تدريباتنا

رنين اليقظة

بواسطة | يوليو 10, 2018

( كونشيرتو الكمان ليوهان برامز/ الحركة الأولى)

بماذا تَعِدني الموسيقى؟

أهي هروبٌ، شفاءٌ، تَخَطٍّ؟ أمْ ألَمٌ واستبصارٌ وتِيْه؟

تلطمني، ترجُّ صدغيَّ، تفتل قامتي، تنشر ذراعيَّ في العراء، تمسِّد ما ضاع وتَنْفُضُ ما تبقّى. أسلاكٌ دافئة بين القلب والأنامل، حطّت عليها طيور وغادرتْ أخرى. تَبرد فروةُ رأسي، تَخِزني أنفاسي، أكاد- في الهنيهة الفاصلة بين السكون والرنين- أَخْمشُ كلَّ شيء، ألوِّحُ لأيِّ شيء، أتّكئُ على لا شيء.

تتراجف الأوتار مثلما تستقبل شفاهُ المحمومين الفجرَ،

مثلما تستجمع يدُ العائد لهفتَها لتَعبرَ الصقيعَ الفاصل بين جيب المعطف وقفلِ بابٍ ليس خلفه أحد.

تتردّد الخطوات قبل أن تزيح الأشواكَ النامية على العتبة،

ترفرف الأجفان عازمةً على تأثيث الفراغ بظلالِ مَن غابوا.

الانبعاثُ من العدم سيرٌ إلى الموت، الركضُ على المرج زحفٌ إلى الهاوية. الخَلْقُ نَفْخٌ، والنفخُ نقصان. لهذا يتولّى البوقُ مهمّةَ البدء. ألسنةُ لهبٍ تشقّ قميصَ الليل، كلّما صدَّت لفحةً جذبتها الأحطابُ إلى سرير الرماد. طفلٌ غادر القبوَ بلا ذاكرة. بَردانٌ، وتقوده الشمس إلى رأس التلّ. يتمرّغ، يتدحرج غيرَ مُبالٍ: أَواكَبَهُ إلى السفح هديرُ الشلّالِ، أم فحيحُ الأفعى.

تعترض النفخةَ همهماتٌ من عدّة جهات.

بعضُها محاوَلةُ الموجِ فتْحَ ثغرةٍ في سور المَحرقة،

بعضها تَشابُكُ الأكفِّ قبل أن تُطْبِق السقوفُ على الأضلاع،

بعضها تَلاطُمُ الأشباحِ فوق شظايا القارب.

عتابٌ على البحر، فرارٌ من السماء، وعدٌ للأرض.

لأنّ( الفلوت) سؤالٌ مرير مثل لماذا؟ مديدٌ مثل أين؟  مرتابٌ مثل متى؟

بحَّتُهُ غامضة لكنْ كاشفة، صفيرُه مقيَّدٌ لكنْ ممزِّق. من تموُّجِ الهواءِ بين العتمة والضوء، من دأْبِ الرئتين الورديّتين على تضميد جراح المعدن؛ يصير للشهيق رنينُ اليقظة وللزفير صدى انكسار القيد.

حين أُزيحت الستارة لَيَّلَ الضباب، لحظةَ انشقَّ الأصيص ارتطمت البراعم بالزجاج.

من عدّة جهات. لأنّ شَجاهُ كامنٌ في كلِّ متحرّك، وخوفه مطوِّقٌ كلَّ آمِل، وحيْرَتهُ رائدُ كلِّ بصير.

تُزَمُّ الشفتان: فكثيرٌ من الشرفات لم يحتمل أمسِ لوعةَ الناجين،

تجنُّ الأصابع: فقد اشتعلتْ غابتانِ اليومَ،

تنقبض الأحداق: فغداً سيَغشانا الدم.

هاهي الكمنجات، وقد استيقظتْ ذاهلةً، تكرِّر آخرَ صرخات الجريح. تُضخِّمُها، تَطوف بها على الأرصفة، تضيء الأقبيةَ، تمزجها بكلِّ نسمةٍ، وتبدِّدُ يقينَ كلِّ غيمة.

لكنّ دَورها أبعَدُ من نواح الجوقة المُظلِّلة حوافَّ المشهد. إذْ لا منصَّةَ هنا غير حطام الأعمدة، لا شهود إلّا أطفالُ المكان الذين بَرَدَ بهم الزمانُ مخالبَه.

دَخَلْنا في الليل، أُلْبِسْنا معطفَه المقلوب، والتفَّتْ علينا الأكمام. ولنا، إلى أن يحين موعد الصدمات الشافية، أن نهذيَ بما نشاء.

مَن ذا يبالي بما كان لنا من أسماء وبيوت؟

مَن ذا يُصدِّق أننا شهدنا، مِراراً، ينابيعَ تفور وأشجاراً تُزهر؟

هي لا تمهِّد للكمان المنفرد مثلما تحفُّ الحاشية حول موكب سيّدِها، بل هو يبزغ من مركز الدوّامة، يشقّ طريقَه ملتاعاً من دون أن يزيح أو يزاحم. وبين موجةٍ وأخرى، ينزوي في ركن، منكبّاً على جراحه.

صِرْ يا قوسُ شَفرةً، إلى أن يحرق الأنينُ قشورَ هذه الجدران الرطبة.

ضجّي يا أوتارُ بما واجهَتْ به الأعشاشُ صليلَ الفؤوس، حتى تصهر الشمسُ حديدَ هذه الكُوى.

إذا أسَّسَ الفجرُ قريةً آمنة بين رُكبتَي تمثال، فلأنّ الكَمانَ سهران.

إذا تعثَّرَ الرعدُ بسقفِ مَنارةٍ قبل أن يلقي علينا رسائلَه، فلأنّ الكمان يَغرق.

إذا ردَّدتْ صنوبراتُ الجبالِ هديرَ قطاراتِ المنفى، فلأنّ الغيمَ سميعٌ للكمانِ مُجيب.

عاهدتُ الأرضَ، منذ كستني الموسيقى أجنحةً، ألّا أزيد جراحَها بخُطاي.

ورثتُ من نهر الطفولة أبوَّتَه للسواقي: يطلِقها في الحقول، ويسبقها إلى المَصَب.

مواضيع ذات صلة

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

طيب تيزيني اسم أكبر وأهم من أن نُعرِّفه عبر سطور أو صفحات قليلة؛ لأنه جسَّد أفكاره تجسيداً عملياً، فكانت مؤلفاته تفيض من تفاصيل حياته ومواقفه الإنسانية والسياسية، وكانت حياته ومواقفه وبحق تعبيراً صادقاً عن أفكاره وفلسته، فكان فيلسوفاً بل حكيماً بكل ما تعنيه هذه...

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 خلال مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء، والتي استمرت لأكثر من نصف قرن، أبدَعَ مدرسة لحنية وغنائية متفردة وغنية ومتكاملة، تركت بصمتها المؤثرة في تاريخ الموسيقى العربية، وقد ساعدته موهبته في الغناء في فهم طبيعة الأصوات التي لَحَّن لها، فكان يُفصِّل اللحن على مساحة...

جُرح في الزوبعة

جُرح في الزوبعة

كانت حياة أنطون سعادة القصيرة (1904-1949 م) أشبه بدورة الإله بعل في الميثولوجيا الكنعانيّة القديمة، فبعل الذي يموت ويولد على نحوٍ أبديٍّ، وفقاً لـ"ألواح أوغاريت"، يرمز إلى "بلاد كنعان" أو "فينيقيا" تبعاً لتسميتها اليونانيّة القديمة، هذه البلاد التي مهما حاقَ بها من...

مواضيع أخرى

مثل الماء لا يُمكن كسرها

مثل الماء لا يُمكن كسرها

لم أستطع أن أخفي دهشتي حين قرأت المجموعة الشعرية "مثل الماء لا يُمكن كسرها" للشاعرة السورية فرات إسبر، فالنص مدهش وغني بالتجربة الإنسانية للمرأة في علاقتها بذاتها وبالعالم حولها، ويعبر عن صوت المرأة الحرة الشجاعة والمبدعة، صوت الأم والعانس والأرملة والعاشقة. أعتقد أن...

سوريا: كسوة العيد للأطفال محكومة بالأزمة الاقتصادية الحادة

سوريا: كسوة العيد للأطفال محكومة بالأزمة الاقتصادية الحادة

حرصت عائلات سورية -في أعوام خلت- على شراء الملابس الجديدة قبيل عيد الفطر، وبخاصة للأطفال كي يشعروا بالبهجة والسرور، غير أن التضخم وتراجع القدرة الشرائية، إلى جانب تدني دخل الأسرة بفعل الأزمة الاقتصادية الحادة أثر بشكل سلبي على هذه العادة. في جولة لنا على عدد من...

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

لشهر رمضان في سوريا عاداتٍ وطقوسِ اجتماعية وإنسانية، حرصت العائلات السورية على توارثها والتمسك بها عبر عشرات السنين، حتى تحولت إلى ما يشبه التراث الاجتماعي، ومن أشهرها "سِكبة رمضان" التي  تخلق حالة من الألفة والمحبة والتكافل الاجتماعي بين الناس، الذين يتبادلون...

تدريباتنا