تدريباتنا

قراءة في بيان الحوار الوطني السوري

بواسطة | فبراير 28, 2025

رغم ما حمله من تأكيد على وحدة البلاد وأهمية تحقيق العدالة والمواطنة، فإن البيان الختامي لمؤتمر الحوار الوطني السوري الذي عُقد يومي (24 و25 من الشهر الفائت) في قصر الشعب بدمشق، قد افتقر إلى أحد العناصر الحاسمة في أي عملية سياسية ناجحة: الجدول الزمني وآليات التنفيذ. لم يحدد البيان مساراً زمنياً واضحاً للانتقال السياسي، ما يفتح المجال أمام تأجيل الإصلاحات أو استغلال غموضها لتفريغها من مضمونها. غياب هذه الآليات قد يعرقل تطبيق القرارات، إذ إن أي مشروع وطني لا يمكن أن يتحقق بمجرد التوافق على العناوين العريضة، بل يحتاج إلى آليات عمل تضمن التزام الأطراف المعنية بتنفيذ ما تم الاتفاق عليه، خصوصاً فيما يتعلق بتوحيد الجهود العسكرية والأمنية، وهي مسألة حيوية لاستقرار البلاد في المرحلة القادمة.

في المقابل، لا يمكن إنكار بعض الجوانب الإيجابية التي وردت في البيان، وعلى رأسها تأكيده على رفض أي محاولة لتقسيم سورية، ما يعكس إرادة واضحة للحفاظ على سلامة أراضيها واستقلال قرارها الوطني. كذلك، أتى التركيز على بناء جيش وطني محترف وحصر السلاح بيد الدولة كضرورة لاستعادة الأمن ومنع تكرار تجربة الفصائل المتناحرة التي عرقلت الانتقال السياسي في دول أخرى شهدت تحولات مشابهة. كما أن تضمين احترام حقوق الإنسان وضمان تمثيل المرأة والشباب يعكس توجهاً نحو بناء نظام ديمقراطي حديث، وهو ما يتطلب ترجمة فعلية لهذه المبادئ ضمن دستور جديد يضمن المساواة ويمنع العودة إلى هيمنة السلطة الأمنية.

ولكن يمكن تلمس بعض أوجه القصور في البيان أيضاً، لا سيما فيما يتعلق بالعدالة الانتقالية. فرغم الإشارة إلى ضرورة محاسبة المسؤولين عن الجرائم والانتهاكات، لم يضع البيان تصوراً واضحاً للكيفية التي سيتم بها ذلك، وهو ما يترك هذه القضية الحساسة معلقة دون ضمانات واضحة. إن أي عدالة انتقالية فاعلة لا بد أن تستند إلى آليات قانونية محددة وإلى رؤية شاملة لمعالجة الإرث الثقيل للنظام السابق، بما يشمل كشف الحقائق، وإنصاف الضحايا، وإعادة بناء النسيج الاجتماعي على أسس جديدة تتجاوز عقلية الانتقام أو التسويات السياسية الشكلية.

التحدي الاقتصادي أيضاً ظل غامضاً في البيان. رغم الدعوة إلى تحفيز عجلة التنمية وتطوير القطاعات الإنتاجية، لم يطرح المؤتمر أي سياسات واضحة يمكن البناء عليها لتحقيق هذا الهدف. سورية تواجه اقتصاداً منهاراً وإعادة الإعمار لن تكون ممكنة دون رؤية اقتصادية مدروسة توازن بين الاستثمار الأجنبي والحفاظ على استقلالية القرار الوطني. هذه النقطة تحديداً تكشف عن الحاجة إلى مؤتمر اقتصادي موازٍ، يتعامل بجدية مع المسائل المالية والإنتاجية وآليات دعم الطبقات الفقيرة التي أنهكها النزاع.

بالنظر إلى ما سبق، تبدو الدعوة إلى رفع العقوبات الدولية واحدة من أكثر القضايا التي تحتاج إلى نقاش معمّق. فالبيان يطالب برفع العقوبات دون تقديم رؤية واضحة حول كيفية تحقيق ذلك في ظل التعقيدات السياسية والاقتصادية التي تحيط بالملف السوري. إن إنهاء العقوبات ليس قراراً يمكن فرضه بإرادة داخلية فقط، بل هو مرتبط بشروط يفرضها المجتمع الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة، تشمل الإصلاحات السياسية، والشفافية في إدارة الموارد، وضمان عدم إعادة إنتاج الفساد الذي كان أحد أسباب فرض العقوبات في المقام الأول. وفي غياب خطة اقتصادية متكاملة تواكب هذا المسعى، تبقى هذه المطالبة أقرب إلى الطرح النظري منها إلى المطلب القابل للتحقيق. لا شك أن السوريين يعانون من التداعيات الاقتصادية لهذه العقوبات، لكن فكّ العزلة الدولية لن يكون ممكناً دون تحولات جوهرية في طبيعة الحكم القادم لسورية في ظل تلميحات عن استئثار ناعم بالسلطة قد يغفل إعادة ثقة المجتمع الدولي بسورية الجديدة. ومع ذلك، فإن التركيز فقط على رفع العقوبات دون تقديم بدائل اقتصادية عملية قد يعزز من وهم أن الحل يكمن في انتظار قرارات الخارج، بينما المطلوب هو بناء اقتصاد متين قادر على الصمود والتعافي بغض النظر عن الضغوط الخارجية.

و من اللافت أن البيان لم يمنح الثقافة السورية دوراً مركزياً في عملية إعادة البناء، رغم أن سقوط نظام الاستبداد لا يعني فقط تغيير السلطة السياسية، بل يتطلب أيضاً تفكيك الرواسب الثقافية المتجذرة في الفكر والتي عززتها عقود من القمع. لعل المجتمع يعمل على إعادة صياغة هوية وطنية جديدة قائمة على قيم الحرية والتعددية والانفتاح. لقد أُهملت هذه المسألة في البيان، في حين أن معالجة آثار الاستبداد تحتاج إلى مشروع فكري يسير في نفس المضمار الزمني الراهن لاستراتيجية العمل الوطني، ويضمن ألا تتحول الدولة المستقبلية إلى مجرد نسخة جديدة من النظام السابق بأيديولوجيا حكام سورية الجدد، وإن كانوا بوجوه مختلفة.

رغم أن البيان قدم إطاراً عاماً يمكن البناء عليه، إلا أن غياب الجداول الزمنية وآليات التنفيذ الواضحة قد يحوّله إلى مجرد وثيقة سياسية غير ملزمة. سورية اليوم بحاجة إلى أكثر من بيانات حسن نية، فهي تحتاج إلى خطة عملية تتضمن خطوات واضحة وزمنية، تضمن تنفيذ الإصلاحات الكبرى، من إعادة بناء الدولة على أسس ديمقراطية، إلى تحقيق العدالة الانتقالية، وصولًا إلى إعادة صياغة ثقافة سياسية واجتماعية تواكب التحولات العميقة التي تمر بها البلاد. التحدي الآن ليس في طرح الأفكار، بل في كيفية تحويلها إلى سياسات واقعية يمكن تنفيذها على الأرض، وهو ما يظل غائباً في هذا البيان الذي، رغم طموحه، يبدو مفتقراً للأدوات التي تجعله قابلاً للتطبيق حسب ما جاء به.

مواضيع ذات صلة

هاني الراهب متلفعاً بالأخضر 

هاني الراهب متلفعاً بالأخضر 

إحدى وثلاثون سنة من الغياب مضت على انطفاء فارس السرد "هاني الراهب" ومازالت نصوصه تتوهج وتمارس سطوتها وحضورها الآسر على أجيال أتت من بعده تتقرى معانيه وتتلمس خطاه رغم التعتيم والتغييب الذي مورس بحقه على مر الزمن الماضي ومحاصرته في لقمه عيشه بسبب من آرائه ومواقفه،...

الواقعية النقدية لدى ياسين الحافظ

الواقعية النقدية لدى ياسين الحافظ

ياسين الحافظ كاتبٌ ومفكر سياسي سوري من الطراز الرفيع، يعدُّ من المؤسسين والمنظرين للتجربة الحزبية العربية. اشترك في العديد من الأحزاب القومية واليسارية، ويعدُّ الحافظ في طليعة المفكرين التقدميين في العالم العربي، اتسم فكره بالواقعية النقدية، تحت تأثير منشأه الجغرافي...

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

عبد السلام العجيلي: شيخ الأدباء وأيقونة الفرات

يمثل عبد السلام العجيلي ذاكرة تأسيسية في مدونة الأدب السوري، ذاكرة من من ذهب وضياء، ضمت في أعطافها عبق الماضي وأطياف الحاضر، امتازت بقدرته الفائقة في الجمع بين مفهومين متعارضين ظن الكثيرون أنه لا لقاء بينهما، ألا وهو استلهامه واحترامه للتراث وللإرث المعرفي المنقول عمن...

مواضيع أخرى

ظاهرة التكويع السورية على مستوى الأفراد والمنظمات

ظاهرة التكويع السورية على مستوى الأفراد والمنظمات

بعد سقوط الأسد المفاجئ عم ابتهاج لدى غالبية الشارع السوري بكافة أطيافه، حتى لدى من عرف بالموالاة وبعضهم ممن كان يعلن تأييده الكامل للنظام، ولهذا سرعان ما بدأ جرد حسابٍ للمواقف خلال أربعة عشر عاماً من الحرب السورية. وانبرى من يود سلب ليس المؤيدين فقط محاولة التعبير عن...

عمليات القتل المستهدفة للعلويين في الساحل السوري في ظل غياب أية مساءلة للحكومة الانتقالية 

عمليات القتل المستهدفة للعلويين في الساحل السوري في ظل غياب أية مساءلة للحكومة الانتقالية 

انتشرت في الأيام الأخيرة على عدة وسائل إعلام دولية تقارير مقلقة عن عمليات القتل الجماعي الممنهج والمتعمد في غرب سوريا، وهناك حديث عن أدلة متزايدة تُشير لوجود عنف طائفي واشتباكات بين مجموعة تشكلت حديثاً من المتمردين الموالين للأسد ومؤيدي الحكومة السورية المؤقتة. هناك...

اللاجئون السوريون وخطر الترحيل بسبب خطاب الكراهية!

اللاجئون السوريون وخطر الترحيل بسبب خطاب الكراهية!

مع تزايد التوترات في سوريا، لا سيما بعد المجازر التي وقعت في الساحل السوري، باتت الحكومات الأوروبية أكثر تشدداً في التعامل مع أي نشاط مرتبط بدعم العنف أو الإرهاب، سواء أكان ذلك على أرض الواقع أم عبر الفضاء الرقمي. هذا التوجه يعكس التزام أوروبا بتطبيق القوانين الدولية...

تدريباتنا