في أحد أشدّ أيام سوريا حساسيةً وأكثر مفاصلها تعقيداً، تحديداً في اليوم الرابع...
تدريباتنا
ورشة تدريب صالون سوريا
أجرى فريق #صالون_سوريا، دورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة الحساسة...

تطفو اعلى سطح المشهد السوري ثنائية متضادة: واقع معيشي متردٍّ، والتكيف مع سلطة جديدة. فالنظام السابق، الذي طالما صاغ سردية تبسيطية عن المعارضة بمختلف أطيافها، تستخدمها اليوم موالاته في تفكيك سلوكيات الإدارة الجديدة، متجاهلين طبيعة البلاد كدولة متآكلة، لا سيما على المستويين السياسي والاقتصادي. هذه المخاوف ليست وليدة اللحظة، بل تعكس تراكمات من التفكك الاجتماعي الذي عزّزه النظام السابق عبر التفرقة المناطقية، وأدى إلى ترسيخ الخوف من السياسة والسلطة، حتى بين من لم يكونوا جزءاً من منظومته.
لكن، هل كان السوريون يعرفون بعضهم البعض حقاً؟ ربّما على المستوى الظاهري، من خلال اللهجات والملامح الدينية، لكن هل امتلكوا وعياً كافياً بمستقبل البلاد بعد سقوط الدولة الأمنية؟ منذ اندلاع الثورة السورية وحتى سقوط النظام، ظل الهدف الأسمى هو الإطاحة بالأسد، دون إدراك أن جزءاً كبيراً من السوريين-قد يصل إلى بضعة ملايين لم يكونوا يرغبون في سقوطه، إما خوفاً من الفوضى، أو بسبب استفادتهم منه أمنياً واقتصادياً. في المقابل، كان هناك كثيرون لم يدركوا تماماً تبعات انتصار الثورة، ليس فقط من حيث نشوة التغيير، بل من حيث ضرورة البحث عن بدائل واضحة وصياغة رؤية متماسكة لشكل الدولة القادمة، وهو نقاش لم يُفتح بجدية خلال سنوات الثورة. فهل يحلّه النضال السياسي السلمي في المرحلة القادمة؟
بين السلطة الجديدة وأزمة الثقة
اليوم، بعد سقوط النظام، يواجه السوريون معضلة إعادة بناء الثقة فالحكّام الجدد يمتلكون تصورهم السياسي لإدارة البلاد، بينما الشارع السوري يتملّكه القلق، محاصراً بأسئلة واحتجاجات حول هذا التصور. وبدل أن يكون الحوار الوطني عملية ممتدة، تستكشف المخاوف والمجاهل، اقتصر على لقاءات محدودة لم تشمل جميع المناطق، ولم يستمر سوى يومين انتهيا ببيان فضفاض، لم يحدد آليات التنفيذ، بل أجّل البتّ في قضايا لا تقلّ أهمية عن العدالة الانتقالية ووحدة سورية، مثل قوانين الأحزاب والعمل الثقافي (راجع مقالتي “قراءة في بيان الحوار الوطني السوري” المنشورة في في صالون سوريا، 28 فبراير 2025).
بعد مرور ثلاثة أشهر على سقوط النظام، تزداد أزمة الثقة وضوحاً، حيث يقف السوريون بين جوع خانق وأمل مرتجف، بين الحاجة إلى الخبز والحاجة إلى المعنى. فالنظام السابق لم يكن مجرد كيان سياسي، بل ممارسة ممتدة من القهر، حيث تحوّلت السياسة إلى مزيج من الخوف والفساد والانتهازية. واليوم، في ظل انهيار الاقتصاد، تترسخ قناعة شعبية بأن خطابات التغيير وحدها لا تكفي، وأن الحكم الجديد سيُختبر بقدرته على استعادة السياسة بوصفها أداة لإنقاذ الوطن، لا مجرد إعادة إنتاج للسلطة.
ما الذي يجب أن يحدث؟
الخطوات الأولى يجب أن تبدأ بكسر احتكار القرار وإعادة تعريف السياسة كأداة لإعادة توزيع الموارد، لا كوسيلة لتثبيت النفوذ. لا يمكن لأي سلطة جديدة أن تؤسس شرعيتها دون مواجهة أزمة الثقة بشفافية، عبر سياسات اقتصادية تُنصف الفئات الأكثر تضرراً، وقنوات تواصل تعيد للناس الإحساس بأن أصواتهم مسموعة، وخطوات ملموسة تُخرج السياسة من دوامة الشعارات إلى ميدان الفعل.
لكن وسط هذا المشهد، يفاقم غياب إعلام وطني مستقل الأزمة، إذ يترك الباب مفتوحاً أمام سيل من الأخبار المتضاربة، ما يؤدي إلى خلط الحقائق وضياع القضايا المحقة وسط انتشار الشائعات. هذا الفراغ الإعلامي يسمح للقوى الموالية للأسد حتى اللحظة بمواصلة نشر الخوف والتضليل، غير آبهة بمستقبل البلاد، بل ساعية إلى تفتيت المجتمع وتعميق الانقسامات عبر الدعاية الرقمية. في ظل هذا الواقع، لا يمكن إعادة بناء المشهد السياسي دون إعلام مسؤول يواكب اللحظة بصدق، ليكون جسراً بين الشارع والإدارة، بدل أن يُترك المجال لمنصات الفوضى التي تخلط الأوراق وتبدد إمكانات التغيير.
الإرث الثقيل للنظام
لم يكن النظام السوري مجرد سلطة ديكتاتورية، بل شبكة اجتماعية وأمنية زرعت في المجتمع ثقافة سياسية قائمة على الخوف والاصطفاف الأعمى. ليس غريباً إذن أن نجد اليوم من كانوا جزءاً منه –من العسكريين والموظفين والمخبرين يُعيدون تموضعهم، متباكين على انهياره وكأنهم ضحاياه. هؤلاء الذين استفادوا من سلطته ليقتلوا معنوياً ومجازياً، بلا حساب، وحين لم يُعاد إنتاجهم في النظام الجديد، قرروا لعب دور الثوريين، ولم يكن هذا انتقالاً سياسياً، بل محاولة لإعادة إنتاج أنفسهم.
في قلب هذا الخراب، يظهر إرث حافظ الأسد، الذي زرع في الأذهان أن الطوائف لا أمان لها دون سلطة قمعية تحميها، فبقي هذا الوهم مترسخاً حتى بعد سقوط النظام. فبين من يرى أن زوال الأسد هو نهاية الوطن، ومن يظن أن أي سلطة جديدة هي استمرار للاستبداد، تضيع إمكانية التفكير بمسار مختلف، حيث لا تعني السياسة مجرد ولاءات، بل إعادة بناء المعنى نفسه بعد عقود من التزييف.
هل يمكن تجاوز هذه الأزمة؟
إن الدول الضعيفة تنتج شعوباً هشّة سياسياً، لكن لا يوجد شعب عقلاني بالفطرة، ولا عاطفي بالفطرة. هناك ظروف تخلق ثقافة سياسية معينة، والمجتمع السوري بحاجة اليوم إلى تجربة سياسية حقيقية، وإعلام مسؤول، وتعليم جيد، واقتصاد مستقل، ونخب غير شعبوية. لا تتغير الشعوب بالكلام، بل بالممارسة والتجارب. واليوم، بعد سقوط النظام، فإن الرهان ليس على مجرد تغيير الحكام، بل على تغيير مفهوم السلطة نفسها، بحيث تصبح السياسة فعلاً جماعياً، لا أداةً لاحتكار القرار، ولا منصةً لتصفية الحسابات.
يهزم الإنسان حين يسلّم بسرديات الأنظمة الساقطة، دون أن يختبر حريته بنفسه أو يعبّر عن ذاته بصدق ومسؤولية. وحده الصدق المسالم والحضاري يصنع المعنى الحقيقي للحرية. سورية اليوم ليست في صراع على بناء الدولة، بل على من يملك الحق في الحديث باسمها. وحتى يُحسم هذا الجدل، سيبقى الوطن معلقاً بين خطاب الماضي وأوهام المستقبل، في انتظار من يعيد بناء الثقة التي فُقدت بين الجميع.
مواضيع ذات صلة
مواضيع أخرى
تدريباتنا
فوضى الإعلام والحاجة إلى شاشاتٍ وطنيةٍ موثوقة
في أحد أشدّ أيام سوريا حساسيةً وأكثر مفاصلها تعقيداً، تحديداً في اليوم الرابع...
ورشة تدريب صالون سوريا
أجرى فريق #صالون_سوريا، دورة تدريبية عن الانواع الاعلامية والصحافة الحساسة...