تدريباتنا

عمر أميرلاي: رائد السينما التسجيلية السورية وصانع نهضتها

بواسطة | نوفمبر 20, 2023

في مطلع سبعينيات القرن الماضي وبينما كان معظم صناع السينما في سوريا يتجهون نحو إنتاج الأفلام التجارية الرائجة، كان السينمائي الشاب عمر أميرلاي، ومن خلال عدسة كاميرته الثاقبة والذكية،  يَشقُّ طريقاً سينمائياً يختلف عن السائد، ليُشكل الملامح الأولى لصناعة السينما التسجيلية السورية، ويعمل على تطويرها. وفي وقتٍ كان فيه معظم السينمائيين السوريين والعرب يهربون من صناعة السينما التسجيلية، نحو السينما الروائية والأعمال الدرامية، كي يتجنبوا الصراع مع السلطات السياسية والرقابية والدينية، كان أميرلاي يعمل على كشف ممارسات تلك السلطات ليؤسس بذلك لمدرسة سينمائية نقدية استقصائية تطال جذور المشاكل وأسبابها، وتعالج أبرز القضايا الإنسانية والإجتماعية، فهو الذي يقول : ” لولا السينما لما كنت خضت في وحل واقعنا، ولما كنت عرفت الإنسان وأحببته، ولما كنت اكتشفت تلك الحقيقة البديهية من أنني جزء من الحياة وليس العكس، ولما كنت روَّضت طبعي العدمي ونزقي قبل أن أعرف إلى السينما سبيلاً”.  

ولد أميرلاي في دمشق عام 1944، بدأ مسيرته الفنية كرسام كريكاتير، سافر إلى باريس ليدرس المسرح في جامعة “مسرح الأمم” بين عامي 1966 و 1967، ثم  انتقل إلى دراسة السينما في المعهد العالي للدراسات السينمائية في باريس، لكنه توقف عن الدراسة بعد أحداث ثورة الطلبة التي وقعت في جامعة مونتير عام 1968، والتي أدخلته إلى ميدان العمل السياسي، ليعود بعد ذلك إلى دمشق في العام 1970 ويبدأ مسيرته الفنية بفيلمه  محاولة عن سد الفرات .

 منذ بدايتها تميزت تجربة أميرلاي السينمائية بصوتها النقدي المرتفع والمنادي بالحرية والعدالة، حيث عالجت قضايا الحريات المكبوتة بطريقة ذكية استطاعت تجاوز سلطة الرقيب، وأظهرت الواقع الحقيقي لسوريا دون تجميلٍ أو مواربة، لتوصل صوت الناس المهمَّشين والمقهورين وتوثِّق جانباً من حياتهم البعيدة عن الأضواء، وتفضح الواقع المؤلم الذي صنعه المفسدون في البلاد، مُشكٍّلة بذلك ثورة حقيقية في صناعة السينما السورية. ورغم أن الأفلام التسجيلية لم يكن لها الانتشار الواسع، ولم تكن تحقق مشاهدات كبيرة أو تجني أية أرباحٍ تُذكر، ظل أميرلاي طيلة حياته ملتزماً بخطه السينمائي، المنحاز لقضايا الشعب، ومخلصاً لمبادئه وأفكاره التي تأثر بها الكثير من المثقفين العرب، فحقق في عصره ما عجز عنه معظم زملائه السينمائيين.

ورغم أن أعماله  تنتمي إلى السينما التسجيلية إلا أنه استخدم فيها تقنيات السينما الروائية، بمختلف فنونها الإبداعية، التي أبرزت مدى فهمه وإتقانه للغة السينما، وذلك من خلال اختيار كوادر الفيلم وحركات الكاميرا وزوايا التصوير والمؤثرات البصرية وإنتاج الصورة السينمائية المكثَّفة والمعبِّرة والتي تنتصر على التعليق الصوتي في كثيرٍ من المشاهد، لتقدم العديد من الأفكار والمقولات دون حاجةٍ للكلام، هذا إلى جانب إدخاله لعنصري الحكاية والخيال الفني إلى المادة التسجيلية كي يُحررها من الجمود والحالة التقريرية، ليقدم بذلك فيلماً تسجيلياً بإحساس إنساني عالٍ وبلغةٍ سينمائية شاعرية وبديعة، استطاعت بفضاءاتها الجمالية وقوة تأثيرها أن تخفف من حجم قسوة وبشاعة المواضيع التي تم تناولها، فيما استعاض عن استخدام الموسيقى التصويرية في معظم أفلامه باعتماده على أصوات الطبيعة وأصوات الحياة اليومية التي منحت أفلامه بعداً سينمائياً مميزاً وقوة تأثير مضاعفة.

عدسة تؤرِّخ الوجع السوري  

في وقتٍ لم يكن السوري يعرف ما يجري خارج حدود قريته أو مدينته، استطاع أميرلاي من خلال فيلم الحياة اليومية في قرية سورية أن يسلط الضوء على معاناة وأوجاع سكان قرية المويلح/ دير الزور، التي تشبه حال الكثير من القرى السورية، حيث صوَّرت عدسة كاميرته الثاقبة أدق تفاصيل الحياة اليومية البائسة التي يعيشها سكان القرية المحرومة من أبسط متطلبات الحياة في ظل تراجع حجم الإنتاج الزراعي. وقد اعتمد الفيلم، الذي منعته الرقابة من العرض، على وجهتي نظر تكرسان حجم الهوة الكبيرة بين الواقع الحقيقي وما يقوله المسؤولون في الدولة والإعلام. فبينما يقول طبيب القرية إن نسبة الوفيات بين الأطفال قليلة، تكشف لنا الصورة السينمائية واقع الأطفال المصابين بالهزال، وارتفاع نسبة وفياتهم نتيجة تفشي الكثير من الأمراض في القرية. وبينما نجد معلم المدرسة يوعِّي التلاميذ بضرورة الاهتمام بنوعية الأغذية التي تجعل أجسادهم صحيةً وقويةً، نجد أن  طعام معظم الناس لا يتعدى الخبز والشاي الأسود، وأن غالبتهم تعاني من فقر الدم وسوء التغذية.  

قُّدِم الفيلم بطريقة سينمائية تقترب من أسلوب السينما الإيطالية الكلاسيكية، حيث أبرزت لقطاته الطويلة والمعبِّرة جانباً من الطبيعة الساحرة للمكان، وأضاءت على كثيرٍ من الطقوس والتفاصيل الإنسانية المميزة التي يعيشها الفلاحون البسطاء والمعدمون، والتي أظهرت أجمل ما فيهم من صفات طيبة ونبيلة رغم قساوة المكان والظروف المؤلمة التي تعصف بحياتهم.

وفي فيلم الدجاج يرصد أميرلاي حجم التغيرات المخيفة التي وقعت في قرية صدد / حمص، التي كانت تشتهر بالصناعات النسيجية اليدوية (البسط والأزياء التقليدية وغيرها) وتمتلك نحو 400 نول، حيث تخلى معظم  حرفيو القرية عن تلك الصناعة العريقة نتيجة تدهور الأوضاع الاقتصادية في البلاد، ناسين تراثهم الثقافي والمهني، ليلجؤوا، إلى جانب الكثير من فلاحي القرية، إلى إنشاء المداجن وتربية الدجاج، ولكن مشاريعهم هذه، ورغم إنفاق الكثير من الأموال عليها، لم تحقق لهم أية أرباحٍ تذكر، وذلك نتيجة ارتفاع أسعار الأعلاف والأدوية وجميع مستلزمات تربية الدجاج، وعدم تقديم مؤسسات الدولة أي دعم أو مساعدة لأصحاب المداجن، الذين اضطروا بعد خسائرهم  المتعاقبة للتخلي عن تلك المشاريع والبحث عن أعمال أخرى، أو مغادرة بلدتهم نحو الخارج للبحث عن فرص عملٍ مناسبة.

تم تصوير الفيلم بلغة سينمائية رمزية جمعت بين التسجيلي والروائي وتضمنت جانباً من الكوميديا السوداء، المستوحاة من فن الرسم الكاريكاتوري، حيث يظهر الدجاج في الفيلم، من خلال اللقطات القريبة المصحوبة ببعض الأغاني والموسيقى، وكأنه شخصيات بشرية تنفعل وتُعبِّر عن ضجرها وسأمها من الواقع، فيما تظهر رؤوس الدجاج في لقطات أخرى، ومن زوايا مختلفة، وهي تتحرك بسرعة وترافقها أصوات بعض المسيرات والهتافات وكأن المشهد يحاكي محاولة تدجين الشعب. ويقول أميرلاي في حديثه عن هذا الفيلم: “اخترت أن أحكي عن البشر بلغة الحيوان، فذلك نوع من التعبير عن قهر المثقف، وعجزه عن إنطاق الناس”.  

 استطاع أميرلاي بحنكته وذكائه أن يتحدى سلطة الرقابة ليخرج فيلمه الشهير طوفان في بلاد البعث  الذي تضمن نقداً سياسياً لاذعاً لممارسات سلطة حزب البعث في البلاد، وأبرز مدى تغلل الحزب في جميع مفاصل الحياة والآثار المترتبة على سياساته، خاصةً فيما يتعلق بواقع التربية والتعليم، ليُرينا من خلال تصوير إحدى المدارس النظام التعليمي الأشبه بالنظام العسكري، والذي يزرع أفكار البعث في أدمغة التلاميذ، حيث يظهرون في بعض المشاهد، بطريقة كوميدية سوداء، وهم يرددون شعارات البعث ويغنّون نشيده ويتلقون الدروس التي تتحدث عن إنجازاته. وقد تم تصوير الفيلم في قرية النائب ذياب الماشي، الذي  شغل منصب عضوٍ في مجلس الشعب لنحو 55 عاماً متواصلاً، ويظهر الماشي في بعض المشاهد بشكلٍ كريكاتوري ليتحدث عن إنجازات البعث ويمدح قياداته ويمجدها، فيما يظهر مدير المدرسة، وهو أحد أقرباء الماشي، ليشيد بالدور الريادي لحزب البعث في دعم العملية التعليمية وتربية الأطفال على حب الوطن، بشكلٍ يثير السخرية والحزن في آن معاً.

بدت معظم لقطات الفيلم طويلة وصامتة تعكس حالة الجمود والرتابة والروتين الممل الذي تعيشه البلدة عموماً والمدرسة خصوصاً. ونتيجة لصوته النقدي المرتفع، مُنع الفيلم من العرض في سورية، ثم لاحقته الرقابة السورية إلى مهرجان قرطاج في تونس لتُخرجه من المسابقة الرسمية للمهرجان، فيما تعرض أميرلاي للملاحقة الأمنية واستدعى للتحقيق أكثر من مرة ومُنع من السفر.

الجولان المحتل حضر في فيلم طبق السردين  من خلال تداعيات ذاكرة أميرلاي التي أعادته إلى لقائه مع خالته وهو في عمر السادسة، ليتذكر طبق السردين الذي كانت تفوح رائحته في منزل الخالة، التي حُرمت عائلتها من تناول السمك الطازج الذي كان يأتيها من يافا قبل احتلالها من قبل إسرائيل. تتجول كاميرا الفيلم في شوارع مدينة القنيطرة لتُظهر الكثير من مشاهد الدمار المؤلمة التي خلفها الاحتلال الإسرائيلي، فيما يظهر مبنى سينما الأندلس، المبنى الوحيد الذي نجا من الدمار. ولكي يبتعد الفيلم عن الحالة التقريرية استطاع  أميرلاي بإبداعه السينمائي أن يوجد خطاً روائياً يدعمه خيالٌ بصري، تَظهر فيه شخصية طفلٍ يحاكي طفولة أميرلاي بشكل حكائي، لتسير مشاهد الفيلم في خطين، تسجيلي وروائي حكائي.

سينما تخطت حدود سوريا

لم يكتف أميرلاي بتسليط الضوء على القضايا الإنسانية والاجتماعية في سوريا فقط بل انطلق إلى خارجها ليصنع في مصر عام 1983 فيلم  الحب الموؤد الذي يُعتبر من أجرأ الأفلام الاجتماعية العربية التي تجاوزت الخطوط الحمراء. ويتناول الفيلم واقع المرأة ومعاناتها في ظل مجتمع محافظٍ تحكمه العادات والتقاليد الدينية والمجتمعية والسلطة الذكورية، ويتطرق بجرأة نادرة لفكرة الحب والجنس خارج نطاق الزواج، ويُرينا انعدام الثقافة الجنسية في المجتمع، كما يطرح مدى المعاناة النفسية والجسدية التي يعيشها الشباب، من كلا الجنسين، في ظل حرمانه من الحب والعلاقات الجسدية، وهو ما يضطره لكبح غرائزه وشهواته الجنسية أو اللجوء إلى الدين ليساعده على ضبطها، إذ لا يمكنه إشباعها خارج نطاق الزواج، الذي لا يستطيع البعض إليه سبيلاً في ظل ارتفاع تكاليف المهر. كما يضيء الفيلم على الواقع المؤلم الذي تعيشه المرأة المتزوجة، التي تتلقى شتى أنواع العنف والاضطهاد من قبل زوجها، ليكشف لنا كيف تعيش قيوداً مؤلمة حتى ضمن العلاقة الجنسية مع الزوج الذي، في كثير من الأحيان، يمارس تلك العلاقة معها كنوع من الواجب دون أي إحساس أو شعور عاطفي تجاهها.  

وبعد عشر سنوات على وفاة صديقه الباحث الفرنسي ميشال سورا أخرج أميرلاي عام 1996 فيلم في يوم من أيام العنف العادي مات صديقي ميشيل سورا ، ويروي من خلاله اختفاء سورا الذي اختُطف في بيروت عام 1985 من قبل إحدى المنظمات الجهادية الإسلامية، ثم قُتل على يد خاطفيه بعد عام من اختطافه. تنتقل الكاميرا في الفيلم انتقالات درامية  وشاعرية ووجدانية، حيث تظهر بعض المشاهد ضمن أجواء معتمة وخانقة، تتضمن بعض الديكورات الفنية المُعبِّرة، وتصاحبها موسيقى تصويرية خفيفة، فيما تقترب بعض المشاهد الأخرى من أجواء العرض المسرحي. الشخصيات التي تتحدث عن سورا، لا تتحدث بطريقةٍ تقريريةٍ وإنما بأداءٍ أقرب إلى التمثيلي، يدعمه خيالٌ بصري غني تقدمه الصور المتنوعة واللوحات التشكيلية والأعمال النحتية، الحافلة بالكثير من التفاصيل والأفكار. ومن خلال  ما جرى مع شخصية سورا أظهر أميرلاي صوراً تعيدنا بقسوتها ومأساويتها إلى ذكريات الحرب الأهلية اللبنانية، التي أنتجت الكثير من الفصائل المسلحة وعصابات القتل التي اغتالت الكثير من الشخصيات الفكرية والتنويرية والثقافية.  

ومن خلال فيلم مصائب قوم يتحدث أميرلاي عن الظروف المؤلمة التي فرضتها الحرب الأهلية اللبنانية على الناس، والتي جعلت أعمال القتل والعنف عملاً يومياً اعتيادياً. كما يسلط الفيلم الضوء على تجار الحرب والأزمات، الذين لم تتأثر تجارتهم ونشاطهم الاقتصادي رغم حجم الموت والدمار، وذلك من خلال شخصية الحاج علي التي تتكيف مع جميع الظروف وتبحث عما يحتاجه السوق في الحرب لتتاجر به وتزيد من حجم أموالها، ومن هنا نكتشف أن مصائب قومٍ عند قومٍ فوائد.

سينما البورتريه

حاول أميرلاي من خلال مشروع سينما البورتريه تسليط الضوء على بعض الشخصيات الثقافية والسياسية البارزة، ليبرز مدى أهميتها والدور الريادي الذي لعبته في حياتها. ومن خلالها كان يطرح الكثير من القضايا والمفاهيم السياسية والاجتماعية والثقافية والإنسانية والفكرية ليتم مناقشتها بشكل واسع مع محاولة إسقاطها على الواقع.

شَكَّل فيلم فاتح المُدرِّس ، الذي أخرجه أميرلاي بمساعدة المخرجين أسامة محمد ومحمد ملص، مرجعاً ثرياً وهاماً عن شخصية المدرِّس الاستثنائية، أحد أبرز مؤسسي الحداثة التشكيلية في سوريا، والذي ترك بصمة فريدة في تاريخها الفني والثقافي. ويوثِّق الفيلم، بعدسةٍ ذكية وبلغة سينمائية شاعرية، أدق تفاصيل مرسم المُدرِّس، بفوضاه الجميلة وفضاءاته الرحبة، ويُظهر لنا اللوحات والألوان الموزعة في كل مكانٍ بشكلٍ مسرحي، ليُضيء على أهم تفاصيل الحياة اليومية للمُدرِّس، فيما تُبرز بعض اللقطات وبطريقة حكائية عملية الرسم التي يقوم بها، والتي نتعرف من خلالها على تفاصيل وفضاءات غنية في عالم الفن التشكيلي واللوني. ويتحدث المدرس من خلال الفيلم عن طفولته وشبابه، وعن بعض تجارب الفن التشكيلي في العالم، وعن فلسفة الضوء والألوان وعلاقته معها، إلى جانب الملامح التي شكلت تطور الفن والثقافة في سوريا في منتصف القرن الماضي، لنتعرف من خلال ذلك وعن قرب، على شخصية المُدرِّس المتفردة والغنية، التي تَظهر بحالات مختلفة: مرة كفنانٍ مبدع ، ومرة كأستاذ ومنظِّر للفن، وأخرى كإنسان عادي وبسيط.

وفي فيلم “وهناك أشياء كثيرة كان يمكن أن يتحدث عنها المرء” الذي صوره أميرلاي مع المسرحي الكبير سعدالله ونوس، يظهر الأخير وهو جالس على سريره في المستشفى يقاوم مرض السرطان الذي أنهك جسده، متحدثاً عن الكثير من الآراء والأفكار السياسية التي تبناها في حياته، وعن الخيبات والانكسارات التي تعرض لها بوصفه مثقفاً عربياً، وذلك نتيجة فشل السياسات العربية وما تعرض له الواقع العربي من هزائم متلاحقة وتحديداً هزيمة حزيران 1967. استطاع أميرالاي من خلال الفيلم أن يربط ما بين مرض ونوس وتداعي المثقف العربي وكأنه بذلك يُرينا واقع الثقافة العربية المحتضرة. وبالتزامن مع حديث ونوس عن الهزائم العربية يعرض الفيلم بعض المشاهد الأرشيفية لصور النكبات العربية وللخطابات الفارغة لبعض الزعماء السياسيين، بالتوازي مع لقطاتٍ أخرى لبعض المرضى داخل المستشفى وكأنه بذلك يحاكي مرض الأمة العربية.  ومن خلال اللقطات المتكررة لقطرات السيروم التي يتغذى عليها ونوس المحتضر، يحاول أميرلاي أن يقول لنا إن البلاد كلها بحاجةٍ لسيرومات تتغذى عليها.

أميرلاي الذي حاول تسليط الضوء على حكايات الأبطال المنسيين لينقذها من النسيان، عرَّفنا من خلال فيلم نور وظلال  على شخصية نزيه الشهبندر، الذي لا يعرفه سوى القليل من السوريين، وهو أبرز صناع السينما في سوريا، بدايات القرن الماضي، ومخترع أول آلة تسجيل صوتية، قَدمت خدمة كبيرة لصناع السينما في سوريا ولبنان ومصر، إذ كانوا آنذاك يضطرون للذهاب الى أوروبا لكي يسجلوا أصوات الفيلم السينمائي. يضيء الفيلم من خلال شخصية الشهبندر على الوجه الثقافي الجميل لسوريا في بدايات ومنتصف القرن الماضي، وعلى بدايات صناعة السينما ومراحل ازدهارها، ويتحدث عن بعض صالات السينما كسينما الهبرا التي بُنيت عام 1917، كما يُرينا بعض مواقع التصوير داخل الاستيديوهات التي صُورت فيها بعض أفلام تلك المرحلة.  صَور الفيلم، وبحرفية سينمائية عالية تقترب من تقنية السينما الروائية، أدق تفاصيل حياة الشهبندر داخل منزله، الذي يشبه شريطاَ سينمائياَ مليئاً بالحكايا والذكريات، ليُرينا من خلاله علاقة الشهبندر مع آلاته ومعداته وخرداواته السينمائية التي يعيش معها وحيداً ويتعامل معها كصديقة مقربة، ويخشى عليها، وهو الذي أصبح كهلاً، أن تلقى حتفها بعد رحيله. وهكذا استطاع الفيلم أن ينصف شخصية هامة ومحورية في تاريخ سورية كانت مهددة بالنسيان لتموت وحيدة في بيتها، وقد كتب في شارة نهاية الفيلم : “إلى نزيه شهبندر وأمثاله ممن نذروا حياتهم لكي تجد السينما مكانا لها في بلدهم .. نهدي هذا الفيلم” .

ولم تقتصر سينما البورتريه عند أميرلاي على الشخصيات السورية فقط بل تناول من خلال  فيلم  الرجل ذو النعل الذهبي شخصية رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، الرجل الفقير الذي أصبح ثرياً ينتعل حذاء ذهبياً لا يعلق عليه الغبار. ويدافع الحريري من خلال الفيلم عن مكانته السياسية والاجتماعية ويتحدث عن دوره في دعم وتطوير لبنان في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية، كما يظهر في الوقت ذاته كرجل عادي وبسيط يعيش حياته البسيطة البعيدة عن الأضواء. وقد أدخل أميرلاي نفسه كشخصية في الفيلم مقابل الحريري، لتتحدث بلسان المثقف الذي يحاور رجل السلطة، وليبرز العلاقة الجدلية والإشكالية بين تلك الشخصيتين، ونظرة كل منهما إلى الحياة عموماً وإلى الوطن خصوصاً.

ومن خلال فيلم ” إلى جناب السيدة رئيسة الوزراء بنظير بوتو”  حاول أميرلاي تسليط الضوء على حياة  بوتو التي كانت جزءاً بارزاً وهاماً من عالم السياسية في باكستان، ولعبت دوراً مؤثراً في تاريخ بلادها، لكن ولصعوبة الوصول إليها، جعل أميرلاي الفيلم توثيقاً لمحاولاته المتكررة للقاء بها دون جدوى.

توفي أميرلاي في الخامس من شباط/ فبراير  عام 2011 إثر جلطة دماغية، عن عمرٍ ناهز السابعة والستين عاماً، تاركاً لنا إرثاً سينمائياً ثرياً تضمَّن نحو عشرين فيلماً تسجيلياً، هذا إلى جانب مساهماته الكبيرة في إغناء الثقافة السورية حيث ساهم في تأسيس اتحاد نوادي السينما عام 1982، بهدف نشر ثقافة السينما بين الناس في عموم المحافظات السورية وتطوير ذائقتهم الفنية، كما استطاع جذب أجيالٍ عديدة من الشباب نحو العمل السينمائي ودعم مشاريعهم فنياً، وكان شريكاً داعماً للتجارب السينمائية لبعض أصدقائه المخرجين كمحمد ملص وأسامة محمد، اللذين استفادا من أفكاره ورؤيته السينمائية والإخراجية التي تركت بصمة مؤثرة في تاريخ السينما السورية وشكلت مدرسة متفردة ومرجعاً هاماً لكثيرٍ من صناع السينما في سوريا والوطن العربي، وقد حققت أفلامه شهرة عالمية وعُرضت في أهم المهرجانات السينمائية، كمهرجان أمستردام الدولي و أدفا في هولندا ، مهرجان أفلام في مدينة مارسيليا الفرنسية، مهرجان الفيلم العربي في برلين ، ومهرجان الدوحة و الاسماعيلية وغيرها، فيما حازت بعض أفلامه على جوائز هامة، من بينها جائزة التحكيم الخاصة من مهرجان تولون الفرنسي، وجائزة مهرجان برلين السينمائي عام 1976، وذلك عن فيلمه “الحياة اليومية في قرية سورية”، فيما حصل فيلم “طوفان في بلاد البعث” على جائزة أفضل فيلم قصير في بينالي السينما العربية الذي أقامه معهد العالم العربي في باريس عام 2006.  

 ونذكر هنا أبرز أفلامه وفق تسلسلها الزمني: فيلم “محاولة عن سد الفرات” عام 1970، “الحياة اليومية في قرية سورية” 1972،  “الدجاج” 1977، “عن ثورة” 1978، “مصائب قوم” 1981، “رائحة الجنة” 1982، “الحب الموؤد” 1983، ” فيديو على الرمال” 1984 ، “العدو الحميم” 1986، “سيدة شيبام” 1988، ” شرقي عدن”  1988، “إلى جناب السيدة رئيسة الوزراء بينظير بوتو” 1990، ” نور وظلال” 1994، ” فاتح المدرس” 1995، ” في يوم من أيام العنف العادي مات صديقي ميشيل سورا” 1996 ، ” وهنالك أشياء كثيرة كان يمكن أن يتحدث عنها المرء” 1997. “طبق السردين” 1997 ، “الرجل ذو النعل الذهبي” 1999، و”طوفان في بلاد البعث” 2003.  

*تنشر هذه المادة ضمن ملف صالون سوريا حول “المنعطف السوريّ”

مواضيع ذات صلة

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

نذير نبعة: رسام الحياة ومؤرِّخ الألوان السورية

 "كنت أحلم بلوحةٍ تستطيع أن تخاطب بجمالياتها شريحة أوسع من الناس، لوحة تستطيع تجاوز مجموعة الجمهور التي تتكرر في حفل الافتتاح لأي معرض". ربما توضح تلك الكلمات، وهي للفنان نذير نبعة، مدى تبنيه وإخلاصه للفن، الذي كان رفيق دربه لأكثر من ستين عاماً، فهو الفنان الذي...

مواضيع أخرى

فصلٌ من القهر والعذاب: كيف مضى فصل الصيف على سوريا؟

فصلٌ من القهر والعذاب: كيف مضى فصل الصيف على سوريا؟

لم يكتفِ الناس في سوريا من معاناتهم وأوجاعهم اليومية، التي فرضتها ظروف الحرب وما تبعها من أزماتٍ متلاحقة وتردٍ في الواقع الاقتصادي والمعيشي، حتى أتى فصل الصيف، الذي سجل هذا العام ارتفاعاً كبيراً وغير مسبوق في معدلات درجات الحرارة، وكان الأقسى على البلاد منذ عقود،...

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

عملية تجميل لوجه دمشق بجراحة تستأصل بسطات الكتب

رغم انتشار ثقافة المطالعة واستقاء المعلومات عن طريق الشبكة العنكبوتية إلا أن ملمس الورق ورائحة الحبر بقيا جذابين للقارئ السوري. ولم تستطع التكنولوجيا الاستحواذ على مكان الكتاب الورقي، أو منافسته. وبقي الكتاب المرجع الأساسي والحقيقي لأي بحث علمي وأكاديمي، ولم يستطع...

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

التجربة المؤودة للمسرح الجوّال في سورية

بقي الريف السوري محروماً من المسرح إلى أن أنشأت مديرية المسارح والموسيقى في وزارة الثقافة ما أسمته "المسرح الجوال" عام ١٩٦٩، والذي بدأ عروضه بنشر الوعي المسرحي في الريف والمناطق الشعبية والنائية. صارت الصالة في كل مكان  والجمهور ضمنها، وكان كسر الحواجز بين...

تدريباتنا