تدريباتنا

رهانات خاسرة

بواسطة | يناير 8, 2018

كان الرِّهان على وعي وترابط المجتمع السوري في بداية الحرب رهاناً خاسراً بكل المقاييس، بل لم يكن أكثر من وهمٍ إعلامي ومحاولةٍ لتمييع الحقيقة وغضِّ النَّظر عن الأزمات الاجتماعية التي يعاني منها المجتمع السُّوري وعن تأصُّل الحساسيات الطَّائفيَّة والمناطقيَّة بين أبناء الوطن الواحد.

والحرب تؤدي بالضرورة إلى إخراج ما هو مظلم في كلِّ مجتمع، فالودعاء البسطاء أيام السِّلم هم ذاتهم الذين لم يتأخروا عن حمل السِّلاح وانزلقوا بسلاسةٍ وخفَّةٍ إلى الخندق الأقرب إليهم على ضفتي الصِّراع، وهُمْ ذاتهم الذين أحرقوا بيوتاً ونهبوا ممتلكاتٍ ودمروا عائلاتٍ بأكملها؛ ففجأةً أصبح الجَّارُ صاحب الابتسامة العريضة جلاداً بذقنٍ تلامس سرَّته، والصَّديق الذي قاسَمَنا رغيفنا طواعيَّة بالأمس القريب، ارتدى المموَّه وأصبح يسرق الرَّغيفَ عنوةً.

كان واضحاً خلال الشُّهور القليلة الأولى أنَّ السِّلاح سيتحوَّل إلى سلعة متوفرة ومتاحة للجميع تباع كما تباع الخضراوات على النواصي، والأكثر وضوحاً أنَّ الدبابات التي غادرت مواقعها والطائرات التي فارقت مرابضها كانت تنذر بسنينٍ عجاف، وأنَّ مسار الحِراك قد تحدد ليكون حِراكاً عسكرياً دينياً بغيضاً وحرباً ضروساً بين جيشين سيقف فيها العامَّة على الحياد ريثما تمتد لهم يدٌ لتجرَّهم إلى جبهةٍ أو إلى زنزانة، وعلى الرغم من هذا السقوط الكبير لحلمنا بحراكٍ مدنيٍّ قادرٍ على رسم مستقبل بلادنا بقيَ الرِّهان على نبذ العنف من المجتمع قائماً، وبعنادٍ لا طائل منه أصرَّ المؤمنون بميل السُّوريين للسِّلم وأنا منهمعلى هذا الرِّهان، وخسرنا جميعاً.

للأمانة؛ لقد خاننا حدسنا، فلم نتوقع أنَّنا نمتلك كلَّ هذه المقوِّمات لتدمير أنفسنا، ولم نتوقع أنَّنا نمتلك هذا القدر من الطَّائفيَّة والعنصريَّة تجاه بعضنا، بل كنَّا مخدوعين بالدِّعاية البراقة التي سوَّق لها الإعلام الرَّسميحول الوعي واللُّحمة الوطنيَّة والتَّعايش، أمَّا اليوم فقد أصبحنا على يقين أن الحديث عن التَّعايش واللُّحمة الوطنيَّة يتناسب طرداً مع افتقاد هذه المعاني.

لا تعايش الآن في بلادنا ولا لُحمة وطنية ولا مجال لاستخدام هذه الخدعة ثانية على الأقل في المدى المنظور، هذا الواقع الذي يخبرنا به الشارع السُّوري المنقسم بشِدَّة والمصطفِّ في خنادق أملتها عليه الطوائف والمناطق والمصالح قبل أن تصبح الحرب مهنة وننقسم ببساطة إلى محارب وهدف، ولكم أن تتخيلوا كمية الكراهية التي تعاظمت في نفوسنا خلال سنين الحرب الطويلة والقاسية، لكن السؤال الجوهري: هل كانت هذه الكراهية وليدة الحرب ونتيجتها أم أنَّها سابقة على الحرب وكانت تنتظر فرصة لتعبر عن نفسها بالطريقة البشعة؟!.

لم أدرك مدى الكراهية التي نخبئ إلَّا عندما رأيت المشاجرات بين الهاربين السُّوريين إلى لبنان والتي كادت أن تصل حدَّ القتل، هذه المشاجرات كانت ناتجة بالظاهر عن اختلاف في الانتماء السياسي، لكنها في الباطن كانت نتيجة مباشرة لاختلاف الطوائف أو المناطق أو الطبقات الاجتماعية.

هناك في بيروت في مشروع أبراجٍ سكنية قيد الإنشاء يشكِّل السوريون 60% من عماله كنت أنا هارباً أعمل كعاملٍ غير محترف، وعلى جدران المراحيض التي هي عبارة عن مستوعبٍ معدنيٍّ قذر تم تثبيته على عَجلٍ فوق قطعٍ من الطوب الاسمنتي وتركيب ثلاثة مراحيض لتكفي أكثر من ألف عاملعرفت إلى أيِّ مدى نحن محمَّلون بالغل!

هؤلاء العمال الذين يعانون الأمرَّين نتيجة استغلالهم وقسوة ظروف العمل لم يتمكنوا من التخلي عن انتماءاتهم حتَّى في المراحيض، فافتتحوا نقاشاً ساخناً على الجدران، كلُّه شتائم وعبارات حملوها معهم من دمشق على غِرار الأسد أو نحرق البلد، جايينك، يلعن روحك إلخ، إلى جانب مجموعة كبيرة من العبارات الطائفية التي تساعد في فهم التركيبة الطائفية للمتحاورين، ووصل الأمر عند بعضهم إلى تحديد موعد للخصم للنزول إلى الحلبة!

هذا الاحتقان غصَّت به الحناجر فلم يترك الغاضبون سبيلاً لتفريغ غضبهم إلَّا وسلكوه، والمشكلة الأكبر أن الحقد بين المدنيين على بعضهم لاعتبارات سياسية في الظَّاهر هو أكبر بكثير من العداء الذي بين المسلحين على الجبهات، فالمصالحات تسير على قدمٍ وساق بين الدَّولة والمعارضة المسلَّحة في غير منطقة، بينما تتسع الفجوة بين الأهالي دون أن يعبأ أحدٌ باتساعها.

كنَّا نتمنى وما نزال لو أنَّ دعاية الوعي والتَّرابط واللُّحمة والتَّعايش حقيقة، لكن سطحية هذا الطَّرح تجبرنا على مواجهة الواقع والتَّفكير بجدية بالطريق الذي يجب أن نسلكه لتقليص الفجوة بين أبناء الوطن الواحد، وهي فجوة تتسع دون حدود ما لم تجد رغبة تعاكسها وتجبرها على الانكماش، أو توقف اتساعها على الأقل، فنحن الآن لسنا معنيين بتطبيب جراحات الحرب وحسب، بل أمامنا إرث ثقيل من الكراهية التي حملناها معنا عقوداً طويلة، وكنا كمن يخفي الأوساخ تحت السّجادة ويدَّعي نظافة بيته.

بإنكارنا البريء لوجود الطائفيِّة والعنصريَّة ومحاولتنا التهرب من مواجهة الحقيقة بتجميلها والتعتيم على المناطق المعتمة من واقعنا كنَّا ودون أن ندري نجهِّز أنفسنا لننفجر كراهيَّةً حين تتاح الفرصة؛ وقد أتيحت، وأكثر ما نحتاجه الآن هو أن نتعرَّف على بعضنا من جديد، وأن نعترف أنَّ الأمان لم يكن إلَّا وهماً، وأنَّ الوعي لا يمكن أن يتولد بمجرد ادِّعائنا أنَّه موجود، بل يحتاج إلى جهدٍ وإرادة جبَّارة لإعادة خلق المفاهيم التي من شأنها أن تنحِّي الكراهية جانباً وتعيد بناء الشَّراكة التي افتقدناها.

مواضيع ذات صلة

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

مواضيع أخرى

النساء ومعاركهن المتجددة

النساء ومعاركهن المتجددة

 يتم تسويف قضايا النساء بذرائع متعددة على الدوام، مرة بذريعة الحرص على الأخلاق العامة، ومرة أخرى بذريعة عدم المواجهة مع قوى الأمر الواقع، ومرات بذرائع تنبع فجأة من خبايا السنين وتصير حاضرة بقوة مثل طبيعة المرأة البيولوجية، أو التشريح الوظيفي لدماغ المرأة، وصولاً...

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

تمر سوريا اليوم بمرحلة فارقة في تاريخها، حيث يقف الجميع أمام اختبار صعب: هل يمكن تجاوز إرث القهر والاستبداد لبناء دولة جديدة قائمة على الحرية والكرامة؟ أم أننا سنتعثر مجددًا في أخطاء الماضي، التي صنعها الخوف، الصمت، وصناعة الأصنام؟ اليوم، نحن في حالة فراغ سياسي...

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

شهدت سوريا خلال أربعة عشر عامًا من الصراع تحولًا جذريًا في موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية. بدأ الحراك شعبيًا وسلميًا، لكنه انتهى بصراع مسلح معقد ومدعوم خارجيًا، في ظل غياب قوة سياسية مؤثرة ميدانيًا. وبينما ساندت روسيا وإيران النظام السوري، مما أطال أمد...

تدريباتنا