تدريباتنا

في شمال شرق سوريا، خارطة جديدة وأحلام ضائعة

بواسطة | نوفمبر 21, 2019

تتزاحم الجيوش في شمال شرق سوريا، وتمضي بمحاذاة بعضها وفق تفاهمات فيما بينها لضبط حركة المرور وتنظيم عملية السيطرة، فبين روسيا وأمريكا يوجد تفاهم (غير معلن) وبين روسيا وتركيا يوجد تفاهم ودوريات مشتركة، وبين أمريكا وتركيا هناك تفاهم ودوريات مشتركة أيضاً، ولا تسري هذه التفاهمات – طبعاً – على الميليشيات أو القوات التابعة أو المتحالفة مع تلك الجيوش، بحيث يمكن استخدامها للقتال في سبيل تحقيق نقاط قوة وارتكاز جديدة في المنطقة.

لقد تغيرت خريطة السيطرة منذ أعلن الرئيس الأمريكي انسحاب قواته من مناطق عملية ”نبع السلام“ التركية، وأصبح الجيش الأمريكي متمركزاً داخل الحدود السورية مع العراق من القامشلي حتى دير الزور والبوكمال، وأصبح للجيش الروسي قواعد موزعة ومهمة في المنطقة، وكذلك دخل الجيش التركي ومن معه من فصائل المعارضة السورية إلى مدينتي رأس العين وتل أبيض السوريتين، وأيضاً انسحبت قوات سوريا الديمقراطية إلى داخل الحدود السورية بعمق 30 كم وحل محلها قوات من حرس الحدود السورية.

لكن ما يهمنا من كل ذلك، هو تقييم الوضع الجديد، وملاحظة مصالح تلك القوى وإسقاطاتها على خارطة الحل السوري ومستقبل سوريا والسوريين.

من الملاحظ بأن هناك ازدواجية في تعامل الولايات المتحدة الأمريكية مع تركيا، فهي تتحدى أنقرة من جهة وتحارب اقتصادها وتفرض عليها العقوبات، ومن جهة أخرى تنسحب القوات الأمريكية مخلية الطريق أمام الجيش التركي والميليشيا التي تقاتل إلى جانبه، كما يصف الرئيس ترامب أردوغان بأنه ”صديق حميم“.

يمكن تفسير تلك الازدواجية من خلال وجهتي نظر، تقضي الأولى بأن هناك خلافات أمريكية – تركية، ولكن هناك علاقات ودية بين الرئيسين ترامب وأردوغان، وتقول الثانية بأنّ ما تقدمه الولايات المتحدة الأمريكية لتركيا في سوريا تحديداً، هو في الحقيقة تقدمة لروسيا وبالتنسيق معها وليس إلى تركيا، وهذا الأصح، مما يعني بأن هناك لاعبين اثنين كبيرين في الشمال السوري وليس ثلاثة هما روسيا وأمريكا.

بالنسبة إلى روسيا، فهي تعمل بجد على تهيئة ظروف تفاوض الأكراد مع دمشق، وترغب في الحل السلمي بدل العسكري في تلك المنطقة، لكن عندما يتعنّت الأكراد ويحجمون عن التفاوض وإبداء المرونة، تأذن روسيا للجيش التركي بالتقدم والسيطرة على مناطقهم، كما شاهدنا في عفرين وفي شمال شرق سوريا، بينما لم نلاحظ أي ضغوط من روسيا على دمشق لحضّها على قبول مطالب الأكراد أو إظهار بعض المرونة.

لقد فاوضت روسيا الكثير من فصائل المعارضة قبل إعادة السيطرة على مناطقهم، وأذكر تحديداً المفاوضات مع جيش الإسلام في مدينة دوما في الغوطة الشرقية، فهي تتشابه بصيغة المطالب مع ما تطالب به الإدارة الذاتية الآن، والتي يمكن تقسيمها إلى ثلاثة مواضيع بحسب ما قاله الجنرال مظلوم عبدي قائد قوات سوريا الديمقراطية في مقابلة له عبر إذاعة ARTA FM الكردية:

مواضيع إدارية: تتعلق بالحفاظ على المؤسسات وطريقة إدارتها بشكلٍ شبه مستقل في مناطق الإدارة الذاتية، مع وجود تنسيق مع الحكومة السورية في دمشق، وأن يتم الاعتراف رسمياً بمنهاج التدريس الجديد مع اللغة الكردية التي كانت ممنوعة في سوريا قبل عام 2011، مما يخوّل الطلاب الأكراد دخول الجامعات السورية وإتمام التحصيل العلمي بدون عوائق.

مواضيع أمنية: تطالب قوات سوريا الديمقراطية بأن تتحول قواتها إلى مؤسسة عسكرية رسمية تقوم بالتنسيق مع الجيش السوري وليس داخله، وكذلك الأمر بالنسبة للأمن الداخلي ”الأسايش“ مع وزارة الداخلية.

مواضيع سياسية: تتعلق بالدستور ونظام الحكم في سوريا واللامركزية، وهذه قد تطول لسنوات، بحسب الجنرال مظلوم.

هذه المطالب، تشبه إلى حد ما مطالب جيش الإسلام التي حاول الجنرال الروسي ألكسندر زورين التفاوض معه بعد حصار مدينة دوما، وحينها أعطى قادة جيش الإسلام بعض المساحة في التفاوض، وأظهر رغبته في منحهم بعض المزايا، مثل سيطرة شرطة محلية من عناصرهم على مدينة دوما بعد تدريبهم في وزارة الداخلية وبالتنسيق معها، مع إمكانية الحفاظ على المؤسسات المحلية عندما تقوم بالتنسيق مع مؤسسات الحكومة السورية وتعمل وفق قوانينها، وكذلك الحفاظ على كتيبة جيش الإسلام لتقاتل ”جبهة النصرة“ في محافظة إدلب بتسليح ودعم روسي. وقتها رفض قادة جيش الإسلام العرض الروسي، واستبدلوه بعرض جديد يقضي بعدم تسليم السلاح الثقيل، وإبقاء قواتهم في دوما مع إدارة كاملة للمنطقة، وتشكيل حزب سياسي له حرية الحركة والسفر عبر مطار دمشق، مع وجود تنسيق بين المؤسسات الإدارية في كلا الجانبين. وقتها انتكست المفاوضات وانتهت بعد حملة شديدة على دوما، وخرج على إثرها جيش الإسلام ليصبح تحت قيادة الجيش التركي في الشمال السوري ويعمل على محاربة سوريين آخرين بعيداً عن مناطقه وعن أهدافه.

ما يهمنا هو حجم التشابه مع اختلاف الظروف بين كلا الحالتين، مع طرح الأسئلة والتساؤلات المهمة مثل: هل ستبقى القوات الأمريكية إلى جانب الأكراد؟ ألم تخذلهم في عفرين؟ وفي منبج؟ وفي شمال شرق سوريا؟

من الحماقة أن نستمر بنفس الأدوات ونفس المطالب ثم ننتظر نتائج جديدة، بعض مما تطالب به قوات سوريا الديمقراطية لن توافق عليه دمشق ولا روسيا، وحتى لو فرضنا جدلاً موافقتهم على ذلك، فإن تركيا قادرة على تخريب الأمر وخاصة بأنّ الجيش التركي وقوات المعارضة السورية المسماة “الجيش الوطني السوري” التابعة له أصبحت تحكم الطوق على معاقل تجمع الأكراد في شمال شرق سوريا.

إنّ روسيا – وكذلك دمشق – تهتم بمصالح تركيا أكثر مما تهتم بما يريده الأكراد، على الرغم من أن بعض مطالبهم مشروعة ومحقة، وخاصة فيما يتعلق بالهوية الكردية. وكذلك الحال بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، فعلاقتها مع تركيا – الشريكة في حلف الناتو – أكبر من علاقة أربع سنوات مع ”قسد“، وبالتالي من المهم أن لا يضيع الأكراد الفرصة، كما فعلت تنظيمات المعارضة السورية من قبل.

في المقابل، لم نسمع من أي معارض فاوض النظام السوري أي كلام حول تطبيق المرسوم التشريعي رقم 107 والخاص بالإدارة المحلية، والذي أنتجه النظام السوري نفسه في نهاية عام 2011 ولم يطبقه حتى في مناطقه، صحيح بأنّ قانون الإدارة المحلية ذاك يعطي بعض اللامركزية الإدارية المقيّدة، بحسب قراءات كثيرة، ولكنه على الأقل بداية لكسر المركزية المطلقة التي انتهجها النظام السوري على مر عشرات السنين، وربما – على الأقل – تكون إنجازاً في ظل الانتكاسات الكثيرة الماضية. خلال السنوات التي تلت اندلاع الانتفاضة السورية قامت العشرات من المؤسسات التنموية السورية والأجنبية بتطبيق هذا القانون في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وكشفت نقاط قوته ونقاط ضعفه، وكذلك هناك العشرات من الدراسات حول هذا القانون، وبالتالي أليس من المفيد في هذا الوقت أن يتم التفاوض مع النظام السوري ليتم تطبيقه أو التعديل عليه بما يتناسب مع الواقع السوري الجديد؟ الثورات قد لا تعني بالضرورة التغيير المباشر، بقدر ما هي عملية هدم وبناء طويلة الأمد.

في النهاية تبقى مصالح اللاعبين فوق مصالح السوريين، وما عبارة ”السوريون وحدهم من يقررون مصيرهم“ إلا عبارة ترضية لا معنى لها في ظل هذا التدخل الكبير في الشأن السوري حتى في دستور بلادهم ومن يكتبه.

مواضيع ذات صلة

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

من الثورة إلى النهضة: إضاءة على فكر طيب تيزيني

طيب تيزيني اسم أكبر وأهم من أن نُعرِّفه عبر سطور أو صفحات قليلة؛ لأنه جسَّد أفكاره تجسيداً عملياً، فكانت مؤلفاته تفيض من تفاصيل حياته ومواقفه الإنسانية والسياسية، وكانت حياته ومواقفه وبحق تعبيراً صادقاً عن أفكاره وفلسته، فكان فيلسوفاً بل حكيماً بكل ما تعنيه هذه...

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 محمد مُحسن: صانع النجوم ومبدع الألحان الخالدة

 خلال مسيرته الفنية الحافلة بالعطاء، والتي استمرت لأكثر من نصف قرن، أبدَعَ مدرسة لحنية وغنائية متفردة وغنية ومتكاملة، تركت بصمتها المؤثرة في تاريخ الموسيقى العربية، وقد ساعدته موهبته في الغناء في فهم طبيعة الأصوات التي لَحَّن لها، فكان يُفصِّل اللحن على مساحة...

جُرح في الزوبعة

جُرح في الزوبعة

كانت حياة أنطون سعادة القصيرة (1904-1949 م) أشبه بدورة الإله بعل في الميثولوجيا الكنعانيّة القديمة، فبعل الذي يموت ويولد على نحوٍ أبديٍّ، وفقاً لـ"ألواح أوغاريت"، يرمز إلى "بلاد كنعان" أو "فينيقيا" تبعاً لتسميتها اليونانيّة القديمة، هذه البلاد التي مهما حاقَ بها من...

مواضيع أخرى

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

ماذا تبقى من طقوس وعادات رمضان؟  

لشهر رمضان في سوريا عاداتٍ وطقوسِ اجتماعية وإنسانية، حرصت العائلات السورية على توارثها والتمسك بها عبر عشرات السنين، حتى تحولت إلى ما يشبه التراث الاجتماعي، ومن أشهرها "سِكبة رمضان" التي  تخلق حالة من الألفة والمحبة والتكافل الاجتماعي بين الناس، الذين يتبادلون...

“عيدٌ بأية حالٍ عدتَ؟”: غلاءٌ وعوائل حزينة

“عيدٌ بأية حالٍ عدتَ؟”: غلاءٌ وعوائل حزينة

لطالما يسخر السوريون من أنفسهم حين يكررون في كل عيدٍ الشطر الأول من قصيدة المتنبي "عيدٌ، بأية حالٍ عدتَ يا عيد؟"، ربما كان معظمهم يعلم شطره الثاني: "بما مضى أم بأمرٍ فيك تجديد"، وأنّ تشابه أيامهم بات فيه من السخرية الكثير، ولكنّ لا شك-أنّ معظمهم لم يكمل القصيدة، لا...

الجمعيات الخيرية: المنقذ الرمضاني في غياب الدعم الحكومي

الجمعيات الخيرية: المنقذ الرمضاني في غياب الدعم الحكومي

مع بدء الحرب السورية تمكنت المؤسسات والمنظمات غير الربحية المندرجة تحت مظلة المجتمع المدني من إثبات وجودها وترك بصمتها على أرض الميدان، فكانت الجمعيات الخيرية والمبادرات الفردية الإنسانية أولى الجهات غير الرسمية التي استطاعت توسيع دورها على خارطة العمل وإنقاذ الفئات...

تدريباتنا