أجرى فريق #صالون_سوريا، دورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة الحساسة...
تدريباتنا
ورشة تدريب صالون سوريا
يعلن فريق #صالون_سوريا، التحضير لدورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة...
يمضي أدونيس وقته في خدمة القصيدة واللوحة (الرقيم) والشذرة والتحليل العميق والفكر النقدي التفكيكي، لا يتوقف عند السطح بل يتغلغل إلى أعمق داعياً إلى نسف البنى الثقافية السائدة من جذورها، وعن بكرة أبيها، بغية الانطلاق من أرضية هذا الهدم الإيجابي الخلاق نحو لحظة بناء حقيقية لمستقبل يمكّن من وضع الأقدام على خشبة مسرح العالم الحديث. ويدرك أدونيس جيداً أن عناصر الرؤيا لا تكتمل إلا عبر تكريس يقارب العبادة للإبداع الشعري والفكري. ومايجعل النص الشعري الأدونيسي المتجاوز للقصيدة في شكلها السائد والموروث عصياً على القولبة والإلغاء والنسيان هو أن لغته مجبولة بالتاريخ ومنبثقة من التراث بأصواته المغايرة والمتغايرة والمبدعة والمُهمَّشة التي لم يُعترف بشرعيتها الفنية، ومَنحَ الشاعرُ أصواتها في ديوانه ذي الشكل الفني الجديد والمختلف، ”الكتاب“ فضاء لحضور جديد وصَهرَها في خصوصية صوته الشعري وتفرده. يمزج نصه في تضاعيفه أصوات القدماء والمعاصرين العابرين لحدود الثقافات والخارجين على تعريفها للوجود مع استكشاف لا يتوقف لطبقات الواقع وإيقاعات اللحظة، ولهذا يأتي شعره كالألماس الذي يتشكل مما يشبه انفجارات بركانية في أعماق الكوكب الأرضي. وعلاوة على أن التاريخ الجمالي للغة الشعرية العربية ينبض في النص الأدونيسي، فإن ما يبقيه حياً وحيوياً هو قدرة الشاعر على أن يظل متحولاً وباحثاً ومتسائلاً ومانحاً على المستوى العميق، فأي كرم أروع من أن تمنح قراءك قصيدة تتحقق فيها شروط الإبداع تنقلهم من سياق يتسم بالتكرار والنمطية والمهادنة ومحاكاة القدماء إلى فضاء جمالي يشير إلى الطريق نحو أفق الأسئلة، وأي خدمة أنبل من أن تقدم كتاباً فكرياً يغير النظرة إلى التراث ويخلخل تعريفاً متوارثاً للوجود تم الاتكاء عليه طويلاً، فاتحاً باب التساؤل والتجريب تحت شعار ”للحرية، والإبداع، والتغيير“، الذي تبنته ”مواقف“، وهي مجلة أسسها أدونيس في ١٩٦٨، وكانت في قلب الانقلابات الثقافية العمودية البيروتية.
في هذا الإهاب زار أدونيس المملكة العربية السعودية تلبية لدعوة أثارت جدلاً قيلَ إن السياسة حاولت أن تجني ثمارها وتجيّرها لصالحها بعد أن قامت بحراسة المشهد ورعايته دون السماح لأجهزة الرقابة، أو أية جهة بالتدخل لتعكير صفوه، غير أن ما جعل الزيارة تخترق السياسة وفن إخراج المناسبات لخدمة مآربها وتنجح بقوة وتكتسب صفة شعرية وثقافية أصيلة، هو أن أدونيس سافر مراراً من قبل إلى هذه الأرض المحورية عن طريق دواوينه وكتبه الفكرية ومقالاته الصحفية وحواراته المتلفزة والإذاعية الكثيرة، ما ضمن له جمهوراً كبيراً من القراء والمحبين في المملكة الذين رأوا في تجربته الشعرية والفكرية فسحة أملٍ للحداثة والتحرر في سياق تُطْبق فيه الرؤية السلفية الموروثة على خناق الوجود، فضلاً عن أن المؤسسات الثقافية التي دعته أبدت استقلالية جديرة بالاحترام.
نجحت الزيارة أيضاً لأن المطلعين في المملكة يعرفون أدونيس وقيمته الإبداعية بعد أن سبقته كتبه إليها، وهم أبناء أرض كانت ينبوعاً للشعر العربي الكلاسيكي ومهداً للنبوة، ينبوعاً لا يكف عن الانبجاس والتدفق. ولقد قال أدونيس في المملكة ما يقوله في أي مكان، إلا أن قوله له فيها اكتسب أهمية رمزية كبيرة، فهنا يتقاطع التراث مع الحداثة ويتحول، أو يبقى أسير الرؤية الماضوية ويتجمد، وهنا يتوضح صوت الشاعر سياقياً، ويتجسد حضوره الشعري والفكري المستند إلى مخزون شعري هائل أنجبه حوض هذه الأرض المباركة. وأن تكون أناك الشعرية والفكرية امتداداً تحويلياً، تم عبر الانفتاح على التجارب الكبرى في العالم، لأرقى وأهم الإبداعات الشعرية في هذا المخزون الإبداعي فإن هذا منح الشاعر زخماً هائلاً وقوة حضور تجلّيا في وقوف أدونيس على المنبر في سن الثالثة والتسعين كأنه في أوج شبابه حين كان المحرك الجبار لقطار الحداثة في ”شعر“ و“مواقف“ على السكك الوعرة للثقافة العربية.
حاولت مقالات صحفية كثيرة أن تربط الزيارة بالتوجهات السياسية الجديدة في المملكة التي تسعى قيادتها الشابة الحالية إلى تحييد القوى السلفية التي تتحكم بمفاصل الحياة، ولا شك أن انفتاحاً كهذا تُرفع له القبعة، ويشير إلى أن الأجيال الجديدة في هذه البلاد ملت من إكراهات الرقابة وضغوطها على الفكر والحياة الحرة والتي كانت تقليداً تشترك فيه معظم الدول العربية سواء التي رفعت شعارات العلمانية أو التي حرست الفكر المحافظ، كما عبّر عن ذلك الشاعر العراقي الكبير مظفر النواب حين قال إن الدول العربية سجون متلاصقة.
ويجب ألا تفوتنا الإشارة إلى أن السعودية التي دعت أدونيس ليست المملكة السياسية وحسب بقدر ما هي المملكة الفكرية والشعرية والفنية، فهذه الأرض، والتي هي في الأساس أرض النبوات والشعر والتصوف، أنتجت وما تزال شعراء ومفكرين وفنانين مبدعين ضاقت عليهم نواحي الآفاق المتاحة فقرروا توسيعها، أو أن قوة الثقافة تمكنت من أن توصل رسالتها فكانت ثمراتها الأولى دعوة أدونيس.
ألقت زيارة أدونيس إلى المملكة العربية السعودية الأضواء على خشبة مسرح احتجبت عقوداً خلف ستار الرقابة والنظرة الدينية التي وقعت في شباك الموروث وبقيت على حالها دون تغيير، وأغلقت الأبواب والنوافذ في وجه أية قراءات جديدة للنص الديني. وانكشفت أثناء هذه الزيارة أرض جديدة مضاءة بقوة رغبة الخروج من عباءة الماضي وضرورتها.
كانت زيارة أدونيس إلى المملكة العربية السعودية بمثابة زيارة كاشفة ومضيئة، بمعنى أنها أوضحت الانقسام في الخريطة الثقافية، فهناك من هاجمها انطلاقاً من نظرة ضيقة وبلغة اتهامية لا تُحسب داخل حدود الثقافة بالمعنى الفكري والإبداعي الحقيقي، وثمة من نظر إليها كزيارة قابلة للتوظيف السياسي من ناحية أن بعض الصحفيين والمسؤولين الثقافيين في السعودية قاسوا بها مدى التحول في ظل التوجه السياسي لولي العهد محمد بن سلمان، أي أن الزيارة كشفت أن ولي العهد انتصر في حربه على الظلاميين وشرطة الشرف والرقابة الدينية والممارسات الوهابية وجلب ما منعته وحرمته سلطة الثابت إلى القلب الذي يتوضع فيه الحجر الأسود للفكر السلفي. وهناك من اعتبر الزيارة انتصاراً للشعر والفكر ناجماً عن تحول وانفتاح يتدفق نهره في صحراء الجزيرة العربية، ولهذا ينبغي ألا نقلل من حجم ما يجري من تحولات مهمة داخل المملكة العربية السعودية، ويجب أن ننظر إلى الزيارة على أنها لفتة كريمة ومبادرة توضح تقدير السياسي لأهمية الفنون والآداب ولضرورة بناء السياسة على الثقافة، الأساس الذي تفتقر إليه السياسات في معظم الدول العربية.
أدونيس يعي هذه المسألة جيداً، ويعرف أن الصحافة دوماً تتحرك ضمن خطوط مدروسة وتوظف أي شيء، إلا أن الإعلام الاجتماعي غير الخاضع لرقابة الأنظمة بيّن أن محبي أدونيس والأفق الذي تفتحه كتاباته الشعرية والفكرية كثر. وكان الاحتفاء بأدونيس وحضوره وشعره نسائم ثقافية منعشة، ودليلاً على أن المؤسسات العربية يمكن أن تتجدد وتنهض إذا حالفها الحظ بقيادات شابة تمتلك نظرة سياسية أكثر عمقاً مستندة إلى رؤية ثقافية.
لقد هدرت الدول العربية، المنتجة منها للنفط، والأخرى المنتجة لخطابات وشعارات الوحدة والنضال والتحرير، الكثير من مالها على القمع والحروب الأهلية والتدخل الأجنبي وتمويل الجماعات الإرهابية العابرة للحدود، والنخب الفاسدة، وتدمير البلدان لحماية الكراسي وحقن الأنظمة المتداعية، أما السياسات التي بُنيت على الثروة النفطية وحراستها فقد ولّدت تبعية سياسية واقتصادية دارت وما تزال في فلك القوى الكبرى من خلال تصنيع الأخطار والتجييش العسكري والاقتصادي والإيديولوجي على هذه الخطوط، وربما آن الأوان للخروج من نير هذه السياسات ومن التبعية للغرب لإنقاذ ما تبقى من الثروة وصرفها لبناء دولة مؤسسات حقيقية نستطيع أن ننطلق منها نحو مستقبل إنقاذي عربي، ونأمل أن تكون زيارة أدونيس خطوة على هذا الطريق.
مواضيع ذات صلة
مواضيع أخرى
تدريباتنا
ورشة تدريب صالون سوريا
أجرى فريق #صالون_سوريا، دورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة الحساسة...
ورشة تدريب صالون سوريا
يعلن فريق #صالون_سوريا، التحضير لدورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة...