وصلتْني منه صورةٌ سوداء معتمة بعد أن أرسلتُ إليه لقطةً للمدينة التي أعيش فيها سمّيتُها مدينة الضوء. في البداية ظننت أن صورته لقطة فاشلة التقطتْها الكاميرا نتيجةً لخطأ ما. كانت حالكة السواد، وكتبَ تحتها:”صورة مدينتي”. نظرتُ إلى الظلمة المؤطرة، إلى الأعداد الغفيرة التي تعيش فيها، إلى حيوات مدفونة وذكريات مطموسة وطفولات وأحلام مجهضة. هل غمرتْ الظلمة مدينة بأكملها، بحيث لا يومض ضوء واحد في هذا الغيهب؟
نَفَضْتُ هذه الإيحاءات من ذهني، وأغمضْتُ عينيَّ متخيّلاً مدينة مضاءة، مدينة النور، الوجوه فيها نورانية ليس من ضوء خارجي بل من ضوء ينبع من الداخل، الأعين تتوهج وهي تنظر إلى الآخر، الجمال أفق ومتعةُ العيش هوية تنير الوجوه، ثم فتحتُ عينيَّ ونظرتُ إلى الصورة التي أرسلها صديقي: ظلمة لا تُخترق، قال إن الوطن غرق فيها.
أخرجَ من القاموس مرادفات لكلمة ظلمة ودَوَّنَها تحت الصورة. كان مولعاً بالكلمات، قال إنه حين يقرأها يشعر بأنه يمسّد فراءها، ويلمس بشرتها.
كانت مرادفات كلمة ظلمة كثيرة: إِسْوِدَاد، جَهْمَة، دَجْن، دَيْجُور، دُجًى، دُجُنَّة، دُجْنَة، دُهْمَة، سَدَف، سَدَفَة، سَوَاد، سُدْفَة، طَسَم، ظَلاَم، ظَلْماء، عَتْمَة، غَبَش، غَسَق، غَطَش، غَيْهَب، غَيْهَبَان، غُبْسَة، قَتام، لَيْل. لم تكن أيّ منها تعبّر عن الظلمة التي في الصورة. كان في الصورة جاذبية هائلة، جاذبية الظلمة، التي توحي بأفكار لانهائية، فقد بدا كما لو أن الضوء مطرود منها، أو منفيّ، مثلي رغم أنني لا أعدُّ نفسي ضوءاً فأنا مزيجُ أنوار وظلمات، أحلام وكوابيس، نجاحات وإخفاقات، تطلعات وانهدامات.أما حيث هو، أعني صديقي، وحيث كنتُ، أي وطن ولادتي، فمن غير المسموح لك أن تضيء أو تستضيء، قد تلجأ إلى أضوائك الخاصة، كأن تتخيلها في الداخل، وتحوّل النور من بُعْد خارجيٍّ إلى بعد داخلي، ولكن الليل المعتم المكثّف الذي في الصورة، كان قوياً وحاداً كنظرة أسد جائع.
بحثتُ في قاموس ما أزال أحتفظ به عن مرادفات كلمة ضوء، كان هناك الكثير منها، وجاءت تحت عنوان “أضداد كلمة ظلمة”: النّور، الضِّياء، السَّناء، إِشْراقٌ، إِصْباحٌ، التماعٌ، بهاءٌ، بَرِيقٌ، تَبَيُّنٌ، تَلأَلُؤٌ، سطوعٌ، صَبَاحٌ، ضُحًى، ظُهُورٌ، فَجْرٌ، لامِعٌ، لمعانٌ، لياحٌ. لم أشعر أن لهذه الكلمات وقعاً، أو أن فيها بعداً إيحائياً كمرادفات كلمة ظلمة، هل السبب هو أنني أميل إلى الأسرار، إلى ما هو مبهم وعصيّ على التفسير؟ أم هل لأن انشغالي بالظلمة في تلك الصورة، صورة مدينة من الوطن، هو الذي ولّد لدي هذا الإحساس؟ هل كانت حياتي في كل تلك السنوات السابقة بهذا السواد؟ أتذكّر أنني كنت أرى ضوءاً وأنا أتنقل أو ألتقي بالآخرين. أتذكر أن الشمس كانت تشرق، وأنني كنت أشعل اللمبة أو أشعل شمعة حين تنقطع الكهرباء. هل فقدتُ كل هذا؟ هل مُحيَ كلُّ هذا من ذاكرتي بحيث أنني لا أذكر سوى الظلام؟
أرفقَ الصورةَ بوصفٍ موجزٍ للظلمة التي تُكوِّنها. قال إنه منذ أن تشكّل وعيه شعر أنه مؤطر بالظلام، فشاشات التلفزيون، كانت معتمة طيلة عقود، لا شيء يشتغل عليها حين تضغظ الزر، فيما يصدر من المحطات الإذاعية هدير كأصوات أنهار خفية ترفد الظلام. أما الصحف، فكلها حبر أسود، هناك أحياناً سطور، عبارة عن خطوط سوداء، لكن دون كلمات. أما المدينة فتعيش حياتها بشكل باطني، لا أحد يتحدث إلا عن فضائل الظلمة.
قال إن النبي يونس رُميَ في ظلمات ثلاث: ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت، والجنين يعيش في ظلمة جدار البطن، وظلمة جدار الرحم، وظلمة المشيمة بأغشيتها، ثم يولد في ظلمة الكلمات كي يُرْمى فيما بعد، معنا، كباراً وصغاراً، في مائة ظلمة وكل ظلمة أشد من الأخرى.
لم يتغيّر شيء في بلادنا طيلة عقود، لم تنزع عنها غشاء الظلمة وتخرج إلى الضوء. كان هو الصديق الوحيد الذي حافظتُ على صلة به، وكان يتحدث دوماً بهوس عن الهجرة والسفر لكنه لا يقوم بأي فعل في هذا الاتجاه، ثم أحياناً يتحدث عن السفر داخل المكان، أي حين ترفض الانتماءات الضيقة تتحول إلى غريب في هذه الأمكنة، ومن ثم فإن الإحساس بهذه الغربة يتحول إلى معينٍ لا ينضب لأفكار مثيرة، تُغْني حياتك.
صارت علاقتي معه عبر الكلمة والصوت بعد أن صدر قرار بمنعي من دخول البلاد بسبب مقالة ساخرة تحدثت فيها عن خطاب للرئيس، قلتُ فيها إنه لولا عيب واحد لكان عبقرياً في انتباهه إلى التفاصيل، ينتبه إلى كلّ شيء باستثناء حقيقة ما يجري في البلاد، يتحدث عن التقدم العلمي في كل أنحاء العالم ويغفل انهيار التعليم في بلاده، يتحدث عن أنواع الأزهار، يركز على الأوركيدا، وأحياناً يستخدم الشاشة كي يعرض أمثلة عن أنواع الورود المستوردة في قصره، فيما الوردة الجورية والياسمينة لا تُلْمحان في شوارع البلاد. يجتمع بالخبراء لكنه يستولي على الحديث، ولا يصغي. كان جميع زواره يجدون أنفسهم مجبرين على الصمت. كان علّامة في كل شيء والذين يصمتون في حضرته ويصغون إليه ويداهنونه هم الذين يتولّون المناصب. بعد ذلك ينتقل إلى حديث عن الجرذان والجراثيم مشيراً إلى بعض منتقديه، متبجّحاً أن شعبه، (لا أعرف ما الذي عناه بهذا المصطلح الغامض)، رمى في القمامة شخصيات كثيرة.
كان يحصي كل يوم عدد مسامير الكرسي الذي يجلس عليه، اكتشف مرةً أن مسماراً نُزع منها فقصف بلدة يُشَكّ بولاء سكانها، وحين نُزع المسمار الثاني قصف بلدةً ثانية، وكلما نُزع مسمار محا بلدة عن الخريطة بسلاح الطيران، وحين نُزعتْ المسامير كلها اختفت المدن، ولم يتبق إلا المطارات والطيران.
أحد العائدين من مخيمات اللجوء خارج الحدود قام برحلة بحث عن منزله فلم ير إلا حطام المنازل وطائرات حربية في مطارات مهجورة. كان البرد شديداً فبدأ البحث عن الحطب، عثر على بعض القطع الخشبية، كانت هذه قطع أخشاب كرسي الرئيس. كوّمها وكونه لا يملك عود ثقاب أو ولاعة بحث عن حجرين بدأ يحكهما ببعضهما حتى أشعل ناراً، في هذه اللحظة دوّى الرعد وانهمرتْ أمطارٌ غزيرة أطفأتْ النار. لعن اللاجئ خشب البلاد وسماءها وأرضها المدمرة، وقال: من الأفضل لي أن أعود إلى الخيام.
أما الذين فرّوا فقد غرق قسمٌ منهم في البحر، وأُعْدم قسمٌ آخر على الهوية بعد أن عمّتْ الفوضى وتشكلت جيوشٌ كثيرة، الأثرياء تمكنوا من عبور الحدود وتوكيل محامين والحصول على لجوء في بلدان أخرى. الفقراء تكوّموا في الخيام. بضعة أخشاب ومسامير دمرت بلاداً بأكملها.
أرسلت لصديقي صورة ثانية للمدينة التي أعيش فيها، وهي صورة ملتقطة في الليل عن سطح بناية مرتفعة. الأضواء ترسم مخطط المدينة، شوارع من الضوء تتفرع في أزقة من الضوء وعلى أطرافها نوافذ من الضوء، فرد صديقي قائلاً: إن هذه الأضواء التي ترسلها ليست إلا ديكوراً للظلمة، وأرسل مرة أخرى الصورة السوداء، المعتمة، التي ليس فيها سوى الحلكة الشديدة وكتب تحتها: هذه هي مدينتي، ليس حين تنقطع الكهرباء، بل في الأوقات كلها.
أطّرتُ الصورة التي أرسلها إليَّ، مسحوراً بالظلمة التي حين أنظر إليها تُضاء بلادي بكل تفاصيلها في ذهني، صارت هذه الصورة السوداء ضوئي المتوهّج في ظلمات المنفى. أعادت الحياة إلى أفكاري، وشعرتُ بتوثب العشرينات من عمري، ذروة الاندفاع نحو حياة بحاجة للاستكشاف والتجريب، كمراهق يسرج فرس رغباته وينطلق.
أمعنُ النظر في الصورة المعتمة كل يوم مخترقاً حجاب الظلمة مشاهداً الضوء في كل مكان، في جميع الوجوه، في الابتسامات الجميلة المرحبة، في وجوه الشبان والشابات، في وجوه العابرين في الشوارع، أضواء تنبع من هذه التفاصيل وترفد المدينة بضوء آخر، وكم أحن إلى هذا الضوء القابع تحت العتمة في صورة مدينتي، كم أتوق إلى الحفر والوصول إلى ينابيعه ونزع أختامها كي يفيض.