تدريباتنا

سوريا “المخدرة” دون أطباء تخدير

بواسطة | مارس 3, 2022

كثيرةٌ هي المرات التي يحتار فيها الصحافي/ة: كيف ستكون بداية مادته/ها؟ هل يبدأ/ تبدأ بقصةٍ إنسانية لبطل/ة في تلك المادة يكون النجاح، الخوف، الفشل، اللاجدوى عنواناً لحبكة صحافية؟ أم سيواجه الجمهور برقم صادم عن قضية فساد، هجرة، خسارة، أو رقم صدرته قضية حرب؟
أسئلة تفرض نفسها عند التفكير بقضية آلام أطباء التخدير في سوريا، أو الأصح حول قضية الهروب من اختصاص التخدير في سوريا وهجرة من اختص فيه عن سابق إصرارٍ وتصميم.
15 طالب طب اختصاص تخدير فقط في جامعة دمشق هذا العام. انخفض العدد 35 طبيباً خلال عام، ومن سجل هذا الاختصاص ينتظر فرج بطاقة طيران خارج الحدود، بين سطور هذا التقرير آلام لأطباء يُخدرون آلام الجروح.

صرخة
في العام 2017، أطلق الدكتور فواز هلال المسؤول العلمي لـ “رابطة أطباء التخدير وتسكين الآلم” صرخة، عبر الإعلام الرسمي والخاص وصفحته على السوشال ميديا، يُحذر من يومٍ “ستتجمد فيه المشافي” اذا استمر وضع التعامل مع أطباء التخدير بطريقة عدم التقدير المادي والمعنوي، في القطاعين العام والخاص.
وفي بدايات 2022، تحديداً يوم 9 كانون الثاني، أوقف “مشفى التوليد الجامعي” قبولات المرضى والإسعاف لعدم وجود كادر من أطباء التخدير، في وقت كان ولا يزال “مشفى الزهراوي” بمدينة حلب يعمل بطبيب تخدير واحد فقط بمساعدة فنين. وفي ذات السياق، تحدثت الدكتورة زبيدة شموط أن “رابطة أطباء التخدير” أجرت دراسات متتالية حول عدد وواقع أطباء التخدير في سوريا في اعوام 2000 و2016 و2020، منوهةً أن الوضع اليوم “أسوء بكثير من عام 2020، حيث يفقد هذا القطاع الأطباء الشباب من تتراوح أعمارهم تحت 30 عاماً، وفي كل سوريا 4 أطباء فقط من هم تحت سن الثلاثين عاماً”.
بعد الصرخة الأولى، أعطت الحكومة السورية مكافأة شهرية لأطباء التخدير 100 ألف ليرة سورية، يومَ كان سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار لا يصل إلى 1500 ليرة سورية، خُصم منها 18% ضريبة أيضاً، في الوقت الذي لا يجوز أن يخصم من المكافأة أي ليرة سورية، لم تنجح محاولات المعنين بمحاولة “تثبيت أطباء التخدير بأرض الوطن”.

صراع أطباء
بعد سنوات على محاولة الجهات المعنية في سوريا، “إنقاذ كوادر أطباء التخدير”، تحاول ذات الجهات محاولة إنعاش أخرى، بضخ زيادات على الرواتب والتعويضات الخاصة بأطباء وطبيبات التخدير، حيث كشفت دراسة سربها الإعلام السوري الخاص أن اللجنة الاقتصادية في رئاسة الحكومة رفعت توصية لتكون مكافأة كل طبيب تخدير 200 ألف ليرة سورية شهرياً أي مايعادل 56 دولارا اميركيا تقريباً حسب سعر الصرف الحالي في السوق السوداء، و 80 دولارا حسب سعر صرف المركزي، واشترطت أن تصل عدد أيام دوام طبيب/ة التخدير إلى 6 أيام أسبوعياً.
صب هذا التسريب الزيت على نار القضية، ولم يكن بعد ما تم تداوله نفعاً لـ “الملح على الجرح”، كما يقال باللهجة العامية السورية. يعقب الدكتور ” ع. م” الذي رفض ذكر اسمه كاملاً على القضية قائلاً: ” تحتاج قضيتنا صفحات في جرائد”. ويتحدث لـ “صالون سوريا” عن جوهر المشكلة المتمثل في العلاقة مع طبيب التخدير ضمن المشافي العامة والخاصة، موضحاً أن المشفى والجراح هما من يقرران أجور طبيب التخدير، الذي يبقى له الفتات من الأجور، بعد نقاشات طويلة من سيدفع الأجور له المشفى أم طبيب الجراحة، و”بالتالي يغيب الضامن للعلاقة بين طبيب التخدير والمشفى، وبين طبيب الجراحة وطبيب التخدير هذا على صعيد المشافي الخاصة، أما على صعيد المشافي التعامل مع التأمين الصحي في المشافي الخاصة، يدفع التأمين الصحي تسعيرة وزارة الصحة وهي لا بأس بها، لكن يدفعها للمشفى الذي يقتطع منها ما يريد”.
وفي أحد الردود على الحلول التي قدموها أطباء التخدير لوزارة الصحة، أن فني التخدير يمكنه القيام بمهام الطبيب، حسب قوله. لكن أي خلل في العمل الجراحي فان “الملام الأول هو طبيبة/ة التخدير”. سلسلة تناقضات يدخل بدوامتها كل من يدخل اختصاص تخدير قبل أن يسافر خارج البلاد.
وتتحدث الدكتورة “ش .ع” عن جملة مشاكلَ أخرى تبدأ بالأجور لطلاب الدراسات العليا التي تصل إلى 90 ألف ليرة سورية، وتقارنها بطلبة من حملة شهادات الطب العام في جامعات ألمانيا تصل لحوالى 2800 يورو. وطبيب التخدير هو الوحيد الذي أجوره قليلة مقارنة بباقي الاختصاصات وخصوصاً الجراح، وتضيف أن المشكلة أيضاً في قلة الأساتذة والمشرفين بسبب الأجور الزهيدة، حيث يصل أجر الطبيب المشرف بعد دوام 5 أيام في “مشفى المواساة الجامعي” إلى 180 ألف ليرة سورية، حيث لا يوجد أيضاً أي أجور على العمليات في المشافي الحكومية، وهذا يجعلهم/هن يتخلفون عن الحضور إلى المناوبات في المشافي الحكومية.
لم تكن الأجور وحدها هي ما تلخص عمل وهجرة أطباء وطبيبات التخدير، بل عدم وجود منظومة كاملة اسمها “تسكين الألم”، بحيث يصبح في مقدور الطالب عمل اختصاص لمدة سنتين أو ثلاث بعد الانتهاء من التخدير، إضافة إلى استغناء المشافي عن الطبيب بالفني وهذا استخفاف كبير بالطبيب على حد تعبيرها.

خارج الحدود!
حاول كثيرون من أطباء وطبيبات التخدير المطالبة بمساواتهم بزملائهم من ذات الاختصاص في دول الجوار على الأقل. كل هذه المطالب باءت بالفشل، فكان البقاء صعباً. تتفق الدكتورة “ش، ع” والدكتور “ع .م” أن كل من يدخل الاختصاص في عينيه السفر فقط، ليس بدافع التخلف عن الخدمة الإلزامية فحسب، بل بدافع وجود إغراءات مادية ومعنوية حقيقية. ويشرح ” م. ع” طبيب تخدير سافر إلى ألمانيا عام 2019، عن تجربته في المشافي الألمانية التي تبدأ بالأجور الشهرية، ومساواة طبيب التخدير من حيث القيمة المعنوية بأي طبيب آخر، حيث لا يمكن أن يحل أن فني تخدير مكان الطبيب في غرف العمليات، بينما يشير “م.ر” وهو طبيب تخدير سافر إلى العراق عام 2020، ويعمل في أحد المشافي الخاصة بالعاصمة بغداد، أن أجره بدأ بـ 2000 دولار، لو بقي في سوريا، كان يحتاج سنة ونصف ليجمع هذا المبلغ، ويتحدث عن عدم دخول أي طبيب إلى غرفة العمليات بدون طبيب تخدير، مع وجود فنين تخدير أيضاً، لكن الأدوية ومعايرتها ونوعيتها هي من اختصاص الطبيب فقط، ولا يشعر أي طبيب تخدير بأنه قلة قيمة طبية من غيره من الأطباء، وله نسبته وأجره الذي يختلف من مشفى إلى آخر ويتساوى مع اختصاصات أخرى.
في 2022 توقف “مشفى التوليد الجامعي” عن العمل بسبب عدم وجود طبيب تخدير، ماذا ينتظر البلاد بعد 5 سنوات إذاً؟ وفي سوريا التي تصدر أطباء إلى العالم منذ زمن وليس أثناء الحرب فقط، هل سيقف المرضى طوابير بانتظار طبيب تخدير؟ هل تنفع الإغراءات المادية التي لا تكفِ نصف شهر للعيش في بلد يعاني من الغلاء والتضخم؟

مواضيع ذات صلة

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

مواضيع أخرى

النساء ومعاركهن المتجددة

النساء ومعاركهن المتجددة

 يتم تسويف قضايا النساء بذرائع متعددة على الدوام، مرة بذريعة الحرص على الأخلاق العامة، ومرة أخرى بذريعة عدم المواجهة مع قوى الأمر الواقع، ومرات بذرائع تنبع فجأة من خبايا السنين وتصير حاضرة بقوة مثل طبيعة المرأة البيولوجية، أو التشريح الوظيفي لدماغ المرأة، وصولاً...

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

تمر سوريا اليوم بمرحلة فارقة في تاريخها، حيث يقف الجميع أمام اختبار صعب: هل يمكن تجاوز إرث القهر والاستبداد لبناء دولة جديدة قائمة على الحرية والكرامة؟ أم أننا سنتعثر مجددًا في أخطاء الماضي، التي صنعها الخوف، الصمت، وصناعة الأصنام؟ اليوم، نحن في حالة فراغ سياسي...

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

شهدت سوريا خلال أربعة عشر عامًا من الصراع تحولًا جذريًا في موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية. بدأ الحراك شعبيًا وسلميًا، لكنه انتهى بصراع مسلح معقد ومدعوم خارجيًا، في ظل غياب قوة سياسية مؤثرة ميدانيًا. وبينما ساندت روسيا وإيران النظام السوري، مما أطال أمد...

تدريباتنا