تدريباتنا

سوريا بين التلوث الفكري والتلوث البيئي

بواسطة | سبتمبر 6, 2017

لا يكترث المتحاربون بتساقط الضحايا ولا بدمار العمران، كما لا تهمهم نتائج أفعالهم على المدى الطويل، ويتمخض الصراع في سوريا كل يوم عن آثار ونتائج ستؤدي إلى أن ينال العذاب والموت لا ضحايا الحرب المباشرين بل الأجيال القادمة التي لا ذنب لها إلا أنها تولد في مناطق الصراع، والدمار الذي طال المدن ببنائها الحديث وآثارها العريقة وأسواقها التاريخية والنهب المنظم للآثار أو تدمير ما لا يمكن المتاجرة به منها، والاستخراج والتكرير البدائي للنفط والذخيرة المستخدمة ضد أهداف مدنية أو عسكرية.

في هذا السياق المتولد عن الحرب التي ما تزال رحاها دائرة تغلغل السم إلى كأس الماء الذي يشرب منه السوري، وفي الخضراوات التي يصنع منها سلطته وفي الهواء الذي يتنفسه.

وليس التلوث مادياً فحسب، إنه معنوي أيضاً، فالصمت عن الجريمة تلوث، والصمت عن قول الحق تلوث، والكراهية تلوث، وتبرير قتل الإنسان تحت أي شعار أو كذبة تلوث، والشماتة بما يجري للآخرين تلوث، وفي فضاء الحرب السورية تتقاطع أشكال التلوث الروحي والمادي كي تتجلى في الانقسام الطائفي الحاد، وفي الأمراض الخبيثة والقاتلة، وفي التشوهات الخلقية والأمراض الجلدية وفي السعال المتواصل.

وكما تنفجر الذخائر وتزرع سمومها في التراب والمياه والهواء تنفجر الأفكار القاتلة ناثرة بذور مرضها في النفوس ولا شفاء من كل هذا إلا بالصحوة المدنية، التي تؤسس دولة القانون، الدولة المدنية التي تحترم حقوق الإنسان وحرية التعبير وتحرسها.

حين تسقط قذيفة، أو قنبلة، أو صاروخ على موقع أو هدف سواء كان عسكرياً أو مدنياً فإنهم يحدثون نوعين من التدمير والقتل: النوع الأول هو القتل المباشر والقضاء الفوري على الهدف ومحيطه، والثاني هو القتل غير المباشر والذي يمكن أن يؤدي إلى سقوط الضحايا على نحو بطيء أو سريع في مدة زمنية قد تطول أو تقصر، وهذا القتل، النوع الثاني منه، هو قتل البيئة بالسموم والمواد الكيماوية الناجمة عن انفجار الذخائر، والتي تلوث التربة والمياه ومن ثم تنبثق في الجسد السوري في سرطانات وأمراض جلدية وتشوهات خلقية وهذا ما تشهده سوريا في أثناء الحرب بأرقام مخيفة.

وبحسب أرقام كشفت عنها مصادر سورية رسمية يحتل مرض السرطان المرتبة الأولى بين الأمراض التي تصيب السوريين بسبب المواد السامة والمؤكسدة وأشكال التلوث الأخرى، ومما يزيد الطين بلة صعوبة تلقي العلاج بسبب ظروف الحرب والغلاء الرهيب للأدوية وعدم توفرها أحياناً.

وفي دير الزور، وبحسب تقارير محلية ودولية، انتشرت أكاسيد الكبريت وكبريت الهيدروجين والهيدروكربونات بسبب قيام داعش باستخدام أساليب بدائية في استخراج النفط وتكريره أدت إلى انبعاث الدخان الذي أطلق هذه المواد التي سببت انتشار الأمراض الجلدية والتشوهات الخطيرة. وتشكلت نتيجة لذلك أمطار حامضية محملة بأكاسيد الرصاص المسرطنة.

لا يقتصر الأمر على هذا، فقد تراكمت النفايات في مناطق عديدة على امتداد البلاد وقد أدى تخمرها إلى تلوث التربة والمياه الجوفية كما أن القطع المنظم للأشجار في كل أنحاء البلاد بسبب أزمة الوقود التي أجبرت السكان على أن يعانوا من شتاءات قارسة جرد البيئة من أهم دفاعاتها.

وإذا ما تجول المرء في الغابات وفي السفوح الجبلية والأودية السورية سيسمع أنين الجذور المبتورة ويرى ملامح التصحر في تقاطيع المكان، فأشجار السنديان والبلوط والدلب والسرو والحور والقطلب والزعرور والدوام استهدفتها فؤوس الحرب وتجارها الذين جردوا سوريا من جيش طبيعي مسلح بالخضرة يحمي بيئتها.

وفي المدن السورية الكبرى إما تتراكم النفايات أو تْحرق وكل أمر أسوأ من الآخر فإحراقها يؤدي إلى إطلاق السموم في الجو، وعدم التمكن من إزالتها يؤدي إلى انتشار الروائح الكريهة كما أن تخمرها وتعفنها يلوثان التربة والمياه الجوفية.

هذا جزء من الواقع الذي أنتجته الحرب في سوريا والتي أدت إلى تدمير وقتل وتشريد لا مثيل لهم في العصر الحديث، ويمكن القول إن النتائج السلبية لهذه الحرب لن تنتهي مع توقف هدير الدبابات والطائرات وصوت البنادق، لأن التخلص من التلوث وسمومه يحتاج إلى وقت طويل.

ولا يسعني إلا أن أقول إنه تقع على عاتق السوريين المعنيين بمستقبل سوريا مهمتان مصيريتان: الأولى هي حماية ما تبقى من البيئة وتنظيف ما تلوث منها، وهذا يحتاج إلى جهود جبارة، أما المهمة الثانية فهي تنقية البيئة الاجتماعية والثقافية والفكرية والسياسية من التلوث الطائفي عبر حوار وطني شامل من الصعب تخيل كيف يمكن أن يحدث الآن. لكن ربما في المحاولة يكمن جزء من النجاح.

مواضيع ذات صلة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 خلال مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء، والتي استمرت لأكثر من نصف قرن، أبدَعَ مدرسة لحنية وغنائية متفردة وغنية ومتكاملة، تركت بصمتها المؤثرة في تاريخ الموسيقى العربية، وقد ساعدته موهبته في الغناء في فهم طبيعة الأصوات التي لَحَّن لها، فكان يُفصِّل اللحن على مساحة...

جُرح في الزوبعة

جُرح في الزوبعة

كانت حياة أنطون سعادة القصيرة (1904-1949 م) أشبه بدورة الإله بعل في الميثولوجيا الكنعانيّة القديمة، فبعل الذي يموت ويولد على نحوٍ أبديٍّ، وفقاً لـ"ألواح أوغاريت"، يرمز إلى "بلاد كنعان" أو "فينيقيا" تبعاً لتسميتها اليونانيّة القديمة، هذه البلاد التي مهما حاقَ بها من...

زكي الأرسوزي أو أمل ضائع بأُمّة تنبعث من عبقريّة لسانها

زكي الأرسوزي أو أمل ضائع بأُمّة تنبعث من عبقريّة لسانها

تعرّض زكي الأرسوزي (1899-1968 م) لإهمال كبير، ولم يُكَرَّس في الأدبيات الفلسفيّة العربيّة إلا على نحوٍ عَرَضيّ، بصفته أحد دعاة الفكر القوميّ، ومؤسِّس فكرة حزب البعث العربيّ، التي أخذها ميشيل عفلق منه وحوّلها إلى تنظيم سياسيّ فاعل في سوريا، وتلاشى ذكر الأرسوزي مع تلاشي...

مواضيع أخرى

الدراما السورية في موسم 2024: مبالغات تخطت الحدود واستسهال واضح

الدراما السورية في موسم 2024: مبالغات تخطت الحدود واستسهال واضح

لا يختلف اثنان أنّ الدراما السورية أحدثت فارقاً وصنعت بريقاً أخاذاً في فترةٍ ذهبيةٍ امتدت ما بين عامي 2000 و2010. وتحديداً ما بين مسلسل الزير سالم الذي أخرجه الراحل حاتم علي ووضع فيه الراحل ممدوح عدوان عصارة ما يمكن لكاتب المجيء به نصاً وحواراً وأحداثاً ليجعل منه...

استنساخ المسلسلات السورية وغياب الحاضر

استنساخ المسلسلات السورية وغياب الحاضر

أهتم كثيراً بمتابعة الدراما العربية، خاصة السورية، وثمة مسلسلات سورية لامست أوجاع السوريين وما يتعرض له الشعب السوري مثل مسلسل غزلان في غابة من الذئاب للمخرجة المبدعة رشا شربتجي. هذا المسلسل أثلج قلوب السوريين كلهم لأنه حكى بصدق وشجاعة ونزاهة عن أحد كبار المسؤولين...

الأمهات في سورية: عيد ناقص

الأمهات في سورية: عيد ناقص

غدت الأمومة في سورية مهمة قاسية ومثقلة بالهموم واكتسبت أوجهاً كثيرة، إذ انتزعت الحرب دور "الأم" الأولي المناط بالعطاء والتربية والمساند المادي الثانوي، وبدأت كثير من الأمهات يلعبن دور المعيل الأساسي ومصدر الدخل الوحيد لتحمل نفقات الأسرة في ظل غياب قسري أو اختياري...

تدريباتنا