[تنشر هذه المادة ضمن ملف خاص حول التناول السردي للحرب والعنف في سوريا. للإطلاع على جميع مواد الملف اضغط/ي هنا]

الروائي السوري ضاهر عيطة

الإنسان هو القيمة الوحيدة التي تعني بها الرواية، بل يمكن القول: إن الإنسان هو طفل الرواية، تتلقفه من رحم الواقع أحيانًا، ومن رحم الخيال في أحايين كثيرة، وتسهر على تنميته وعلى كسائه وغذائه وألق روحه وجسده وفكره ووجدانه، لتشكله حسبما تشتهي وتهوى، فعندما يكتب الروائي روايتها، يكتب ليس فقط عن وإلى الإنسان، إنما يكتب إنسان، يخلقه من جديد، وعليه يصبح الإنسان في الرواية كائن مقدس إن جاز التعبير، ويغدو أي مساس به من خارج الرواية، ضربة موجعة إن لم نقل مميتة للروائي والرواية.

تلاحق الرواية حياة أناسها بأدق تفاصيلهم وعواطفهم وأفكارهم وهواجسهم، ثيابهم صفاتهم ضحكهم حزنهم، وقد تُخصص فصول من رواية، لتحكي عن تفصيل صغير، وربما تصير كل فصولها وسطورها وحبرها فقط للحديث عن لحظة حزن أو فرح، أو لحظة تردد أو لحظة اندفاع تعيشها شخصية في رواية، غير أن ما يحدث في الواقع يكاد يدمر معنى كل تلك التفاصيل، فهو حدث صادم وموجع، ليس فقط للروائي وللرواية، بل للوجود الإنساني برمته، فعندما يغدو قتل آلاف الناس وذبحهم وتعذيبهم أمرًا عاديًا بحكم التوحش اليومي، لا يعود يهم كثيرًا على سبيل المثال، الحديث عن نوع الشاي الذي كان ذاك المذبوح يفضله قبل أن يذبح، ولا الحديث عن ثياب وأحلام تلك التي مزقتها صورايخ الطائرات وأحالتها إلى أشلاء.

نعم الرواية تسهر على ولادة أناسها، وتظل ترافقهم مشتغلة على بنيتهم الروحية والنفسية والجسدية، لتحيك مصيرهم ببطء وهدوء وأناقة وتأني، بينما ما يحدث في الواقع العربي، وخصوصًا السوري، أحال المصائر الإنسانية إلى نهايات حادة، ومباغتة، وفي معظمها لا تتفق مع تطور وصيرورة بنية الإنسان على أرض الواقع. وقد تصل الأمور في بعض الأحيان أن يطرح الكاتب على نفسه سؤال كهذا: ما قيمة أن أخلق امرأة فاتنة الجمال في روايتي، وأنا أدرك أن الواقع أحل ويحيل وسيحيل كل هذا الجمال الأنثوي، وبطرفة عين، وعبر صاروخ يسقط من السماء، إلى أشلاء مبعثرة تنافي كل قيمة جمالية، فهذا القتل اليومي لا يقتل الإنسان فقط، إنما يساهم بقدر كبير في قتل الجمال والأدب والفن والقيم، ولا يعود هناك ثمة قارئ، فما الذي سيلفت انتباه القارئ ويدهشه ويضيف خبرة إلى خبرته وهو يرى السكاكين تفصل الرؤوس عن الأجساد، والصواريخ تكتب المصائر المأساوية، ليس فقط مصائر البشر بل ومصير الجغرافية والوجود، فلا أظن أن قارئ خرج لتوه من تحت أنقاض بيته، أو مثّل بجثة حبيبته أمام عينيه، أو استحالت أمه إلى أشلاء وهي تعد له طعام الفطور، أن يكون لديه شغف أو رغبة، ليقرأ رواية، فثمة ألف ألف رواية قد عشعشت في رأسه، وبات لديه فائض منها، ومن خلال تجربتي الشخصية كثيرًا ما صادفتُ أشخاص عاديين، وما إن يعلموا أنني أعمل في حقل الأدب والرواية، حتى يعبروا عن سخرية دفينة، معلنين عن امتلاكهم لألف رواية، مقترحين عليّ أن اصغي إلى رواياتهم عساها تغنيني ساعة الكتابة، إذًا لعلى الرهان في كتابة الرواية لم يعد على قارئ غارق في الدم والخراب والهجرة والاعتقال، إنما هو رهان مؤجل، يتطلع إلى جيل سيرث هذا الجيل، ويكون لديه عطش لقراءة رواية ما حدث في يوم غابر، ولكن كل هذا لن يمنع الروائي من أن يكتب، وإلا شاخ سريعًا أو نال منه الموت قبل الأوان، فحال الروائي بات كحال القارئ، فهو أيضًا مستغرق في الوجع، والدم، وكثيرًا ما يكتب ليهرب من خوفه، ليهرب من الموت الذي يلاحقه، يكتب على أمل أن يقول كلمة ما في الموت قبل أن يموت، أو يكتب ليعلن: أنه وإن كان عاجزًا عن القيام بفعل يوقف شلال الدم على أرض الواقع، فأنه يفعل أشياء كثيرة على الورق، وبهذا المعنى بات الكتّاب يكاتبون بعضهم، أو يكاتبون المؤسسات المعنية بشؤون الكتابة والثقافة والجوائز.

فكل ما يحدث وما يحيط بالكاتب يترك أثره عليه وعلى ما يكتب، ففي روايتي الأولى “لحظة العشق الاخيرة” والتي نشرت عام 2010 كان ضابط أمن في المعتقل قد غير مصير ثلاث شخصيات في الرواية، منهيًا عمرًا كاملًا من العشق بلحظة واحدة، ولو أني قبلها كنت قد اختبرت تجربة المعتقل لمَ كتبت هذه الرواية على هذا النحو، وبعد نشر الرواية بعدة شهور، كنت شرعت بكتابة رواية جديدة، لكن مع الثورة توقفت عن هذا المشروع ، ورحت أستغرق في رواية مختلفة، ويوم اعتقلت عام 2012 واعتقل معي جهازي المحمول، وكان يحتوي على فصول من تلك الرواية، أحدثت فيَ تلك الفصول المحفوظة في الجهاز المحمول رعبًا مميتًا، فقد كان الإطلاع عليها من قبل عناصر الأمن في المعتقل، كفيلًا بأن يؤدي إلى قتلي على الأقل تقدير لمجرد أنني اسميت ما يحدث ثورة وليس أزمة كما كان يروج من قبل إعلام النظام في حينه، لكن بعد تسلمي للجهاز يوم خروجي من المعتقل، اكتشفت أنهم لم يفتحوا الجهاز أبدًا، بل كانوا قد قاموا قبل اعتقالي بتصوير ونسخ جميع كتاباتي على الفيسبوك منذ بداية الثورة وبناء عليها اعتقلوني، غير أن تجربة المعتقل بحد ذاتها، وما رأيته من سحق لكرامة الإنسان وجلده وتجويعه وتعذيبه حتى الموت، أدت إلى تعديل الكثير مما كنت كتبت، ومع حرق الطيران لحمص ودرعا وحلب وداريا، أيضًا انزاحت بعيدًا خيوط كثيرة من الرواية، وهذا ما حدث مع السلاح الكيماوي على غوطة دمشق، ومع ظهور داعش.. وحتى الآن لازلت أشتغل على هذه الرواية، بل شرعت قبل عام ونصف تقريبًا بكتابة رواية ثانية، أهرب من الأولى، كي أشتغل على الثانية، وأهرب من الثانية للرجوع إلى الأولى. فقبل المعتقل كنت أكتب كي أنتشي بشخوصي الذين يحلقون إلى السماء بجوانح حريتهم التي راحوا يغزلونها، وبعد تجربة المعتقل صرت أكتب هربًا من الخوف والموت، والآن في دول اللجوء أكتب هربًا من الغربة، أو محاولة مني لتتطهر من عار هروبي وترك الأطفال هناك يموتون وحدهم دون أن أقدر على صون ولو قطرة واحدة من دمهم، ولعل هذا ما دفعني إلى استحضارهم في روايتي الثانية عساهم يدركون يومًا أنني كنت قريبًا منهم.

*************

ضاهر عيطة في سطور:

ولد الكاتب والروائي والمسرحي السوري ضاهر عيطة، في مدينة دمشق العام 1966. وهو يقيم حاليًا في ألمانيا.

وهو معتقل سابق في سجون النظام السوري، حيث أوقفته أجهزة الأمن السورية في تشرين الثاني/ نوفمبر بدمشق، لمواقفه المنتقدة للنظام.

حاز إجازة في الفنون المسرحية ، قسم الدراسات المسرحية، من المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق العام الدراسي 1994 ـ 1995. وكان منذ العام 2003 وحتى العام 2015عضوًا في هيئة تدريس المعهد .

أصدر في العام 2010 روايته الأولى “لحظة العشق الأخيرة ” عن دار نينوى، دمشق. وقد أعاد هذا العام نشرها إلكترونيًا، من خلال الموقع الرئيسي لدار “كتابوك” المتخصصة بالنشر الإلكتروني عبر الانترنت.

وقال “عطية” عند نشر روايته إلكترونيًا: “جل شخصيات الرواية كانت في حالة اختناق كامل، كتبت الرواية وأنا أختنق مترقبًا خلاصًا ما لم أكن أعرف كنهه لكن استمرار الحياة مختنقًا كان أمرًا مستحيلًا، ولكم في الكتابة أكسجين الحياة أيتها الأقلام المبدعة”.

من مؤلفاته:
– “رقص مع النجوم “، (نص مسرحي موجه للأطفال)، الهيئة العامة للكتاب، وزارة الثقافة السورية، دمشق 2008.
– “حراس البيئة “، (نص مسرحي موجه للأطفال)، الهيئة العامة للكتاب، وزارة الثقافة السورية، دمشق 2009. ونال الجائزة الاولى في “مسابقة عبد الحميد شومان للتأليف المسرحي للأطفال” في الأردن.
– “طيور الحمام “، (نص مسرحي موجه للأطفال)، الهيئة العامة للكتاب، وزارة الثقافة السورية، دمشق 2010. ونال الجائزة الأولى في “مسابقة التأليف المسرحي الموجه للأطفال لدى وزارة الثقافة” في سوريا.
– “عصفورة النجاة “، (نص مسرحي موجه للأطفال)، الهيئة العامة للكتاب، وزارة الثقافة السورية، دمشق 2011. ونال الجائزة الأولى في “مسابقة التأليف المسرحي الموجه للأطفال لدى وزارة الثقافة” السورية.
– “براءة بحار”، (نص مسرحي موجه للأطفال)، ، نشر لدى الهيئة العربية للمسرح في الشارقة 2012 بعد فوزه بالمركز الأول في “مسابقة التأليف المسرحي الموجه للأطفال لدى الهيئة العربية للمسرح” في الشارقة.

[تُنشر هذه المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع جدلية]
[.This article is published jointly in partnership with Jadaliyya]