تدريباتنا

عن الطغاة والحبر

بواسطة | يناير 16, 2024

شهد الكاتب هرمان هسّه، الحائز على نوبل 1946، الحربين العالميّتين الأولى(1914-1918) والثانية(1939-1945) وناهضهما بشدّة، كمناهضته للحروب عامّة. في مقال بعنوان “الحرب والسلام”، كتبه سنة 1918، يقول:” إنّهم على حقّ وبلا أدنى شكّ أولئك الذين يصفون الحرب بأنّها حالة بدائيّة وطبيعيّة. ولطالما يتصرّف الإنسان مثل الحيوان فإنّه يعيش الصراعات دوماً. والسّلام أمر يصعب تعريفه ونحن لا نعرفه، إنّما بإمكاننا الإحساس به والبحث عنه، هو مثلٌ أعلى إنّما شديد التعقيد، لا استقرار له وجميعنا يعرف القاعدة الجوهريّة:” لا تقتل!”.”لا تقتل” لا تعني ألّا تؤذي غيرك! بل ألّا تحرم نفسك من الآخر كي لا تؤذي نفسك.”لا تقتل” تكاد تعني “لا تتنفّس!” ويرى هسّه أنّ الخوف لا يعلّم البشر، ولطالما يجدون في الحرب متعة فلن يأبهوا بذكريات الخراب والدمار، أو يرتدعوا عن إشعالها باستمرار.

 لكنّ هسّه بدا أكثر تفاؤلاً في مقال آخر كتبه 1948، بعنوان “عن رومان رولان”، المفكّر الثوري والأديب الفرنسيّ الحائز على نوبل 1915، بيّن فيه إمكانيّة تحقيق السلام انطلاقاً من إيمانه بالمعرفة؛ معرفة الداخل الإنساني وتلمّس الطاقة النورانيّة الكامنة فيه. وبوجود كثير من المؤمنين الصادقين خارج الكنائس والطوائف يرعبهم انحطاط الروح الإنسانيّة وتغييبها للسلام وزعزعة الثقة في العالم، من بينهم رومان رولان، وليو تولستوي أستاذ هذا الأخير، والمهاتما غاندي الذي خصّه رولان بأحد مؤلّفاته. يقول هسّه:” مات الثلاثة العظام لكنّهم ما يزالون أحياء في قلوب الآلاف، يؤازرونهم لصون إيمانهم ورفع مشاعلهم لتنوير هذا العالم البليد والفاقد للعقل.”

وإذاً، لا أمل في تحقيق سلام مستقرّ إطلاقاً، لتتأبّد صرخة كازينتزاكس التشاؤميّة:” لا جدوى يا يسوع، لا جدوى.” خاتمة روايته شبه الملحميّة “المسيح يصلب من جديد”، وتحكي إلى جانب آلام المسيح خلال صلبه، عن صراع البشر التاريخيّ لخلق حياة إنسانيّة أرقى. إنّما عبثاً! صدرت الرواية سنة نشوب الحرب العالميّة الثانية، وبعد عامين من صدور رواية إيريش ماريّا ريمارك “لا جديد على الجبهة الغربيّة.” وعندها أتوقّف قليلاً لأسباب أدرجها فيما يأتي.

يعدّ النقد “لا جديد على الجبهة الغربيّة” من أفضل الروايات التي تناولت موضوع الحرب، إن لم تكن أفضلها. صدرت عن دار أثر/الدمّام 2020، في نسخة جديدة، وللمرّة الأوّلى في ترجمة مباشرة من الألمانيّة إلى العربيّة، أنجزتها المترجمة ليندا حسين.  

تحكي الرواية عن الإنسان وتحديداً عن الجنديّ في خوضه الحرب العالميّة الثانية. سبعة جنود/شخصيّات الرواية الرئيسين، زملاء صفّ مدرسيّ واحد في سنّ الثامنة عشرة. يجدون أنفسهم بغتة بعيداً عن الأهل والديار غرباء على الجبهة الغربيّة؛ مكان هو مسكن للموت المتربّص بهم كوحش جائع، للحمّى، للهذيان والجنون! وفيه سيكتشفون العالم وأنفسهم؛ حقيقة قيمهم وأخلاقهم؛ أفكارهم وقناعاتهم، إزاء خيارين وحسب، أن يكونوا قتلة أو مقتولين في حرب لا تخصّهم بشيء، حرب غير شرعيّة ولا أخلاقيّة هدف قادتها الوحيد توسيع نفوذهم وأطماعهم الاستعماريّة. فإقرار الحروب تتفرّد به الحكومات والسلطات السياسيّة، فلم يحدث في التاريخ أن شنّ شعب حرباً على شعب آخر، والشعوب هم وقود الحرب وضحاياها. تلك حقيقة موجعة واجهها الأصدقاء، ليتعاطف الراوي الجندي بول بويمر مع جنديّ فرنسيّ عدوّ مصاب، ويحاول إنقاذه.

عند استشهاد أوّل الزملاء، يطرح الجندي بويمر السؤال العبثيّ المؤلم: “الآن يرقد هنا، لأجل ماذا؟” سؤال يصعب حدّ الاستحالة أن يطرحه جنود يخوضون حرباً شرعيّة أخلاقيّة وواجبة وطنيّاً تقرّرها الشعوب بنفسها لطرد الاحتلال من أراضيهم. شاسع هو الفرق بين حرب استعماريّة، وبين حرب شعب يقاوم الاستعمار لتحرير بلاده، وصون ذاكرته ولغته وهويّته الموحّدة، كحرب غزّة ضدّ الكيان الصهيونيّ الغاصب.

في رواية ريمارك، تباغت الجنود الزملاء اكتشافاتهم المريرة: نفاق العالم وانحرافه بمؤسّساته المختلفة؛ التربويّة والتعليميّة، العسكريّة والدينيّة! فما الذي تغيّر في العالم حتّى اليوم؟ لا شيء! تكفي حال البلدان العربيّة في حروبها الراهنة شواهد لاستفحال النفاق والفساد والاستبداد وقتل حتّى المشاعر الوطنيّة، إضافة إلى توحّش هذا العالم “الفاقد لعقله” الذي تديره وتقرّر مصيره المصالح الخاصّة لثلّة من دول العالم “المتحضّر” الاستعماريّة أصلاً، تتسيّدها أمريكا! ومن بين فضائل المقاومة الغزّاويّة الفلسطينيّة الباسلة تعريتها للكيان الصهيونيّ الهشّ واللّا أخلاقيّ، وفضحها للعالم الرسميّ وضميره الميت، وللموقف العربيّ الذليل! حقّاً، يستحضر الغزاة حكّاماً عبيداً لهم، طغاة على شعوبهم. فتحالفهم حتميّ لضمان استقرارهم معاً!

في عودة للرواية، قتلت الحرب جسد الراوي بويمر، في حين قتلت روح الروائيّ ريمارك الذي خاضها بدوره. وسيثير كلاهما غضب هتلر والنازيّين، فتُحرق الرواية وكتب أخرى لريمارك، تُسحب منه الجنسية، وبدمغة خائن للوطن يُنفى إلى الخارج! وأدى تصاعد حدة التطرّف النازيّ إلى منعه من العودة إلى وطنه، ليموت في منفاه. ويجنّ جنون النازيّين لعرض أوّل فيلم مأخوذ عن الرواية ذاتها في ألمانيا، لدرجة أنّهم خلال العرض أثاروا الصخب فوق رؤوس المشاهدين، وأطلقوا الفئران بين أقدامهم! هترليّون نازيّون متعطّشون لخوض حرب عالميّة ثانية انتقاماً لهزيمتهم في الحرب الأولى، فيُهزمون مجدّداً؛ دُمّرت ألمانيا وانتحر هتلر!

ألا يذكّر هتلر بجنون عظمته وإجرامه وسعيه لإبادة من ليسوا ألماناً، بالمجرم نتنياهو المؤمن بتشريع الدين الصهيونيّ العنصريّ لاستعباد من ليسوا يهودا/”الغوييم” وإبادتهم؟! ألا يتطابق موقف هتلر المتنصّل من معاهدة فرساي 1919، التي شاركت ألمانيا في انعقادها، وأشعل شرارة الحرب العالميّة الثانية بغية تحقيق النصر انتقاماً لهزيمة بلاده في الحرب الأولى، مع موقف نتنياهو الناكر لاتفاق “أوسلو”-غير العادل أصلاً بحقّ الشعب الفلسطينيّ وخرقه لقوانين الحرب الدوليّة، ليمعن وما يزال في ارتكاب مجازره المروّعة انتقاماً لهزائمه المتلاحقة؟ يعجزه صمود المقاومة المدهش، صاحبة الأرض الشرعيّة، وقد عرّته أمام العالم: فنتنياهو ليس مقاتلاً، إنّما مجرّد قاتل متوحّش! ثمّ ألا يماثل نتنياهو هتلر بمحاولات طمسه لكلّ ما يصدر من نقل للوقائع والحقيقة، سواء صدر عن المقاومة أو عن أبناء جلدته، ولهؤلاء قانون لعقوبتهم؟ وقد بلغ الكذب والتزييف والتزوير لديه مبلغاً عالي الصفاقة، كأسلافه الصهاينة، بدءاً من تزوير التاريخ وليس انتهاء بآخر كمين أوقعت وستوقع فيه المقاومة جنوده! وما يزال يلزمهم من الأكاذيب والتزوير زنة ثلاثة آلاف عام من عمر وجود الشعب الفلسطيني على أرض كنعان العربيّة، الاسم الذي رافقها حتّى سنة 1200ق.م، مع غزو القبائل الكريتيّة لها، فسمّيت فلسطين وبقيت للفلسطينيّين وحدهم.

أليست الصهيونيّة الوجه الآخر للنازيّة؟ وفي الأحوال كلّها، الطاغية هو الطاغية!

ورجوعاً للرواية، وفيها نلقى اختلاف حول مآل معنى الكتابة وجدواها، في حالات الإحباط، فقد باتت تمثّل لبويمر اليائس خلاصاً شخصيّاً وفرديّاً. أمّا لدى ريمارك فإلى جانب أهمّيّتها على الصعيد الشخصيّ، فلها هدفها الأخطر على الصعيد العام، وضمّن روايته صرخته الإنسانيّة لشجب الحروب وإيقافها، وتحقيق حياة إنسانيّة عادلة وكريمة هي حقّ شعوب الأرض قاطبة. صرخة ساهمت في شهرة الرواية الواسعة.

لا شكّ تبقى الكلمة سلاح المثقّف الأوحد لمحاربة الظلم والطغيان، وتجفيف الحبر محال كتجفيف البحر. حتى وإن دفع مثلاً غزو الصهاينة لبيروت وحصارها 1982 بخليل حاوي للانتحار، ولشلل الكتابة لدى محمود درويش لأربع سنوات. لكنّ درويش تجاوز إحباطه، ففي سنة 1985، أجاب على سؤال أحد محاوريه عن دور الشاعر الفلسطينيّ في ظلّ غياب الأمل المطبق، قائلاً:” أن تكون شاعراً فلسطينيّاً، في هذه اللحظة، معناه أن تحوّل تساؤل هاملت إلى حسم، فبدلاً من القول:” أن تكون أو لا تكون عليك أن تقول:” أن تكون أو تكون: هذا هو القرار.”

إذاً، حين تعجز الكلمة وتسكت على السلاح أن ينطق. فلا حياة إنسانيّة حقيقيّة في أرض محتلّة!

ومجدّداً، وبحزم أشدّ اتخذت المقاومة الفلسطينيّة اليوم “القرار”.

مواضيع ذات صلة

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

عمر البطش مدرسة متفردة في فنون الموشحات ورقص السماح

إلى جانب كونها مدينة الطرب والقدود، برعت حلب وتميَّزت في فن الموشحات، وذلك بفضل كوكبة من ملحنيها ووشاحيها المبدعين، الذين كانوا مخلصين لذلك الفن  وحافظوا على روح وألق الموشح العربي وساهموا في إغنائه وتطويره، ومن أبرزهم الشيخ عمر البطش، الذي ساهم على نحو خاص في...

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

شعاع من الفن التشكيلي السوري: نصير شورى (1920-1992م)

في الخامسة من عمره حظيت إحدى لوحاته بإعجاب العديد من أساتذة الرسم، نصير شورى الذي ولد عام ١٩٢٠ والذي كان محط عنايةٍ خاصة من والديه: محمد سعيد شورى، الأديب والشاعر الدمشقي المعروف، وأمه، عائشة هانم، ذات الأصول العريقة. فكان أن تلقى تعليماً خاصاً منذ نعومة أظفاره...

مواضيع أخرى

النساء ومعاركهن المتجددة

النساء ومعاركهن المتجددة

 يتم تسويف قضايا النساء بذرائع متعددة على الدوام، مرة بذريعة الحرص على الأخلاق العامة، ومرة أخرى بذريعة عدم المواجهة مع قوى الأمر الواقع، ومرات بذرائع تنبع فجأة من خبايا السنين وتصير حاضرة بقوة مثل طبيعة المرأة البيولوجية، أو التشريح الوظيفي لدماغ المرأة، وصولاً...

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

مرحلة اللادولة: بين إرث الماضي ومسؤولية المستقبل

تمر سوريا اليوم بمرحلة فارقة في تاريخها، حيث يقف الجميع أمام اختبار صعب: هل يمكن تجاوز إرث القهر والاستبداد لبناء دولة جديدة قائمة على الحرية والكرامة؟ أم أننا سنتعثر مجددًا في أخطاء الماضي، التي صنعها الخوف، الصمت، وصناعة الأصنام؟ اليوم، نحن في حالة فراغ سياسي...

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

قراءة في المشهد السوري بعد سقوط النظام

شهدت سوريا خلال أربعة عشر عامًا من الصراع تحولًا جذريًا في موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية. بدأ الحراك شعبيًا وسلميًا، لكنه انتهى بصراع مسلح معقد ومدعوم خارجيًا، في ظل غياب قوة سياسية مؤثرة ميدانيًا. وبينما ساندت روسيا وإيران النظام السوري، مما أطال أمد...

تدريباتنا