تدريباتنا

عشوائيات دمشق… صناديق الفقراء والمثقفين

بواسطة | نوفمبر 14, 2021

بلوكات تشكل صناديق مربعة أو مستطيلة تطل من كل الاتجاهات على دمشق. تختلف في البعد، لكنها تشكل طوقاً حولها. هذه الأضلع المتشابهة من البلوكات ليست حكراً على الفقراء فقط، في منازلها العشوائية وعلى أدراجها التي يعجز عن تصميمها أهم المهندسين تعيش نُخب ثقافية من كتّاب وكاتبات، مهندسين/ات، أطباء وطبيبات، وأساتذة جامعة، وصحفيين /ات، يصعدون كل يوم مئات الأدراج للوصول إلى منازلهم، أو ربما كان حظ أحدهم عظيم فاستطاع أن يهرب من حفرةٍ ولم يقع بها منتصف أو طرف الطريق. هنا الجميع متساوون في الحقوق، حق صعود الأدراج، وحق المرور أو ربما العيش بجانب خزانات كهرباء مفتوحة دائماً، وحق أن يشارك الجار جاره حتى بغرفة النوم بسبب انعدام المساحات الآمنة للعيش والحياة، نعم في عشوائيات سوريات لا يعيش الفقراء فقط، بل للنُخب حياةٌ في صناديق العشوائيات.

أحزمة البؤس!
“ماشفت حالي هون”، هكذا عبر فادي (38 عاماً) وهو أحد النحاتين الشباب عند سؤاله عن عدم سكنه في عشوائيات حي المزة بحكم تواجد الكثير من أبناء منطقته في المكان، ربما أتاحت له ظروفه الاقتصادية أن يرقى بفنه خارج جدران حارات لا تدخلها الشمس إلا قليلاً، بينما يرفض الكاتب ناظم مهنا تسمية “النخب”، ويشير أن العيش ضمن أسوار أحزمة البؤس (العشوائيات) حول المدن ليس اختيارا،ً إنما وجدت هذه الأحزمة كي تستوعب الفقراء الذين لا يستطيعون السكن الا بمثل هذه الأماكن. تجمع هذه الأحياء المتناقضات من فقراء وغير فقراء، متعلمين وغير متعلمين، فيها الشعراء والفنانين والكتاب، كل هؤلاء يعيشون في مكان غير لائق وغير إنساني على حد تعبيره. ويسأل: ” ماذا لو شُيدت هذه المنازل على ذات المساحة المشغولة والحافلة بالتناقضات بطريقة لائقة؟”.
توافق المحامية زينة إبراهيم كلام الكاتب، وتشير أنّ من يعيش في هذه المنطقة لديه رضا مبطن بالألم. ألم المعاناة اليومية من طرقات سيئة، ومنازل بدون شكل، و “كل ما يفعله الناس هنا، أن الجميع يستيقظ على مشاهد التلوث البصري في العمران”، وما يوحد الناس هنا أيضاً هو الحلم بمنزل لائق للعيش، دون الشعور أن كل جار يجلس مع جاره ويشاركه حتى غرفة النوم والمطبخ، منزلٌ يفضل بين الجيران جدران ومساحة آمنة.

ملك..الحمد لله!
تشكر المعلمة نجوى ( 40 عاماً) الرب أن لديها صندوقاً لا تدخله الشمس، تسكن به مع أسرتها، يقع على أحد أدراج “المزة 86” غرب دمشق، وتتعايش مع المجتمع بكل تفاصيل الحياة من جيران وسكان جدد عابرين ومستقرين في الحي، لكن تتحدث لـ “صالون سوريا” ضاحكة بمفارقة صباحية تعيش بها، وتقول، ان الآنسات في المدرسة التي تعلم بها يتحدثن عن النوادي الرياضية التي يرتادونها، وتفضل أن تبعد أبناءها عن الاختلاط مع الأقران في الشوارع، بسبب الخوف من سلوكيات لاحظتها عند الأطفال.
وفي الحديث عن تفاصيل الحياة في هذه العشوائيات التي تحمل فوق طرقاتها الوعرة ومنازلها الكرتونية، لا تختلف عن أي حي آخر سوى الضجيج الذي يعيق هدوءَ الحال لبعض الناس، حيث يتابع الكاتب مهنا أن الإنسان “مضطر للتكيف مع الأمر الواقع هنا”، أي في العشوائيات “ضجيج وزحام وفوضى شاملة، والسكن أيضاً بلا إيجابيات إلا كمأوى، لكن في هذه الأحياء يوجد أثرياء سعداء، وتفاصيل حياتي في السكن كشخص يكتب ويقرا الكتب ويلتقي بأشباهه لا تختلف كثيرا عما لو كنت في حي اخر، هذا العالم المحيط بي أشبه بعالم الحشر أو الجحيم حسب تعبيره، ولا يعتقد أن أحلام الخروج من هذا الآتون سوف تتحقق”.

منزل الأحلام!
تسند المحامية زينة رأسها على شباك “السرفيس” الذي يعود بها بعد عراك يومي مع الحياة إلى العشوائيات، وتحلم بمنزل في حي منظم، يعيش فيه طبقات متوسطة من الناس، تستطيع أن تستيقظ فيه دون صوت جارة تسلل عبر البلوكات العشوائية إلى غرفة نومي. تشاركها الصحافية حسناء (30 عاماً) بنفس الحلم، اي “غرفة وصالة خارج حدود العشوائيات:ـ لكن تقول أنه لسوء حظ هذه المهنة أنها تقوم على آلام الناس.
وتعتقد حسناء أن هذا المكان مليء بالقصص التي تخدم الدراما والمواد الصحفية “فيمكن أن يموت بعض الأطفال هنا في حفرةٍ للصرف الصحي إذا قرر اللعب بالشارع دون انتباه، وهنا أيضاً مات الناس يوم خفست بهم الأرض من عامين، وفي هذه المنطقة حيث هبطت الأرض والمنازل يعيش فقراء ومثقفون ونخب أيضاً”. ورغم كل ذلك لاتزال حسناء وزينة تحلمان بالخروج من صناديق البلوك، بعكس السيد ناظم الذي انعدم حلمه في العيش خارجها لصعوبة الواقع. ربما كان الكاتب الذي يحيك روايات وقصصاً واقعياً بحبكته أكثر من صحفية تنقل معاناةٍ خدمية يومية للناس، ومحامية تنتظر حكماً قضائياً لطفل حاول سرقةَ جارته يوماً في ذات الأحياء.

موقف قاس
لا يمر يوم مع أي مواطن دون حصول موقفٍ أو حادثة تعلمه دراساً يجعله يشعر إما بالرضى أو الحزن، وأحياناً يجعله يسأل أسئلة وجودية يحاور بها الرب؟ وكيف إذا كان يعيش في العشوائيات؟
تتذكر الصحافية أن أقسى موقف وضعت به يوم طافت الشوارع في منطقة “المزة 86” وبقيت ساعة ونصف تنتظر كي تصل بيتها رغم أن قطع مسافة الوصول لم تكن يتجاوز الخمس دقائق، وسألت الرب يومها لماذا تعيش هنا؟
وعاشت زينة في ذات الموقف ووجدت حلولاً بديلا كحمل حذائين مثلاً أحدهما للعمل وأحدهما للعشوائيات، لكن من أصعب المواقف التي أحياناً تلعن حظها عليها، وبعدها تحمد الله، عندما تحمل أسطوانة الغاز وتتسلق بها أدراج منزلها المرتفعة.
بين هذه البلوكات التي ترتفع أسعارها شراء وأجاراً شهرا بعد شهر، يقرأ الساكن والمتابع عن كثب كل حكايا المتناقضات بحبكات واقعية، تختلط فيها كل حياة الفقر والثراء والحب وحرب الحياة، تتجاور الهموم بنوافذَ تطلُ على بعضها، تنقل للجار حديثاً عابراً لجاره؟ بين كل هذه البلوكات تعيش بعض النُخب السورية، وتصدر الكثير من المؤلفات والمواد الصحفية والوصفات الطبية وينجخ الطعن بقرارات محكمية.

مواضيع ذات صلة

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

طيب تيزيني اسم أكبر وأهم من أن نُعرِّفه عبر سطور أو صفحات قليلة؛ لأنه جسَّد أفكاره تجسيداً عملياً، فكانت مؤلفاته تفيض من تفاصيل حياته ومواقفه الإنسانية والسياسية، وكانت حياته ومواقفه وبحق تعبيراً صادقاً عن أفكاره وفلسته، فكان فيلسوفاً بل حكيماً بكل ما تعنيه هذه...

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 خلال مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء، والتي استمرت لأكثر من نصف قرن، أبدَعَ مدرسة لحنية وغنائية متفردة وغنية ومتكاملة، تركت بصمتها المؤثرة في تاريخ الموسيقى العربية، وقد ساعدته موهبته في الغناء في فهم طبيعة الأصوات التي لَحَّن لها، فكان يُفصِّل اللحن على مساحة...

جُرح في الزوبعة

جُرح في الزوبعة

كانت حياة أنطون سعادة القصيرة (1904-1949 م) أشبه بدورة الإله بعل في الميثولوجيا الكنعانيّة القديمة، فبعل الذي يموت ويولد على نحوٍ أبديٍّ، وفقاً لـ"ألواح أوغاريت"، يرمز إلى "بلاد كنعان" أو "فينيقيا" تبعاً لتسميتها اليونانيّة القديمة، هذه البلاد التي مهما حاقَ بها من...

مواضيع أخرى

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

لشهر رمضان في سوريا عاداتٍ وطقوسِ اجتماعية وإنسانية، حرصت العائلات السورية على توارثها والتمسك بها عبر عشرات السنين، حتى تحولت إلى ما يشبه التراث الاجتماعي، ومن أشهرها "سِكبة رمضان" التي  تخلق حالة من الألفة والمحبة والتكافل الاجتماعي بين الناس، الذين يتبادلون...

“عيدٌ بأية حالٍ عدتَ؟”: غلاءٌ وعوائل حزينة

“عيدٌ بأية حالٍ عدتَ؟”: غلاءٌ وعوائل حزينة

لطالما يسخر السوريون من أنفسهم حين يكررون في كل عيدٍ الشطر الأول من قصيدة المتنبي "عيدٌ، بأية حالٍ عدتَ يا عيد؟"، ربما كان معظمهم يعلم شطره الثاني: "بما مضى أم بأمرٍ فيك تجديد"، وأنّ تشابه أيامهم بات فيه من السخرية الكثير، ولكنّ لا شك-أنّ معظمهم لم يكمل القصيدة، لا...

الجمعيات الخيرية: المنقذ الرمضاني في غياب الدعم الحكومي

الجمعيات الخيرية: المنقذ الرمضاني في غياب الدعم الحكومي

مع بدء الحرب السورية تمكنت المؤسسات والمنظمات غير الربحية المندرجة تحت مظلة المجتمع المدني من إثبات وجودها وترك بصمتها على أرض الميدان، فكانت الجمعيات الخيرية والمبادرات الفردية الإنسانية أولى الجهات غير الرسمية التي استطاعت توسيع دورها على خارطة العمل وإنقاذ الفئات...

تدريباتنا