعلانه، فإن الأحكام الحقيقية المجتمعية المتداولة هي الأكثر تأثيرا.

التبدل أيضاً يبدو في صورة جديدة مرعبة دخلت حياة السوريين، فعلى إحدى مجموعات “الواتس آب” النسوية، وهو وسيلة التواصل الأكثر رواجا في سورية، تبارك رويدة بقدوم رمضان، لكن مباركتها النمطية التي لا تتجاوز كونها بروتوكولاً اجتماعياً، تصطدم بردود عنيفة من قبل بعض عضوات المجموعة، إذ تقول إحداهن “رمضان وصيام والجوع ينهش في جسد السوريين!”، فيما تنهرها أخرى وتربط بين المباركة بالصوم والاحتفاء بقيم داعش!

من جهة ثانية، وفي ظل التردي الكبير لأحوال السوريين الاقتصادية، انطلقت في رمضان عدّة مبادرات جديدة في طرحها، بدت على جدران الشوارع ومراكز التجمعات العامة، كالدعوة إلى إعفاء المستأجرين من إيجار بيوتهم في شهر رمضان، والإصرار والتكرار على السوريين في الخارج لإرسال ما تيسر للأسر المحتاجة في هذا الشهر لردم الفجوة الكبيرة بين القدرة الشرائية الضعيفة عند السوريين وبين حقيقة وحجم المتطلبات الأساسية للعيش، وخاصة الدواء والسكن والطعام.

ومن الظواهر القديمة التي لم تعد مقبولة، هي ارتداء بعض السيدات للحجاب أو الجلباب في شهر رمضان حصرياً، إذ بات يشار لهذا التصرف على أنه نفاق اجتماعي، وإن كان مؤقتا، لكنه يعكس هشاشة عميقة تتأمل في دواخلها رحمة أكبر، وسلم حسنات أكثر توازنا يمنح اللاجئات إليه سلاما داخليا ورضاً يحتجنه.

وإن كان لرمضان تعريف خاص ورائج، فهو ما يأتي به من وجبات الطعام الغنية والمنوعة، حيث تجهد الوسائل الإعلانية لترويجها رغبة في مكاسب اقتصادية مباشرة. لكن هذا تغيّر كلياً،  الحالة الاقتصادية السيئة التي يعيشها السوريون وانخفاض القوة الشرائية هي أحد الأسباب فقط، يُضاف إليها تغيير النظرة نحو الأولويات الأساسية، وحول جدوى نمط العيش الغارق في تفاصيل مرهقة ماديا وجسديا ومعنويا .

إذ باتت موائد الإفطار تقتصر على نوع واحد من الطبخ، إضافة لصحن من السلطة أو الحساء وآخر من الفول أو الفتة، فيما بات التنوع المبالغ به إسرافاً غير مرغوب به.

وحتى الدعوات العديدة التي اعتاد أفراد العائلة على تبادلها على موائد الإفطار الجماعية، باتت أمراً مكروهاً، وغالبا ما يتم اختصارها بدعوة واحدة، تلبية للشرط العائلي وتثبيتا لحالة انفكاك باتت مقبولة عن التقاليد العائلية.

وكما تحمل كل الشهور تبدلات تتعمق في حياة السوريين بفعل الحرب وشروخها العميقة وتكلفتها الباهظة، يأتي شهر رمضان ليثبَت هذا، من التغيّر في الوظيفة المجتمعية، أو في وظائف الأفراد، حيث يبدو أنها تتعرّف من جديد وفق هويات أقل ضيقا أو تشنجاً، لتصبح ظائف أقل إلزامية، تخفف الخناق المقيّد على الأفراد وإن بفسحة ضيقة، لكنها تتسع.

مواضيع ذات صلة

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

طيب تيزيني اسم أكبر وأهم من أن نُعرِّفه عبر سطور أو صفحات قليلة؛ لأنه جسَّد أفكاره تجسيداً عملياً، فكانت مؤلفاته تفيض من تفاصيل حياته ومواقفه الإنسانية والسياسية، وكانت حياته ومواقفه وبحق تعبيراً صادقاً عن أفكاره وفلسته، فكان فيلسوفاً بل حكيماً بكل ما تعنيه هذه...

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 خلال مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء، والتي استمرت لأكثر من نصف قرن، أبدَعَ مدرسة لحنية وغنائية متفردة وغنية ومتكاملة، تركت بصمتها المؤثرة في تاريخ الموسيقى العربية، وقد ساعدته موهبته في الغناء في فهم طبيعة الأصوات التي لَحَّن لها، فكان يُفصِّل اللحن على مساحة...

جُرح في الزوبعة

جُرح في الزوبعة

كانت حياة أنطون سعادة القصيرة (1904-1949 م) أشبه بدورة الإله بعل في الميثولوجيا الكنعانيّة القديمة، فبعل الذي يموت ويولد على نحوٍ أبديٍّ، وفقاً لـ"ألواح أوغاريت"، يرمز إلى "بلاد كنعان" أو "فينيقيا" تبعاً لتسميتها اليونانيّة القديمة، هذه البلاد التي مهما حاقَ بها من...

مواضيع أخرى

سوريا: كسوة العيد للأطفال محكومة بالأزمة الاقتصادية الحادة

سوريا: كسوة العيد للأطفال محكومة بالأزمة الاقتصادية الحادة

حرصت عائلات سورية -في أعوام خلت- على شراء الملابس الجديدة قبيل عيد الفطر، وبخاصة للأطفال كي يشعروا بالبهجة والسرور، غير أن التضخم وتراجع القدرة الشرائية، إلى جانب تدني دخل الأسرة بفعل الأزمة الاقتصادية الحادة أثر بشكل سلبي على هذه العادة. في جولة لنا على عدد من...

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

لشهر رمضان في سوريا عاداتٍ وطقوسِ اجتماعية وإنسانية، حرصت العائلات السورية على توارثها والتمسك بها عبر عشرات السنين، حتى تحولت إلى ما يشبه التراث الاجتماعي، ومن أشهرها "سِكبة رمضان" التي  تخلق حالة من الألفة والمحبة والتكافل الاجتماعي بين الناس، الذين يتبادلون...

“عيدٌ بأية حالٍ عدتَ؟”: غلاءٌ وعوائل حزينة

“عيدٌ بأية حالٍ عدتَ؟”: غلاءٌ وعوائل حزينة

لطالما يسخر السوريون من أنفسهم حين يكررون في كل عيدٍ الشطر الأول من قصيدة المتنبي "عيدٌ، بأية حالٍ عدتَ يا عيد؟"، ربما كان معظمهم يعلم شطره الثاني: "بما مضى أم بأمرٍ فيك تجديد"، وأنّ تشابه أيامهم بات فيه من السخرية الكثير، ولكنّ لا شك-أنّ معظمهم لم يكمل القصيدة، لا...

تدريباتنا